أحسبُ أنَّ كثيرين غيري شعروا بتلك الوَخزة الحُلوة بمجرد أن شاهدوا إعلان شريهان في اليوم الأوّل مِن شَهر رمضان الحالي، يقطع بذلك عدد معقول مِن تعليقات مَن أعرفهم في فيسبوك على الأقل. هي وَخزة لأنها صَدمة خفيفة كأنَّ شخصًا كنّا فقدنا الأمل فيه يرجع فجأة، أو كأننا عدنا أطفالًا لكننا مضطرون لأن نرى أنفسنا بعد أن تقدّمت بنا السن.
وخزة لأنَّ فيها شيئًا مُربكًا وغريبًا لا يمكن تحديده. لكنها حلوة، رغم ذلك، لأنَّ نشوة النوستالجيا لا تفقد زَخمها مهما تكررت مع مرّ السنين، فقط تزداد حلاوة وتخمّرًا ولذوعة، حُلوة لأننا رأينا في شريهان أنفسنا، رأينا صورتين لنا امتزجتا معًا في ذلك المذاق الحُلو اللاذع، صورتنا ونحن أطفال وصورتنا الآن، وكأنَّ ما بينهما كان مجرد حُلم قيلولة في نهارٍ حار.
طبعًا كانت هناك ردود أفعال سلبية على الإعلان. هذه طبيعة الأمور مِن قديم الأزل، لكنها تتحوّل مع ساحات السوشيال ميديا إلى ما يشبه التحزّب والانقسامات والتكتلات، ما قد يصل إلى الخصومة الفعلية في الواقع العادي والافتراضي. كل ذلك جدل متوقّع ومألوف وبعضه حميد، لكنه لم ينتقص مِن أثر مشاهدة إطلالة شريهان مِن جديد، وهي ترقص وتغني، ولو لدقائق معدودة، بعد كل تلك السنوات التي مرّت وفُقدَ خلالها أمل عودتها لأسباب صحية أو غيرها. لم ينتقص من تلك الوخزة الحلوة المرتبطة بذكريات طفولتنا وأوّل شبابنا، خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.
لُعبة النوستالجيا التي أدرك صنَّاع الإعلانات التجارية، على مدى السنوات القليلة الماضية، أنها نقطة ضعف أساسية لدى المُستهلك والمشاهِد المصري (لستُ متأكدًا بشأن قيمة النوستالجيا في دولٍ عربية أو أجنبية أخرى)، فأصحبت، تلك الشركات، تتبارى في الاستعانة بوجوه ولحظات وموسيقى وأغنيات وأعمال فنية تغازل تلك النوستالجيا وتعززها وتضعها في أطر جديدة، مع إضفاء بعض العناية بقيم أصيلة مِثل تماسك الأُسرة أو التواصل بين الناس والجيران، إلى آخره. بل إنَّ بعض الفِرق الموسيقية المُستقلّة، البعيدة إلى حدٍ كبير عن الإنتاج التجاري واسع النطاق، قدَّمت لتلك الشركات في السنوات القليلة الأخيرة، أغنياتٍ ذات صبغة تفاؤلية، وانتهت مدة عرض الإعلان بانتهاء العرض الموسمي وبقيت تلك الأغنيات تجذب الباحثين عن أغنيات محفزة على الحياة وتجاوز الصعاب، وهي قليلة العدد مقارنة بموضوعات العواطف والغراميات بجميع تنويعاتها.
إذن تبقى الرسالة القيمية أو الوجدانية لبعض الإعلانات بعد زوال سببها الدعائي المباشر والمؤقت، بل أحيانًا لا يكاد يُلتفت إلى المُعلَن عنه أو الشَركة المعلِنة حتى في أثناء عرض الإعلان نفسه. ولعلَّ هذا ما حدث مع إعلان شريهان، الذي أعادها للسَمع والبصر، كأنه يقول لنا جميعًا إنها بعد أن مرَّت بمحن كثيرة لم تزل حيّة وقادرة على اللعب الفني والعطاء، ويُذكرنا في الحين نفسه بأنَّنا نحنُ أيضًا، خصوصًا أولئك الذين شهدوا ذروة تألقها في الثمانينيات والتسعينيات. لم نزل أحياءً، رغم كل ما مررنا بها، مِن محن عامة أو شخصية، وأحداث سياسية هزّتنا بقدر ما هزّت البلد كله والأجيال الأحدث منا، لم نستطع بعد أن نستوعبها ونهضمها ونتأمل دروسها حتَّى داهمتنا جميعًا جائحة لا ندري متى تنقشع. باختصار عندما تقول شريهان في إعلانها "إحنا القلب اللي طاير، متشعبط ف الحياة" فهي بقدر ما تعبّر عن تجربتها ونفسها تعبر عن كثيرين غيرها، آلاف؟ ملايين؟ ضعضعتهم الدُنيا، ومازالوا متشبثين بالحياة، بكل طريقة مُمكنة.
مِن بين أمارات التشبث بالحياة الاحتفاء بتَعاقُب الدورات الزمنية، مثل تبدُّل الفصول، أو انتهاء موسم دراسي وبداية إجازة صيف، وبالطبع شهر رمضان والأعياد والإجازات السنوية. ففي هذا كل ما يُوهم بأن ثمّة ما يحدث، رغم الثبات والتكرار ودوامات السَير في المحل التي تأكل الأعمار. ومع كل تكرار ينهض الطقس الثابت المتكرر بدور داعم لتعاقُب المناسبات، فرصة الإنسان للإسهام في المناسبات الزمنية المختلفة، سواء ابتعدَ الطقس أو اقترب مِن مرمى الدِين والحياة الروحية للإنسان.
