في صباح الأربعاء 15 يناير/كانون الثاني من السنة الماضية، وقع حادث مروع في المنيا، راح ضحيته ثلاث طبيبات شابات وسائق ميكروباص ومساعده وأصيبت 11 طبيبة أخرى، جميعهن في منتصف العقد الثاني من العمر وبداية مشوارهنّ المهني، وذلك بعد أن اضطررن للتوجه فجرًا إلى القاهرة تنفيذًا لتعليمات إدارية للالتحاق بدورة تدريبية مفاجئة، وهو الحادث نفسه الذي لا يستطيع 18 طبيبًا آخرين من المنيا صرفه عن أذهانهم، بعد استدعائهم مطلع الأسبوع الجاري، دون خطة واضحة أو مراعاة لوظائفهم أو ظروفهم الشخصية، للسفر إلى سوهاج والانضمام إلى بعض مستشفيات العزل هناك.
فجر السبت الماضي، 24 أبريل/ نيسان الجاري، فوجئ 18 طبيبًا من برنامج الزمالة المصرية المتدربون بمستشفيي المنيا الجامعي والمنيا للتأمين الصحي، بصدور قرار بإخلاء طرفهم من برنامج التدريب للقيام بمأمورية عمل بمحافظة سوهاج لمدة شهر، بداية من تاريخ القرار الصادر دون علمهم في 24 إبريل/نيسان الجاري، بحسب مصدر طبي ببرنامج الزمالة بمحافظة المنيا تحدثت إليه المنصة.
يوضح المصدر، الذي فضَّل عدم نشر اسمه، أن الأطباء الثمانية عشر بينهم أربعة أطباء وطبيبة واحدة ملحقين بمستشفى المنيا الجامعي للتدريب في تخصص التخدير و الرعاية الجراحية المركزة، وطبيبان وأربع طبيبات ملحقون بمستشفى المنيا للتأمين الصحي بقسم التخدير و الرعاية الجراحية المركزة، بالإضافة إلى خمسة أطباء و طبيبتان ملحقون للتدريب بقسم الباطنة العامة بالمستشفى نفسه.
لكن هؤلاء الأطباء يرفضون حتى الآن الامتثال لتنفيذ القرار، الذي يعتبرونه متعنتًا بحقهم، ولا يراعي ظروفهم الشخصية ويعرِّض ذويهم للخطر، كما يضر في الوقت نفسه بمصلحة المرضى من المواطنين في مستشفيي المنيا المخصصان للعزل اللذان يفتقران كليًا إلى تخصصاتهم، بحسب تصريحات بعضهم إلى المنصة.
وتفاقمت أزمة كورونا في سوهاج مع بداية الموجة الثالثة للفيروس، إلى درجة دفعت عددًا من الأطباء والمواطنين إلى المطالبة بفرض حظر تجول وإجراءات استثنائية لوقف الانتشار الوبائي لكوفيد-19، فيما انتقد نقيب أطباء المحافظة الدكتور محمود فهمي، عدم إعلان الأعداد الرسمية للإصابات، التي يقدرها بـ250 حالة يوميًا، لا يمكن لمستشفيات العزل بالمحافظة استيعابها، بعد وصولها للسعة القصوى.
من اجتماع سريع إلى شهر بالإجبار
البداية كما يحكيها أحد الأطباء، الذين تتحفظ المنصة على ذكر أسمائهم حفاظًا على أمنهم الوظيفي، كانت باتصال "ودي" في الثانية من صباح السبت الماضي من إدارة مستشفى التأمين الصحي بالمنيا يخطره بأنه وزملاءه بالزمالة مدعوون لاجتماع مع قيادات وزارة الصحة بسوهاج، لكن وصف "الرحلة" إلى سوهاج تغيَّر إلى مأمورية لمدة شهر، حسبما أُخطِر عندما ذهب لممارسة عمله صباح اليوم نفسه.
ويستكمل الطبيب "كُلفنا بالاستعداد للسفر خلال ساعتين، وفي حوالي السابعة من مساء اليوم نفسه، وضعت منسقة الزمالة على جروب واتساب الخاص بالأطباء منشورًا موقعًا منها ومن وكيل وزارة الصحة بالمنيا، موجه إلى مدير المستشفى بتكليفنا بمأمورية عمل لشهر كامل بمحافظة سوهاج، وأن السفر إلى هناك سيكون بأتوبيس يتحرك من أمام مديرية الصحة بالمنيا في الخامسة مساءً، أي قبل ساعتين من تاريخ وضع المنشور على الجروب".
