هناك أغنية كامنة في كل شيء يحيط بنا، وإن لم نعد قادرين على سماعها.
كان الموبايل الـblackberry أحد أكثر رموز المكانة المرغوبة لسنوات، حتى دفعه آيفون إلى هاوية النسيان. أما إير جوردان، فكان ظهوره حدثًا، لكن في الأخير ظلّ مجرد حذاء كرة سلّة جميل. Tetris، لعبة الفيديو من الثمانينيات برسوماتها الجرافيكية البسيطة، كانت قادرة على شلّ مكاتب بأكملها لأن الجميع يفضّل فرز كتل اللعبة بدلاً من أداء وظيفته.
حتى الدمية باربي كان له تاريخها المجيد: أول دمية للفتيات تبدو كشخص بالغ، وترتدي ملابس البالغين، ولديها شخصية بالغة، وكانت مُعجبة بشخص بالغ. حتى اتضح لنا أنها كانت تروّج لصورة جسد زائفة، ونزعة استهلاكية مستهترة، وتفوّق أبيض، وموضة جوفاء، ويجب أن نعطي بناتنا دُمى أكثر واقعية وصوابية.
لسوء الحظ، لا أحد يستفيد من الإلغاء التدريجي للأساطير وهالتها. فإلى أي مدى يمكن أن تصبح الحياة ملائمة للعيش وحاملة للمعنى عندما يصير الحذاء مجرد حذاء، ولعبة الفيديو مجرد لعبة فيديو، والدمية مجرد دمية، ويُلغى الموبايل بمجرد أن يُطرح نموذج أكثر قوة في السوق؟ نزع السحر من العالم، أو ربما خيبة الأمل فيه، بسبب منطق التاريخ وتقدّمه المستمر إلى الأمام، يفضي إلى ما يشبه رصانة مملّة حدّ أن المرء تنتابه أحيانًا نوستالجيا لا فكاك منها، فيتوق إلى أوهام جديدة.
وهذا بالضبط ما نحتاجه من الفنّ أحيانًا: أن ينشد لنا الأغاني الكامنة في الأشياء ويزيل آثار الزمن عن تجارب وخبرات وأحداث عشناها في زمن يبدو الآن أكثر خِفة وأهون احتمالًا.
المال يتحدث
صناعة السينما تفعل ذلك بالضبط. كما لو أن ستوديوهات هوليوود الكبرى اتفقت على هجمة فيتيشية مشتركة، فإذا بها الآن تروي فجأة قصصًا عن الجاذبية التي لا تقاوم لمنتجات وبضائع، أو حملات تسويقية محفوفة بالمخاطر، أو صعود مفاجئ لأجهزة، أو نجاح ألعاب فيديو.
في فيلم Air، تأخذ هذه العملية بُعدًا أسطوريًا. في أحد المشاهد، نرى ثلاثة رجال في منتصف العمر من شركة نايكي يتحلّقون حول النموذج الأولّي لحذاء رياضي جديد، وينظرون إليه كما لو كانوا ملوكًا مشرقيين يجلسون أمام مزود المسيح المخلّص.
في الفيلم، يخبرنا مات ديمون كيف أن سوني فاكارو، الذي عيّنته شركة نايكي في العام 1984 للتوقيع مع مواهب واعدة في كرة السلة للقيام بحملات إعلانية للشركة، وضع نصب عينيه مايكل جوردان، الذي كان لاعبًا مبتدئًا واعدًا في ذلك الوقت، ولكنه امتلك الثقة الكافية للإصرار على مقابل مالي فاحش وسيارة مرسيدس للتوقيع مع نايكي. والأهم أنه امتلك أمًّا لا تلين عزيمتها وتعرف جيدًا قيمة موهبة ابنها الهائلة.
بعد ماراثون من الجدالات والكرّ والفرّ، في النهاية، يفوز المدير التسويقي العنيد والمُقنِع، لا لرغبته في إتمام الصفقة فحسب، وإنما لأنه آمن بقدرات جوردان ورأى فيه ما لم يره الآخرون. ومقابل إيمانه، يقنع رؤساءه بالموافقة على طلب لاعب السلة بتحصيله نسبة من الأرباح عن كل حذاء يُباع. وهكذا وُلد "إير جوردان"، حذاء كرة السلة الأكثر مبيعًا في العالم، بأرباح فاقت 126 مليون دولار في عامه الأول، ولا يزال يُباع بكثافة حتى يومنا هذا. صار مُنتَجًا شعبيًا ومحبوبًا، ولذلك لن يضرّ إذ حدّثنا صورته اليوم.. هكذا تفكّر هوليوود.
