تعرف ويكيبيديا الصوابية السياسية بأنها "مصطلح يستخدم لوصف لغة أو سياسات أو إجراءات مقصود منها تجنب الإهانة أو التمييز ضد أعضاء جماعات معينة في المجتمع". إلى هنا يبدو المصطلح إيجابيًا، ولكن ويكيبيديا تضيف أنه "في الخطاب العام والإعلام، يستخدم المصطلح بصفة عامة للتحقير/ الازدراء مع الإشارة الضمنية إلى أن هذه السياسات متزيدة أو غير مبررة".
لابد أن يبدو هذا التناقض محيرًا، فالمصطلح هو بالتعريف ما اصطلحت غالبية الناس عليه، وبالتالي لا يمكن أن يعني المصطلح شيئًا مختلفًا عن استخدامه الشائع. لكنَّ حل هذا التناقض بسيط؛ "الصوابية السياسية" لا تعني شيئًا سوى "رفض السياسات التي تسعى إلى تجنب إهانة جماعات معينة في المجتمع أو التمييز ضدها". فالحقيقة أن الصوابية السياسية لم تستخدم يومًا بمعنى إيجابي، فهي تاريخيًا استخدمت أولًا للإشارة إلى مجموع المبادئ الجامدة التي كانت الأحزاب الشيوعية في دول المعسكر الشرقي وكذلك في أجزاء أخرى من العالم تفرضها على أعضائها وتقمع من خلالها أي محاولة للإصلاح أو التجديد أو الاختلاف داخلها، وانتقل المصطلح لاحقًا إلى أوساط اليسار الجديد الرافض لجمود هذه الأحزاب ليستخدم على سبيل السخرية من التناقض الظاهري بين سلوكيات اليساري في مجتمع رأسمالي وبين التصورات الساذجة عن اتساقه مع مبادئ اليسار، مثل أن يقول أحدهم "إنني أعرف أن هذا ليس صائبًا سياسيًا ولكني أحب قهوة ستارباكس في الصباح"، وذلك سخرية ممن يعتبر ذلك "سلوكًا برجوازيًا".
في استخداماته التاريخية المختلفة وكذلك مع استخدام اليمين (في الولايات المتحدة أولًا وبصفة خاصة ثم منها إلى بقية العالم) له حاليًا، لم يكن المصطلح سلبيًا فقط، بل ما هو أهم من ذلك أنه مصطلح فارغ، بمعنى أنه لا يشير إلى أي شيء محدد خاص به، وهو لذلك قابل لأن يضاف إليه أي شيء والمعيار الوحيد هو الحاجة إلى مهاجمته. بعبارة أخرى يشير المصطلح إلى أي شيء ترغب في مهاجمته دون أن يبدو من ذلك أنك تهاجم المبدأ الحقيقي الذي يمثله هذا الشيء، فأنت مثلا عندما لا ترغب في الكشف عن عنصريتك من خلال مهاجمة فكرة التمييز ضد السود مباشرة، وفي الوقت نغسه ترغب في مهاجمة من يرفضون استخدام لفظ "نيجرو" (أو في مصر "العبد النوبي" أو "البوابين" للإشارة إلى أصحاب البشرة السوداء)، تلجأ إلى إدراج رفضهم هذا تحت "الصوابية السياسية"، ثم تصوره على أنه هجوم على الحق في حرية التعبير. هذه الآلية بسيطة إلى حد السذاجة وهي مناسبة جدا لأن يتعلمها اليمينيون ويستخدمونها طيلة الوقت، وهي تعكس مغالطة منطقية شهيرة هي مغالطة "خيال المآتة".
مغالطة "خيال المآتة"
مغالطة "خيال المآتة"، أو "رجل القش" إذا أردنا الترجمة الحرفية للمصطلح الإنجليزي Strawman argument، هي مغالطة أو حجة زائفة في النقاش يقوم فيها أحد الطرفين بالالتفاف حول الفكرة التي يطرحها خصمه ويقدم فكرة أخرى زائفة "خيال مآتة" يهاجمها ويضحدها بشكل يبدو معه أنه قد أثبت خطأ فكرة الخصم. وهي وسيلة شائعة للإلهاء عندما يفقد محاور الحجج الكافية في مواجهة حجج خصمه، فهى توجه الأنظار إلى هدف مختلف للنقاش تماما كما يجتذب "خيال المآتة" اهتمام الطيور بعيدًا عن المزروعات فتتوهم أن ثمة من يحميها وتبتعد عنها.