الأطباء الذين لم يخطروا فعليًا بدعوى السفر أو موعده إلى سوهاج، وفوتوا وسيلة نقلهم، ذهبوا في اليوم التالي لمباشرة أعمالهم بشكل طبيعي داخل مستشفى التأمين الصحي بالمنيا، لكنهم فوجئوا بحسب تأكيدهم للمنصة بعدم وجود دفتر الحضور والانصراف "وعندما طالبنا بالتوقيع قال لنا الموظف بالحرف"المدير مخبيه"، فقمنا بالتوجه إلى نقطة شرطة المستشفى لعمل محضر بإثبات حضورنا للعمل لكنها امتنعت عن ذلك فذهبنا لقسم الشرطة، الذي تواصل مأموره مع وكيل وزارة الصحة الذي طالبنا بالذهاب إليه".
ويوضح الطبيب للمنصة أنهم قابلوا وكيل الوزارة بالمحافظة، الدكتور محمد نادي سيد، الذي سألهم عن سبب اعتراضهم على السفر، وكأنهم امتنعوا فعليًا عن ذلك وليس أنهم لم يعرفوا بموعد السفر بعد تاريخه بساعتين، يقول الطبيب "رغم ذلك أخبرناه أننا نرفض العمل في مستشفى عزل آخر في سوهاج لأننا نعمل فعلا في مستشفى للعزل في المنيا، بالإضافة إلى وجود طبيبات حوامل ضمن المجموعة وأمهات تعلن أطفالًا".
ويضف الطبيب "فوجئنا برد وكيل الوزارة الذي قال لنا "الطبيبات الحوامل لما يروحوا سوهاج يبقوا يودوهم مستشفيات عادي مش مستشفى عزل، ويستبدلوا أطباء مكانهم، والأمهات تاخد أطفالها معاها سوهاج".
يؤكد الطبيب للمنصة أن أسباب رفضهم مغادرة المنيا، ليس هروبًا من المسؤولية أو خوفًا من الإصابة بكورونا، فهم بالفعل يعملون من ثلاثة إلى أربعة أيام على مدار الأربع وعشرين ساعة في مستشفى للعزل بالمنيا، لكن أهلهم جميعًا في المنيا وكذلك أطفالهم فكيف يتركوهم ويسافرون لمدة شهر دون داعٍ حقيقي.
طبيب آخر يوضح للمنصة أن "مستشفى المنيا للتأمين الصحي كلها شغالة عزل، وقسم العناية فيه 12 سرير والقسم الداخلي زودوه إلى 60 سرير لأن الإصابات زادت، ولما قولنا لوكيل الوزارة إن المستشفى كده هتقع لما نمشي ومفيش عدد كافي من الأطباء، كان رده نصًا "ده شيء ميخصنيش، الوزيرة هي المسؤلة تبقى تجيب غيركم".
هنا خيَّم على الأطباء شبح حادث طبيبات المنيا الذي وقع السنة الماضية في ظروف مشابهة من عدم الترتيب والتخبط والتعنت الإداري، وحين واجهوا وكيل الصحة بمخاوفهم، يذكر طبيب ثالث متدرب بمستشفى المنيا الجامعي "بقول له إحنا كدنا هنركب ميكروباص زيهم، فرد وكيل الوزارة ساخرًا "خلاص ياعم هنجيبلك أتوبيس مش ميكروباص علشان متزعلش و تتأزم نفسيًا".
ويضيف الطبيب أن وكيل الصحة اختتم لقاءه معهم بالتهديد "اللي مش هيسافر هاخد ضده الإجراءات القانونية".
مستشفى بلا أطباء
الأطباء الثمانية عشر المطلوبون للسفر في تلك المأمورية إلى سوهاج، ليسوا كلهم على قوة العمل، فهناك طبيبان استدعيا لقوات الاحتياط بالجيش، على خلفية تجنيدهما، بالإضافة إلى وجود طبيبتين إحداهما في إجازة استثنائية و الأخرى مرضية.
ويشير الأطباء إلى أن مستشفى التأمين الصحي بالمنيا لديه تسعة أطباء فقط مقيمين بقسم العناية، وأنه في حال تنفيذ قرار النقل لن يتبقى منهم إلا ثلاثة، بينهم طبيب تخدير بالقسم الذي يعاني نقصًا بالفعل، وأن اثنين من هؤلاء الثلاثة سيضطران إلى طلب إجازة خلال شهر لالتزامهما بأداء اختبارات الدراسات العليا.
