منذ أربع سنوات سمعت حسن الأسمر للمرة الأولى. في نهاية يوم عمل طويل كنت أركب الميكروباص، أو كما نطلق عليه في الإسكندرية المشروع، عندما اكتشفت أن بطارية الآيفون بحاجة إلى الشحن، ما يعني أنني سأترك نفسي نحو ساعة لذائقة سائق لن تحيد، في الغالب، عن الغناء الشعبي أو أم كلثوم، وكليهما لونين موسيقيين أقدرهما لكنني أحتاج بالًا رائقًا للاستمتاع بهما.
كان عملي يقع في منطقة سكنية تختلف كثيرًا عن تلك التي أسكن بها، ولم أكن أحبه كثيرًا، خاصةً مع الظروف التي اضطرتني، لاضطراب حالتي المادية وعدم امتلاكي سيارة، إلى قطع مشوارٍ يوميٍّ طويلٍ باستخدام مواصلتين أولهما ميكروباص على خط شارع أبو قير وثانيهما تاكسي حتى باب منزلي.
تعودت أن أدفع خمسة جنيهات للسائق لأحتل الكنبة الأمامية فلا يشاركني فيها أحد، وكان هذا يضطرني للانتظار أحيانًا حتى أجد مبتغاي؛ الميكروباص الحلم الذي لم يشغل أحد مقعديه الأماميين بعد، فأضع السماعات في أذني وأترك نفسي لموسيقاي المفضّلة؛ آلان والكر، مايلز دايفز، بينك فلويد، ليد زيبيلين، وأحيانًا مادونا، حتى تلك الليلة التي اضطررت فيها للسهر في عملي أكثر من المعتاد وغادرته ببطارية موبايل فارغة في وقت متأخر من الليل.
اتخذت مقعدي إلى جانب السائق وأنا أتوقع أمسية غنائية مع عبد الباسط حمودة أو رمضان البرنس أو كتكوت الأمير، أو مطربي الشجن والأحزان المفتعلة مثل هاني شاكر ومصطفى كامل، أو الكثير من جورج وسوف، لكن صوتًا صدح من كاسيت المشروع يقول سقيتني المُر في كاساتك.. وأنا اللي فاكره شرباتك.. أعملك إيه حيرتني.
https://www.youtube.com/embed/KIuAvwKFuec?controls=0لم أكن حتى ذلك الوقت أفهم سر انتشار الأغنية الشعبية أو التفاعل الشديد معها، لكنني فهمت يومها عندما سمعت أغنية سألوني مين لحسن الأسمر وأنا أعاني من موقف وقع عليَّ فيه ظلم شديد لم أستطع رده، وبدت عندها كل الكلمات المفتعلة المبالغ فيها حقيقية "تدوس على الجرح"؛ أنا اللي كلي جروح.. وم الزمن مجروح.. أنا الزمان هدني.. ولا حد بيودني.. ولما أقول آه.. فيه ناس تقول الله.
إلى جانبي، وفي قلب برودة الإسكندرية أثناء ساعات الليل المتأخرة، أخذ سائق الميكروباص يتمايل ويرقص متأوهًا، وكلما توجع حسن الأسمر بـ آهٍ أتبعها السائق بـ الله، ثم كان كوبليه أنا مين، أنا مين هو الشرارة التي تمايل الميكروباص بعدها مع حركة سائقه واحتجاج ركابه.
وصلت وجهتي وكلمات الأغنية ترن في أذنيَ. وفي منزلي، بحثت عن صاحبها، فلم أكن عرفت وقتها الواد الجن، لأجد حسن الأسمر بملامحه المعتادة؛ السمار الشديد، الوحمة على الجبهة، والعينين اللتين أثارتا اهتمامي بالذات. نظراته موحشة، يبدو غريبًا وسط عالم البشر، ربما لإدراكه عمق المعاناة قبلهم، ربما لأنه من استطاع التعبير عما يؤلمه بصورة فطرية مبالغ فيها دون خوف من الاتهام بالتطرف الشعوري أو المُحن.