مصطلح "الصوابية السياسية" هو في الواقع مجرد خيال مآتة ضخم، ابتدعه اليمين الأمريكي كأداة إلهاء عن القضايا الحقيقية التي يتبناها اليسار دفاعا عن الفئات المضطهدة اجتماعيًا. فبدلًا من أن يطرح ممثلو اليمين آراءهم المضادة في هذه القضايا بشكل مباشر، ينشئون قضايا زائفة يستخدمون فيها صورة هزلية لليسار ولقضايا التمييز والذكورية والعنصرية، يشكلونها من الممارسات غير المعتادة أو الساذجة في أحيان كثيرة والتي يسهل في أحيان كثيرة تصويرها على أنها مبالغة تتجاوز حدود المنطق، سواء كان ذلك خاطئًا أو صحيحًا.
وفي عباءة خيال المآتة يمكن مع الوقت جمع كل الممارسات التي يرغب اليمين في مهاجمتها وقمعها، مع استغلال أي نقاط تشابه بينها وبين تلك التي تشكل منها خيال المآتة في الأساس، ثم يصل الأمر إلى أن كل ذكر لقضية وكل ممارسة تهدف إلى رفع الأذى أو محاسبة المتسبب فيه أو جبر الضرر يصبح بالإمكان مهاجمتها وتصويرها على أنه وجه جديد من وجوه الصوابية الممقوتة.
في حوار تليفزيوني أصبح تاريخيًا، واجهت ميجان كيلي مذيعة شبكة فوكس نيوز، المرشح المحتمل للرئاسة حينها دونالد ترامب ببعض من تصريحاته الذكورية والمعادية للنساء متسائلة إن كانت هذه التصريحات تعكس "سلوك شخص ينبغي أن ننتخبه رئيسًا؟ وكيف ستواجه هذه الاتهامات عندما توجهها إليك هيلاري كلينتون ...؟" إجابة ترامب كانت ببساطة "أعتقد أن المشكلة الكبرى لهذا البلد هو تمسكها بالصوابية السياسية"، ثم أتبع ذلك بالقول بأن لا وقت لديه للإجابة عن مثل هذا السؤال.
إجابة ترامب تعني ببساطة أنه لا مشكلة حقيقية في قمع النساء بالتعدي اللفظي (والبدني أيضًا لأن لترامب تاريخ طويل في التحرش الجنسي)، وإنما المشكلة الحقيقية هي في "الصوابية السياسية" التي تجعل بالإمكان إضاعة الوقت في توجيه اتهامات كتلك التي وجهتها كيلي إليه.
رد فعل ترامب واستخدامه لمصطلح الصوابية السياسية هنا وفي مواقف أخرى نموذجي، بمعنى أنه بالضبط أحد الغايات التي خلق المصطلح والظاهرة لأجلها: على وجه التحديد حرف الانتباه عن السلوكيات والممارسات العدوانية والبنى الاجتماعية التمييزية، أو باختصار كل ما يسعى اليسار (الليبراليون الأمريكيون في هذه الحالة) للقضاء عليه دعما لتحرر الفئات المضطهدة اجتماعيا. إنها بالضبط مغالطة "خيال المآتة" توجيه الانتباه إلى هدف زائف لحماية الأهداف الحقيقية الجديرة بالانتباه.
الهجمات المضادة
لا يستخدم خيال مآتة الصوابية السياسية لتحويل الانتباه في حالات دفاع اليمينيين عن أنفسهم فقط، ولكنه يستخدم بمعدل متزايد في مهاجمة السياسات المختلفة التي تهدف إلى تخفيف معاناة الفئات المعرضة للتمييز ضدها من خلال معادلة بعض من هذا التمييز السلبي السائد بتمييز إيجابي لصالح تلك الفئات. هذه السياسات أصبحت مستقرة في العديد من الدول واتجهت مؤسسات خاصة إلى تطبيقها ليس فقط انصياعًا للقوانين ولكن أيضًا لتحسين صورتها وفي أحيان تعبيرًا عن قناعات حقيقية لمدرائها التنفيذيين، ومع استنفاد اليمين لحججه التي ساقها خلال معارك طويلة في مواجهة هذه السياسات، يتجه أغلب ممثليه اليوم إلى استخدام شبح الصوابية السياسية ليس لمهاجمة هذه السياسات مباشرة بل لمهاجمة تطبيقاتها كل منها على حدة. فتقدم كثير من مبادرات المؤسسات المختلفة، بصفة خاصة في مجالات الإنتاج الثقافي والأكاديمي، على أنها رضوخ لضغوط جماعات "الصوابية السياسية". وعلى سبيل المثال يصبح فوز ممثل أو ممثلة أو فيلم في مهرجان ما إذعانًا من منظميه أو لجنة التحكيم فيه لضغوط وإرهاب الصوابية السياسية لمجرد أن الشخص الفائز ينتمي إلى فئة مضطهدة اجتماعيًا، أو أن العمل يناقش قضية من قضايا التمييز والاضطهاد الاجتماعي.