أما قسم الباطنة، فيوضح طبيب آخر، أن فيه تسعة أطباء، وفي حال تنفيذ الإجراء لن يتبقى به إلا طبيبين مقيمين، ويتساءل في تصريحات للمنصة "لمصلحة من تخريب المستشفى؟ ومن سيقوم بعمل هؤلاء الأطباء في حال غيابهم... إحنا أصلًا في محافظة المنيا لدينا عجز شديد في أطباء الرعاية المركزة، فمستشفى الصدر مثلًا لا يوجد به أطباء رعاية مركزة و عند احتياج مريض لوضعه على جهاز تنفس صناعي يتم استدعاء طبيب تخدير من مستشفى المنيا العام، طيب بدل ما انتدب الأطباء سوهاج ما انتدبهم في مستشفى الصدر و الحميات بالمنيا اللي مفيهاش دكاترة،إحنا عندنا الإصابات متزايدة و مفيش سرير في العناية أو القسم فاضي".
حوامل ورضع يواجهون كورونا
هذه الأزمة من نقص العمالة في مستشفيات المنيا، تقابلها أزمة إنسانية أخرى تتعلق بوضع الطبيبات اللائي لديهن أطفالًا في سن الحضانة وأخريات على وشك الولادة، تقول واحدة منهن للمنصة "بنتي عندها سنتين ونصف و زوجي طبيب عناية بيشتغل معايا عزل برده، ووالدتي مريضة، أنا ما أخدتش أجازة رعاية طفل رغم إنه من حقي، علشان شفت أنه مش من الواجب في ظروف كورونا والإصابات الكتيرة دي إن أسيب الشغل خاصة وإن تخصصي فيه عجز، كمان أنا عاوز أخلص الزمالة، فرتبنا أنا و زوجي أيام نوباتجياتنا بحيث نتناوب رعاية الطفلة، طيب أنا لما أروح سوهاج لمدة شهر هيسيب زوجي الشغل و يقعد مع الطفلة".
وتضيف الطبيبة "لما عرضنا أنا وزميلاتي مشكلة أطفالنا على وكيل الوزارة، قالنا خدوهم معاكم سوهاج أكيد هيشوفلكم هناك حل، لأن قانونًا اللي عندها أطفال متشتغلش عزل فهيوزعوكم على مستشفيات عادية، فرديت عليه: إحنا عندنا أطفال وبنشتغل في مستشفى عزل وموافقين مع إن إحنا عارفين إن حقنا قانونًا ناخد إجازة، علشان نرضي ضميرنا، لكن حرام نسافر سوهاج ونشرَّد أسرنا وأطفالنا".
وتشير طبيبة أخرى إلى أن ثمة واحدة بين المكلفات حامل في شهرها السادس "سبق تعرضها لمخاطر إجهاض وقرر لها القومسيون الطبي إجازة مرضية، وبرده متكلفة معانا تروح سوهاج و هي في إجازة (...) وفيه كمان واحدة زميلتنا حامل في الشهر الثامن وحاليًا في إجازة استثنائية، راحوا هم الاتنين لوكيل الوزارة و كانت واحدة فيهم معاها ابنها فعيط، فوكيل الوزارة قالها سكتي الولد أو طلعيه بره".
وتضيف الطبيبة "بعد إلحاح من زميلتينا الحاملتين، قال لهم وكيل الوزارة خلاص روحوا لمنسقة الزمالة خليها تبعت ورقكم الوزارة، فلما راحوا منسقة الوزارة قالت للسكرتير ابعتي الوزارة بالاسمين، واكتبي إن عندهم ظروف مرضية خاصة ومرضيتش تكتب إنهم حامل، وقالتلهم لما ترد الوزارة نبقى نبلغهم بوضعكوا".
وتنص المادة 53 فقرة 3 من قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2018، على أنه "مع مراعاة أحكام قانون الطفل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 1996، تستحق الموظفة إجازة بدون أجر لرعاية طفلها لمدة عامين على الأكثر في المرة الواحدة، وبحد أقصى ستة أعوام طوال عملها بالخدمة المدنية، واستثناءً من أحكام قانون التأمين الاجتماعي المشار إليه، تتحمل الوحدة اشتراكات التأمين المستحقة عليها و على الموظفة".
ولا يهدد الوضع الصحي الطبيبات فقط، فثمة أطباء من بين الثمانية عشر مصابون بكورونا، بحسب أحدهم "فيه طبيب من المكلفين للسفر طلع إيجابي كورونا قبل التكليف ده بيومين، وفيه 4 تانيين عندهم أعراض ولسه مسحاتهم مظهرتش، وطبيبة حاليًا مصابة وفي العزل، ورئيس قسم العناية مصاب وفي العزل (...) كل شهر بيتصاب مش أقل من 4 أطباء، وباقي الأطباء و الطبيبات المكلفين بلغوا الإدارة رسميًا بمرضهم".