هناك قائمة طويلة مِن الممارسات والسلوكيات والتراث المنقول يدًا بيد وجيلًا بعد جيل، ترتبط جميعها بزَمن محدد هو شهر رمضان، زينة الشوارع والفوانيس وقرآن وتواشيح ساعة المغرب وموائد الإفطار في الشوارع ومدفع الإفطار، وسلسلة طويلة مِن البرامج والمسلسلات والأعمال الفنية التي شكَّلت في ذاكرتنا الشهرَ المميز ورسمت ملامحه وأعطته صورة وصوتًا وتاريخًا وجدانيًا لا يتزعزع. كأنَّ الفَن وسيلة ابن آدم لتزيين وحداته الزمنية تمامًا كما يزين العيال الحارات في رمضان، وكأنَّ الفَن أيضًا استطاع أن يشدَّ الشهرَ ذا الطبيعة الدينية والروحية الواضحة إلى منطقته الخاصة، ليصنع منه شيئًا آخَر، تُحفته الخاصة، ربما منذ أن بدأ أوَّل مسحراتي يخرج بطبلته، مِن بعد انتصاف الليل، وسط الشوارع والطرقات المظلمة ليوقظ النائمين للسحور، وحتَّى تُحفة فؤاد حدَّاد التي حوَّلها الشيخ مكاوي بلحنه وصوته إلى أيقونة رمضانية دامغة.
وإذا اقتصرَ المنتَج الرمضاني الرهن على سباق لاهث إلى إنتاج مسلسلات تعرض خلال رمضان لأول مرة، ثم يعاد عرضها مرارًا بقية العام. وإذا انكمشت مساحة الفُرجة والاستعراض والفوازير وبرامج المسابقات بين الفنانين الظريفة على طريقة بدون كلام وغيره ، لصالح ربما برامج المقالب والاشتغالات التي تصل لحدود الإساءة المدبرة والمهينة، فلا يبقى أمام جيلٍ بعينه، هو نفسه جيل شريهان أو على الأقل مَن كانوا شهودًا على صعودها وتألقها الفني سنة بعد أخرى، لا يبقى أمام هؤلاء غير النوستالجيا لاستعادة أنفاس رمضان، وبالطبع التشبث بالطقوس.
في كل تكرارٍ للطقس إعادة بناء للألفة وتثبيت لها، ولا يهم كثيرًا إن استمدَّ الطقس شرعيته وقوته مِن فضاء ديني أو عُرف اجتماعي أو حتى عادة شخصية. المسألة أقرب إلى إحساس الديچا ڨو- Déjà vu، وهو شعور يساور المرء فجأة بلا مبرر منطقي بأنَّه قد سبقَ له أن عاش هذه التجربة أو اللحظة المحددة مِن قبل. لعلَّ تكرار الطقس هو نوع مُصطنَع مِن الديچا ڨو، فهذه هي العائلة تجتمع حول مائدة الإفطار، وهؤلاء هم أصدقاء العُمر يلتقون على المقهى بعد الإفطار والتراويح، وها هو ذا عَم فُلان المسحراتي يمر ولو تغير اسمه وشكله وهيئته ولو مرَّ بينما جميع العالم مستيقظ وصاح وهائج. يرحل البعض ويفد أعضاء جدد، تتفكك شِلل وتتكوّن أخرى، تُباع بيوت وتُشتَرى شقق، لا يهم ذلك كله، المهم أن يتواصل الطقس، بقوته الذاتية تقريبًا، وبقوة الإيمان به بالطبع، وكلٌ منهما تُغذّي الأخرى، فكلما تكرر الطقس زادَ إيماننا به والعكس صحيح.
عبرَ الطقس نتجدَّد، ونخدع أنفسنا بالبقاء كما نحن، لقد كنّا هنا مِن قبل، وسوف نرجع إلى هنا من جديد. نقطة زمنية تؤوينا بداخلها كلما عادت، لتمنحنا وهم البقاء والاستمرار والبدء مِن جديد.
لكن يبقى شيء ما مفقود، رغم الجهود والمحاولات، فقد انطوت صفحة الأصل وخطف الزمن الإحساس القديم وابتلعه ولن يستعادَ بعد ذلك أبدًا. شيءٌ ما في وجه شريهان وفي حركة جسدها أسرَّ لنا بذلك، ذكَّرنا بأوجاع ظَهر اعتدنا عليها، وتجاعيد جنب الفم وفي ركن العينين، وشَعر ابيضّ، وربما أيضًا بصديق سافر خارج مصر ولا ينوي الرجوع، أو آخَر سجين ولا نعرف له تُهمة واضحة أو متى سيخرج، أو بصديقة ماتت بسبب وباء الكورونا، وآخرين غيرهم ابتعدوا واختفوا بلا أسباب مفهومة.
لذلك نتألَّم بينما تقشعر جلودنا لمرأى وجوهنا القديمة مرسومة على وجه شريهان، لذلك نتذوق الحلاوة المريرة في ريقنا حين نفاجأ بالمسافة التي قطعناها وبما خلَّفنا وراءنا، وبما نسينا أو أٌنسينا رغمًا عنا. نبتسم عاجزين، لأنه لا توجد عصًا سحرية يمكنها أن تمحو ذلك كله في لمح البصر، وتعيد إلينا الحماس والبهجة والرغبة في التغيير، كل ذلك بكامل طاقته القديمة، ولو مِن عشر سنين فقط وليس عشرين. لذلك كله فإنَّ القلب الطائر سيبقى طائرًا، متشبثًا بالحياة، إلى أن يكلّ ويضعف جناحاه فيحط على غصن قريب ليتأمل غروبه الأخير.