هذا المطرب الذي يغني بلسان حال المصريين من أعماق قلبه جعلهم يرددون من خلاله وورائه ما يشبههم. ملامحه ليست محايدة، يمكن قولبتها للتعبير عن فئة محددة؛ يشبه كثيرًا رزق العجلاتي الذي أدى دوره في مسلسل أرابيسك؛ شاب من صُلب الطبقة العاملة، يحمل همومها ومرار حكاياتها على كتفيه، هو فقط ذلك الشاب الممزق بحلم الفن، والذي ربما حبه للفن هو ما أبقاه على قيد الحياة أكثر قليلًا من نصف قرن، حياة بدأها بحلم التمثيل في قصر الثقافة ثم انطلق مطربًا بعد أن اكتشفه منتج غنائي في أحد الأفراح الشعبية.
على الرغم من أغانيه التي تنضح بالمعاناة والألم، لم يبدُ الفتى الأسمر مهتمًا بالحديث عن آلامه، ربما فضَّل غناءها في مواويله لتشمل معها مشاعر الآخرين. في مسرحية باللو، يمزج حسن عمق المعاناة في صوته بالمزاح، خفة دمه المعهودة تظهر مع الراقصات الروسيات الفاتنات، ومن خلاله رأيت ابن البلد الذي أحببته وسمعته في معظم الميكروباصات التي ركبتها. لديه تلال من الهموم لكنه يسخر منها، يمزج الحزن بالضحك على حاله ويغني.
كثيرًا ما تعاطف سائقو الميكروباص معي كلما جلست إلى جانب أحدهم ممسكةً بزمزمية أديداس من بقايا أيام الرفاه، أو كلما ارتطم حذائي عالي الرقبة بالبورد الأمامي للسيارة. إلى أن باغتني سائق مرة، بعد أن ركبت سيارته لأجده يستمع لأغنية لا أعرفها لحسن الأسمر، بسؤال "عايزة حاجة معينة يا أبلة؟". كان سؤاله ودودًا بطريقة جعلتني لا أطلب منه مخاطبتي بلقب يلائمني أكثر من "أبلة"، بل أخبره بأن ذوقه يستهويني لتجلجل ضحكته قبل أن يرفع صوت المسجل ليحتل صوت حسن المشهد "مقفول عليا لوحدي باب.. من غير قرايب ولا أحباب".
لم يكن حسن الأسمر في التسعينيات مجرد مطرب شعبي، بل يمكننا أن نعتبره "تريند" قبل تريندات أحمد شيبة ومحمود الليثي ومن بعدهما نجوم المهرجانات حمو بيكا وعمر كمال وحسن شاكوش. غناؤه للمجروحين والموجوعين جعل المثقفين يستطعمون لونه الفني ويميلون إلى استخدامه للضرورات الدرامية أكثر من مرة كان أشهرها أرابيسك من تأليف أسامة أنور عكاشة ومسرحية باللو وفيلم بوابة إبليس مع مديحة كامل.
الاستعانة بمطرب شعبي في الأعمال السينمائية كان يحدث لضرورة تجارية بحتة في معظم الأحيان، لكن الكثير من المخرجين كانوا يرون في فارس الأغنية الشعبية ما هو أكثر من عنصر من عناصر التوليفة التجارية السينمائية الناجحة المعتادة التي تجدها اليوم مع محمود الليثي أو سعد الصغير لتتذكر الأغنية أكثر مما تتذكر الفيلم، أو تنسى ما كان يفعله المطرب في الفيلم.
لكن مع حسن الأسمر يختلف الأمر، فما زال المشهد الأيقوني من فيلم بوابة إبليس وهو يرتدي البدلة الجينز والباندانا الحمراء ويتأمل بعينيه الحساستين أبطال الفيلم من حوله، مديحة كامل ومحمود حميدة وعايدة عبد العزيز، قبل أن تنهض مديحة كامل لترقص وتعبّر بجسدها عن الألم الذي تنبض به كلمات الأغنية. لا يعمل صوت حسن الأسمر المكلوم كخلفية للجسد الراقص ولا يبدو مقحَمًا على الأحداث، بل محركًا أساسيًا لا يمكن أن تغفله عين المشاهد.
اختلف سائقو المشروع بأشكالهم ومراحلهم العمرية وأساليبهم في التعامل مع الزبائن، إلا أنهم جميعًا اجتمعوا على حب الغناء الذي يتلائم وشعورهم الدائم بالاضطهاد والإهمال والألم والمعاناة. كان المطرب يتأوه فيزداد تفاعل السائق مع الزحام أو الركاب المزعجين أو عكوسات الطرق أو الألم من الجلوس خلف عجلة القيادة لفترة طويلة. وهنا يأتي حسن بموسيقاه الساحرة التي تجعل من المعاناة مشهدًا راقصًا، تراه يرقص على أنغام أغنية ويلي الغارقة في الحزن، كلما استمعت إلى ألحان بعض أغانيه تخيلتها تصلح كخلفية لمشهد رقص زوزو في فرح أبناء الأكابر، متألمة، متأذية من التنمر والإهانة لوالدتها، إلا أنها لا تجد ما تعبر به عن ألمها أفضل من الرقص.