لذا فـAir، في الحقيقة، سيرة ذاتية لحذاء، أو لكي نكون أكثر دقة، فيلم روائي طويل عن الحملة التسويقية لذلك الحذاء. العنوان الرئيسي: توقيع العقد. في دور البطولة: موظّف ذو وزن زائد من الإدارة الوسطى، يستنفد إبداعه في إزعاج رؤسائه بإصرار حتى يملّوا ويفعلوا ما يشاء، وهو إنفاق ميزانية الحملة الإعلانية على لاعبٍ واحد بدلًا من ثلاثة.
حتى وقتٍ ليس ببعيد، كان أبطال السير الذاتية في السينما مناضلين في مجال الحقوق المدنية أو نجوم موسيقى الروك. وكانت هذه الأفلام تدور حول الحرية وتحقيق الذات والقيم العليا المماثلة. الآن يتعلق الأمر بالفوز بعرضٍ تقديمي، ووضع اللمسات الأخيرة على الصفقات، وإنجاز المهمّة على أكمل وجه بحيث لا تذهب إلى منافسك.
حتى في فيلم Tetris الذي يدور حول لعبة الفيديو الأسطورية التي سلبت الكثير من الوقت على أجهزة الكمبيوتر في ثمانينيات القرن الماضي، كما فعل لاحقًا تمرير الأيدي والمؤشرات عبر انستجرام وتويتر، البطل الرئيسي ليس مطوّرها الروسي أليكسي باشتنوف، بل الهولندي الأمريكي هِنك روجرز، الذي أراد الحصول على حقوق اللعبة لصالح شركة Nintendo.
وهذا مشروع طموح تمامًا، إذا كان عليك، في سبيل إتمامه، مواجهة البيروقراطية السوفييتية وزمنٍ عصيب تتداعى فيه الشيوعية؛ ولكنه، في الأخير، يبقى مجرد صفقة لا تخرج عن حسابات الربح والخسارة والفرص المقتنصة. حتى إذا قال صائد الحقوق في الفيلم جملة مثل "كان أجمل شيء رأيته على الإطلاق. لعبت Tetris لخمس دقائق وما زلتُ أرى الكتل المتساقطة في أحلامي" يبقى الأمر مجرد صفقة.
إنها النوستالجيا!
ثم هناك blackberry، الذي بدأت عروضه القاهرية مؤخرًا، وهو سيرة ذاتية سينمائية عن الموبايل الذي كان مقياسًا لكل الأشياء قبل دخول شركة آبل على الخطّ وهاتفها الثوري آيفون. للمفارقة أيضًا، لا يحتفي الفيلم بالرؤية التقنية الجريئة لاختراع موبايل يتيح لمستخدمه مطالعة بريده الإلكتروني أثناء التنقل، بقدر ما يحتفي بروح المغامرة وريادة الأعمال التي حملت المستثمرين على الاستثمار في ما بدا لهم في البداية مجرد أفكار مبتذلة خارجة من عقل أشخاص غريبي الأطوار.
ينضم رائدا الأعمال، المبتكر مايك لازاريديس ورجل الأعمال الذي لا يرحم جيم بالسيلي، إلى شركة كندية ستحقق نجاحًا عالميًا خلال ما يزيد قليلًا عن عقد من الزمان. كان الجهاز الذي اخترعه أحدهما وباعه الآخر، موبايلًا ثوريًا غيّر طريقة عمل العالم ولعبه وتواصله. ولكن بمجرد أن وصلت الشركة الكندية إلى آفاق جديدة، بدأت في الأثناء تضيع في ضباب حروب الهواتف الذكية، والتردد الإداري، والمشتّتات الخارجية.
وفي جعبة العام الحالي أيضًا ثمة فيلم بعنوان Flamin' Hot من إخراج الممثلة إيفا لونجوريا، حول اختراع العلامة التجارية للوجبات الخفيفة "فلامن هوت تشيتوس" من قبل ريتشارد مونتانيز، وهو ابن مهاجر مكسيكي، كان بوّابًا في شركة أمريكية كبرى تقوم بتصنيع وتسويق وبيع رقائق الذرة والبطاطس وغيرها، عندما خطرت له فكرة المنتج الجديد في أواخر الثمانينيات.
وهناك أيضًا الفيلم الروائي Unfrosted: The Pop-Tart Story، من إخراج الممثل الكوميدي جيري ساينفيلد وإنتاج نتفليكس، حول المنافسة التجارية التي شهدتها أمريكا في ستينيات القرن الماضي بين شركتي كيلوجز وبوست لاختراع فطيرة محمّصة سابقة التجهيز ستغيّر وجبة إفطار العائلة الأمريكية إلى الأبد.
