أول فيلم أشاهده لتود هاينز كان بطبيعة الحال Carol نظرًا لنجاحه النقدي الساحق، أعجبني لكنني لم أكن مفتونة به، ربما لأنني قرأت رواية ثمن الملح لباتريشيا هايسميث المأخوذ عنها الفيلم وانبهرت بها أكثر. لكنني لا أنكر أنني اهتممت لدرجة اقتفاء أثر هاينز عبر أفلامه الكثيرة، واكتشفت أن نموذج المرأة في أفلامه حاضر وطاغٍ وربما ميهمن؛ رحلة المرأة عنده بنفس قدر رحلة الرجل وإن كان هاينز لا يضع للجندر اعتبارًا كبيرًا كونه يهتم بنموذجين أساسيين؛ حياة الضواحي، والحب المحرَّم عابر النوع والهوية الجنسية.
بعد اكتشاف فيلمه الثاني Safe، عن امرأة تُدعى كارول مصابة بحساسية مفرطة من الحياة تدفعها للانعزال والتقوقع شيئًا فشيئًا، على الرغم من أن منزلها ذاته بات مهيجًا للحساسية بكافة عناصره، وجدت نفسي أبحث في نساء تود هاينز عما يميزهن، وما هي أدواته السينمائية للتعبير عما يحاولن كبته.
نساء تود هاينز جميلات، شقراوات، فارغات العقل، لكن تقبع أرواحهن على فوهة بركان. لا يلائمن أفكار الناقدات النسويات عن النموذج النسائي الجيد والمفروض تسليط الضوء عليه في السينما، لكن تعاستهن تجبرنا على تحليل رؤيته لهن وعرضه لعذاباتهن، التي قد تبدو مرفهة و"بيضاء" أكثر من اللازم مقارنةً بعذابات النساء في أنحاء العالم غير المتقدم.
نسوية أمريكية تمرر النزعة القومية
سينما ما قبل #MeToo حاولت أكثر من مرة قولبة مشاعر المرأة لتُظهِر النموذج النسوي المحبَّب لقلب المرأة الأمريكية البيضاء الحديثة، فكانت أفلام آمي شومر ومسلسلات لينا دونهام البعيدة كل البُعد عن عالم مثل آل كارداشيانز مثلًا، هي خير دليل على ما تريد أمريكا أن تكون عليه المرأة النسوية الحديثة؛ ليست جميلة لكنها جذابة، ليست متكاملة كجوليا روبرتس أو كاميرون دياز، لكنها ليست أيضًا فرانسيس ماكدورماند التي يمكن أن تمر عينك عليها دون أن تتوقف في Nomadland.
أزمة هذه الأطروحات، هي اعتمادها الكلي على نمط معين من النساء، بينما زوجات ستيبفورد وربات المنازل في بيفرلي هيلز أبعد ما يكنّ عن النظرية النسوية التي تناولت ساطورًا تشطر به النساء إلى هؤلاء الجديرات بالإعجاب، وأخريات لا يستحقن ثناءً ولا شفقة.
ضواحي بلا جنة أو نار
"كارول" اسم تكرَّر مرتين في سينما تود هاينز الشائكة، والتي يسعى فيها لاستبطان ما يدور وراء الأبواب المغلقة في ضواحي أمريكا الفاخرة المنعَّمة، بحيث تكون جماعة النساء المترفات الغارقات في الثراء هن أبطال الحواديت التي منها استمد هاينز فيلمه Safe؛ بدايةً من كارول، الزوجة المحظية التي تزوجها رجل ثري للتباهي بها، كما يبدو، أمام أقرانه. للوهلة الأولى، تبدو كارول مثل دمية باربي، التي تطمح كثير من النساء أن تصبحن مكانها.
لكن كارول تخطو نحو الضوء الذي يجذبها، في محاولة للبحث عما ينقصها، دون أن تعي أنه إثبات ذاتها وكيانها وفهم كينونتها، ولهذا، في سعيها المختنق قليل الخبرة، تحترق بآتون العجز عن فهم نفسها، وتآكلها مما ينعكس على جسدها الضعيف، وملامحها الجميلة المحايدة، فيتمرد جسد المرأة الجميل الملفوف في غلالة من الترف والأناقة والصورة الذكورية المثالية للجمال والاكتمال.