الغريب أن أغنية مثل كتاب حياتي يا عين التي لحنها حسن بنفسه تحت اسم حسن عبد العزيز وأخفى هوية هذا الملحن الحقيقية عن الجميع، تركت طابعها على جميع من غنوها وليس العكس، استمعت إلى covers للأغنية بأصوات جورج وسوف وعمر كمال وهاني، ابن حسن الأسمر، فكأنما روحه الحائرة الحزينة رغم ابتسامته تقمصتهم، لم يعد أيٌّ منهم عمر أو هاني أو أبو وديع، بل تلبسّت أجسادهم روح الحَسَن.
تعليقات المستمعين على فيسبوك ويوتيوب تترك أثرًا وكأن حسن توفي بالأمس لا من سبع سنوات عن عمر تجاوز الخمسين بسنةٍ واحدة. تشعر في حديثهم عنه بحميمية تستغربها، يتحدثون عنه باعتباره "المطرب بتاعهم" أو "عمهم" الذي فارق الحياة وانفصل عنهم بجسده تاركًا أثرًا بقي في أغانيه التي يستمعون إليها عبر فلاشة موضوعة في تابلوه التوك توك والميكروباص.
في اللقاءات الفنية القليلة التي أجراها حسن الأسمر، يبدو ملولًا مضطربًا قليل الكلام. يحاصره المذيعون بأسئلة عميقة عن أصل الفن الشعبي وموجاته، بينما يبحث هو بضجر عن إجابة يفسر بها فنه فلا يجد، كفنان ظهر حسن كمثال حي على الفنان الفطري الذي لا يُسأل عن إبداعه، ربما لأنه لا يجد إجابة شافية أو تبريرًا لما يفعل.
كان حسن قليل الحديث عن فنه؛ كلما سُئل عن أغنية أجاب بأريحية أن لا قصة وراءها، لكنه يغني الكلام من قلبه لذا تجده يصل قلب المستمع بسلاسة. في أحد اللقاءات تحدث عن تأثره بكوميديا نجيب الريحاني بالذات دونًا عن غيره من الكوميديانات، وليس هذا بغريب على من يمزج الضحك بالبكاء والسخرية المريرة من حالته حتى أثناء الحب.
يغني حسن لأنه ولد ليفعل ذلك، وأعجبني فيه هذا كما أعجبتني مسحة الشجن التي كانت تطغي على كورَس الفتيات الضاحكات، اللاتي يرددن خلفه أغنية شديدة الكآبة في سمة امتازت بها معظم الأغنيات الشعبية في تلك الحقبة. بحثت كثيرًا لأجد أغنيات من حفلات حيّة لحسن على المسرح حتى وجدت كتاب حياتي من حفلة خاصة، وعن جانبيه فتيات يرقصن بفساتين وتنانير قصيرة.
يتوحد الفنان مع كلمات أغنيته المثيرة للشجون وتختفي من على ملامحه شهوة الانبساط التي ظهرت مع اعتلائه المسرح إلى جانب الفتيات الجميلات.
https://www.youtube.com/embed/iW6LLVpTO-Q?controls=0لفت أحد الأصدقاء انتباهي إلى أهمية الأغنية الشعبية كوسيلة للاستقواء العاطفي والانساني، دون محاولة التمحُّك في العاطفة التي تشمل أي أغنية تربط رجلًا وامرأة ببعضهما بعضًا. في أغاني حسن، يُستخدَم التحدي كوسيلة لإعادة الكرّة والعودة إلى مساحة الشجن التي يجد فيها أمانه، يشبه في هذا معظم أبناء طبقته.