وبالطبع هناك باربي، الفيلم المنتظر هذا الصيف للمخرجة والممثلة جريتا جرويج . تعدُ المقاطع الدعائية للأخير بعمل مليء بالألوان ومفعم بالحيوية يقدّم الدمية الشهيرة، التي يكرهها النسويات والآباء الجادّون، باعتبارها بطلة غير متوافقة مع معايير التمكين النسائي؛ ومن المؤكد أن المتعة ستحضر في الفيلم بالنظر لسوابق أعمال المخرجة الأمريكية المحبوبة.
https://www.youtube.com/watch?v=DmNDddKcA2s
ولا يزال في دور العرض حتى الآن فيلم الشقيقان سوبر ماريو، الذي يرسل السبّاك ماريو وشقيقه لويجي من لعبة الفيديو الأسطورية عبر مملكة الفطر لإنقاذ الأميرة خوخة من ملاحقات الشرير باوزر. لا يستهدف "سوبر ماريو" الأطفال فحسب، وإنما أيضًا آبائهم، الذين لعبوا "ماريو" وتغمرهم مشاعر السعادة عندما يتم تذكيرهم ببراءة طفولتهم، في زمنٍ كانت فكرتهم عن المصاعب يجسّدها التنافس ضد كرات اللهب والقنابل الطائرة وليس ضد مديريهم المتطلّبين أو ظروف الحياة المتقلّبة أو معدلات التضخّم المتزايد.
وهذا رهان أثبت نجاحه، أقلّه من الناحية التجارية، فحتى الآن حقق الفيلم أفضل أداء في شبّاك التذاكر العالمي لعام 2023، كما أصبح ثالث أكثر فيلم رسوم متحركة حصدًا للإيرادات في التاريخ.
المنتجات كضمادات عاطفية
ما تشترك فيه كلّ تلك الأفلام هو اتفاقها الضمني مع الرأسمالية، أو الرأسمالية الإباحية بالأحرى. منطقها بسيط وفعّال: إذا كانت منتجاتها/موضوعاتها الرأسمالية، من وجبات خفيفة وألعاب وأحذية وأدوات، مسلّية ورائعة، فيمكن للمرء أن يتغاضى عن تجلّياتها المزعجة والمنفّرة. الاستهلاكية، النفايات البلاستيكية، ظروف العمل في المصانع المستغلّة للعمال في الاقتصاد المعولم، الجنون المتأصّل في فكرة أن الحذاء الذي تنتعله يمثّل وعدًا بالسعادة.. لا شيء من هذا كلّه يؤتى على ذكره في أفلام المنتجات الجديدة.
ولَّت الأيام التي استمتعت فيها صناعة السينما والترفيه السائدين بتقديم مصرفيِّ وول ستريت الجشعين، ومنتجي التبغ والأدوية المهدّدين للحياة، ورؤساء مجالس الإدارة الأغبياء أو الفنّانين المحتالين. الآن، في خضم تضخّم عالمي وشامل، عادت الرأسمالية طيّبة وجميلة مرة أخرى. لأن بضائعها ومنتجاتها صارت ضمادات عاطفية تهدهد آلام وصرخات جيلٍ صار عجوزًا قبل أوانه.
ربما هذا هو سبب الهجمة المتزامنة لظهور كل أفلام المنتجات والبضائع الجديدة. لقد فهم صانعوها أننا، الجمهور، لسنا بحاجة إلى إلهام الأبطال الذين تغنّينا وتتبّعنا سيرهم الذاتية بقدر ما اعتقدنا دائمًا.
في الأخير، كيف يمكننا أصلًا، نحن اليائسين الباحثين عن عزاء في الماضي، أن نصبح مثل مارتن لوثر كينج، أو ماريا كالاس، أو ستيف جوبز؟ ما يساعدنا حقًا هو عزاءات الأشياء؛ سعادة ارتداء الحذاء الذي أنفقت عليه الكثير من المال، والسلوان الذي تجده بمجرد أن تلعب Tetris أو ماريو، والتفاخر بامتلاكك أحدث موبايل.
بالنسبة لصناعة السينما، التي أصبحت تتجنّب المخاطر بشكل متزايد على مرّ السنين، فهذه نعمة بالتأكيد. إذا أنجزت فيلمًا عن سلعة يعرفها الجميع، فأنت متيقّن مسبقًا أنك ستجد جمهورًا؛ يمكنك توفير حملات تسويقية مكلفة، وستستفيد من سحرٍ مجاني لست مضطرًا لصناعته بنفسك. ربما في القريب نرى فيلمًا عن إندومي. من يدري!