أما في حالة كاثلين أو كاثي؛ فهي قاهرة ومقهورة في نفس الوقت، فيلم Far from Heaven مصمم بنفس الأسلوبية التي يستخدمها مخرج الأفلام الكلاسيكية البديعة دوجلاس سيرك؛ موسيقى كلاسيكية ودرجات ألوان ميلودرامية فاقعة، ولكن بعكس أفلام سيرك المصنوعة للمتعة في فلك الشخصيات ذوات البشرة البيضاء، تأتي باليتة ألوان هاينز في Far from Heaven ما بعد حداثية لتدمر زيف هذا الحلم الأمريكي ذو التفوق العرقي والنوعي. تقهر كارول زوجها عند اكتشاف مثليته ومحاولاتها التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، وتقهرها حياة ربات المنازل المرفهات في الخمسينيات، تقهره بإجباره على الحياة في كنفها والتظاهر بأنه أب مثالي وزوج محب، وتقهر عشقها وشغفها برايموند الأسود الذي يعتني بحديقتها.
يلعب فيلم Carol دور الضد لتيمة أفلام الكريسماس العالمية، فيستخدم زينة الكريسماس كوسيلة من وسائل حصار كارول في المنزل الفارِه والزيجة الفاشلة، يبدو الكريسماس كطقس روتيني كئيب يحيط معصمي وقدمي كارول بقيود ملونة، ويجعلها مجرد ربة منزل ملولة بينما هي في واقع الأمر امرأة عاشقة تحمل في قلبها ما هو أكثر من زينة الشجرة وصناعة الكعك والبسكويت. كما تبدو تيريز، الطرف الآخر في العلاقة، محاصرة في متجر الألعاب المزين احتفاءً بموسم الكريسماس، أو بالرفاق في البارات اللاتي تعاني فيهن من الوحدة وسط الزحام.
نساء تود هاينز بين الشكل والمضمون
يبرع هاينز في تصوير امرأة محاصرة بعالمها المخملي المثالي يخفي وراءه رعبًا من حياة النساء التي تحتمي وراء الثراء والتفاصيل المنزلية الدقيقة، في Safe يهتم بإظهار حصار كارول ربة المنزل في دورها كزوجة وأم وراعية للمنزل في الجنة التي تحاصرها في كل كادر، ومن خلال العدسة متسعة الزوايا، في أكثر من مشهد ترجع الكاميرا للوراء بينما الزووم إن يضيق الحصار على كارول. حتى الحديقة المنمقة الجميلة لدى كارول "الآمنة" ما هي إلا غابة تحاصرها وتحصرها في الحيز الذي يضيق عليها الخناق. يستخدم هاينز زوايا الكاميرا، والإضاءة ودرجات الألوان شديدة التعبير عن تعاسة الشخصيات أو اختلاسهن للحظة النشوة والشبق على هامش حيواتهن المبهرجة، المزدحمة بالتفاصيل المرئية التي تساهم في تأطيرهن وفقًا لنظرة ذكورية معينة.
في مسلسل Mad Men، تتمرد شخصية بيتي درابر زوجة الخمسينيات التقليدية على دورها؛ الطهي وانتظار زوجها ليمارس الحب معها ووعودها له بإنجاب المزيد من الأبناء الذين يستطيع أن ينفق عليهم جيدًا، المنزل المنمق، والحديقة، ومظاهر الرفاهية، كل هذه الأشياء تضرب بها بيتي عرض الحائط عند اكتشاف هوية زوجها الحقيقية وخيانته لها، وفي أفلام تود هاينز، يمسح الحلم الأمريكي الزائف ليجعله باهتًا، مملًا، وفوضويًا من الداخل، سواء في الماضي أو حتى بقاياه في الحاضر.
أما كارول الزوجة الثرية تقع في غرام فتاة بسيطة تعمل بائعة في متجر للعب الأطفال، وكاثي تجد في عشقها للبستاني الأسود إحياء للنيران التي انطفأت في جسدها بسبب حياة زوجها المزدوجة ومعاشرته للرجال، وكارول الآمنة لم تعد تجد في منزلها الرائع أمانًا ولا سلوى، ولا تجد في جسدها نقطة تستطيع الارتكان إليها بعيدًا عن رعب العالم الخارجي.
يريد هاينز أن ينغز هؤلاء المترفين في قلاعهم الحصينة وحدائقهم المنسقة، يريد أن يهز هؤلاء النساء بعنف من أعماقهن، ويمنحهن لحظات من الثورة سواء الداخلية أو الخارجية لينتفضن، أو يتلاشين كما تلاشت بيتي درابر، أجمل امرأة في عالم Mad Men لم تجد لها مكانًا في عالم لم يعد يأبه بالشقراوات المثيرات.