في إحدى رحلاتي كان سائق المشروع يستمع لأغنية متشكرين، وعندما بدأ كوبليه أنا وأنتم ياللي خنتم... والزمان بيني وبينكم.. أنا وأنتم ياللي خنتم... إن ما شفتوا الويل بعينكم، صاح السائق الذي كان مكفهر الوجه طوال الرحلة صيحة انتصار وبدأ وجهه يلين. فما هو السر في هذا الصوت وهذه الكلمات التي يمكن أن تُقال على أي لسان أو حنجرة لتختلف الطريقة التي يتلقى بها المستمع كلمات أغنية من هنا عن هناك؟
في رأيي هو الصدق. لماذا نتألم مع جورج وسوف؟ لماذا وقع الكثير من الأولاد في التسعينيات وما تلاها في غرام أغاني محمد محيي المفرطة في الكآبة والإحباط؟ هناك سر ما وراء هذه الأغاني الحزينة تجعلك أنت كمستمع تصدقها من حسن الأسمر ولا تصدقها من آخر.
شاهدت ليلى غفران تغني لعبد الحليم فلم أتحمل دقيقة، في حين إن شيرين عبد الوهاب غنت غريبة منسية بطريقة تختلف تمامًا عن رصانة وأناقة صوت نجاة التي تغني من وراء جرامافون وفي قصر فاره، شيرين تغني بعمق معاناتها وانتمائها بالميلاد للبيئة الشعبية لكنها تصدق ما تقوله، هي لا تردِّد فقط الكلمات وتحفظ الألحان. ربما هذا هو السبب أن غناء هاني الأسمر لأغاني والده يشبهه تمامًا صوتًا، لكنك لا تصدق أن غناءه وُلِد من رحم المعاناة عكس أبيه الذي على الرغم من غموض حياته السابقة للغناء إلا أنك تصدق كل لحظة حزن ينطق بها في أغنية أو موال من أغانيه.
مؤخرًا، شاهدت فنانة مصرية رقيقة تُدعى سهر الصايغ تعيد غناء سألوني مين بـ cover هادئ لا يتناسب ومدى المعاناة في الأغنية. لكنني استمتعت بأن فتاةً جميلة الطلة بملابس أنيقة تغني بلسان حال مطرب شعبي آتٍ من قاع المدينة؛ جعلتني التجربة أتساءل لو أن روائع حسن الأسمر أعيد تقديمها بأصوات مطربي البوب والرومانس الخفيف، كيف سيتقبلها الجمهور؟ ولماذا لا نجد محاولات كتلك التي قام بها المطرب الصاعد محمد الشرنوبي في تغيير شكل الأغنية ليصبح مهرجان مش هروح موالًا طربيًا أصيلًا؟ هل يمكن أن نجد أغاني حسن الأسمر، وهي جزء من التراث والميراث المصري الأصيل، على مسرح دار الأوبرا المصرية بتوزيع يتناسب وجمهور الأوبرا الرصين؟
كنت أدندن أنا اللي تايه أنا.. ويوم عذابي بسنة بصوت خفيض خلف حسن عندما سألني السائق "حضرتك بتحبي حسن الأسمر يا أستاذة؟ بس ده قديم قوي عليكي". لم يتجاوز هو نفسه الأربعين سوى بقليل، أي أن ما يفصلنا هو عقد من التجارب لم يمنعني من الشعور بأنني تذوقت معه ما يتذوق عندما اندمجت مع ما يسمع، وذكَّرني ذلك بموقف مشابه لسائق آخر رفض أن يتقاضى مني أجرة للكرسي الزائد بعد أن دندنت مع غناء جورج وسوف لأغنية "قال إيه بيسألوني" فأعادها لي في نهاية الرحلة وهو يبتسم "عشان حضرتك سميعة".
ترك حسن الدنيا صغيرًا، لا أحب أن أتخيل أنه عاشها حزين وسابها حزين، بل أراه كما وصفه ابنه المطرب الواعد هاني كأب مثالي ورب أسرة عرف الدفء والحب الحقيقي في حياته. ربما هي آلام الماضي التي كان يطلقها كذئب معذَّب في أغانيه ثم يعود إلى منزله فيغلق الباب ليتحول حسن الفنان إلى رجل عادي. لكنني لا أستطيع من نفسي من التفكير في كل هؤلاء العباقرة الذين ماتوا مبكرًا؛ موزارت وريفر فينكس وسيد درويش ومارلين مونرو وحسن الأسمر وأحمد زكي وكيرت كوبين وسعاد حسني وشادي عبد السلام، هل كانت أرواحهم القلقة أكبر من أن تحتملها هذه الدنيا؟ هل استنفدوا رصيد الحياة بسرعة أكبر، توازي نبوغهم المبهر الذي أحرق أعين كل من حولهم؟