الإلصاق المتكرر لتهمة الصوابية السياسية بمثل هذه المبادرات وبينما يعزلها عن سياسات التمييز الإيجابي يخلق منها نمطًا يصبح هدفًا لهجوم كل من أصبحت الصوابية السياسية هاجسًا مزعجًا وكريهًا بالنسبة له. والإشكالية هنا هي أننا بدلًا من مناقشة مبدأ التمييز الإيجابي (وهو مبدأ له قدر كبير من القبول ويمكن الدفاع عنه بنجاح)، يكون علينا الانجرار إلى مناقشة الإدعاء الوهمي بوجود ما يسمى بجماعات الصوابية السياسية، وإلى نفي تهمة ممارسة هذه الجماعات (المزعومة أصلًا) للضغط والإرهاب، ثم إلى الدفاع عن أحقية س أو ص بالحصول على هذه الجائزة أو تلك، وعن حقيقة أن ظهور شخصيات تمثل الأقليات المضطهدة في أعمال درامية هو أمر طبيعي، إلخ. بعبارة أخرى نحن ننجر إلى عشرات المناقشات الفرعية بعضها عقيم وبلا معنى. وإضافة إلى إضاعة الوقت والجهد تندرج محاولات الدفاع هذه رغم أنفنا تحت المبدأ المزعوم ذاته وتضيف إلى تضخمه وإثبات وجوده.
اليسار وفخ الصوابية السياسية
يمكن أن يدعي البعض أن "الصوابية السياسية" هي بضاعة اليسار قد ردت إليه. وهذه في الحقيقة مغالطة منطقية أخرى تشبه مغالطة خيال المآتة. فالمصطلح عندما استخدم بشكل جاد كان أداة قمع استخدمها المتغلبون على الأحزاب الشيوعية السلطوية ضد من كانوا في الواقع على يسارهم. وبخلاف ذلك فقد استخدمه اليساريون تحديدًا للسخرية من الاستخدام الجاد له في أروقة ودهاليز هذه الأحزاب، أو للنقد الذاتي والإشارة إلى التناقضات التي تفرضها الحياة اليومية على من يعتنق فكرًا هو بالأساس نقيض لكل شيء تقوم عليه هذه الحياة.
يسقط كثير من اليساريين أنفسهم في فخ التصديق في وجود مبدأ للعمل يحمل عنوان "الصوابية السياسية"، بعضهم في الواقع يعتنقه ويدافع عنه بشكل أعمى، والبعض الآخر يعتنقه أيضًا ولكنه ينتقد بعض الممارسات التي يصدق في أنها تندرج تحته ويرى أن فيها مبالغة أو سذاجة تخرج عن نطاق المبدأ (المزعوم). ثمة أيضًا بعض ثالث يصدق في وجود المبدأ ولكن يرفضه ويرى أن ضرره على القضايا التي ينبغى لنا الدفاع عنها، أكبر من نفعه لها، وهو يشترك مع الفئة السابقة في انتقاده لممارسات يرى فيها أن استخدام المبدأ قد تخطى حدود المقبول.
المشكلة في الفئة الأولى واضحة، فممثلوها بقبولهم كل ما يدرجه البعض تحت المبدأ المزعوم دون التمييز بين الهزل أو الجد، يؤكدون في الواقع السمعة البائسة للمصطلح. أما المشكلة في الفئتين الأخريين، إلى جانب أن ممثليهما يصدقون في وجود شبح الصوابية السياسية، هي أنهم يقبلون مبدئيًا إدراج ممارسات مختلفة تحته، ونتيجة للسمعة السيئة للمصطلح، وافتراض أن ثمة إساءة مستمرة لاستخدام المبدأ، فهم يتلقون الممارسات التي يلصق البعض بها المصطلح بشك مبدئي يؤدي في أحيان كثيرة إلى أن يكون تقييمهم لها غير موضوعي، وينتهي بهم الحال إلى مهاجمة ورفض بعض هذه الممارسات أو حجب دعمهم عنها برغم أنها قد تكون جادة وذات نفع حقيقي للفئات المضطهدة اجتماعيًا.
هل نحن بحاجة إلى الصوابية السياسية؟
في الحقيقة إن علينا أولًا، وأعني بنا هؤلاء الذين يهتمون بالدفاع عن الفئات المعرضة للتمييز ضدها في المجتمع، أن ندرك أننا لسنا بحاجة إلى "الصوابية السياسية"، فمرة أخرى هذا المصطلح فارغ ولا يضيف أي شيء إلى المبادئ المختلفة التي نؤمن بها، سوى وصمها بإدراجها تحته. لذا فإن ما علينا فعله هو أن نرفض أن نستدرج إلى الوقوع في فخ الصوابية السياسية بأن ننقل المناقشة في كل مرة يواجهنا فيها أحدهم بالمصطلح كاتهام إلى المبدأ الحقيقي الذي يدعم الممارسة التي يهاجمها، وذلك إن كانت ممارسة جادة حقًا وتستحق الدفاع عنها، أما إن لم تكن كذلك (دون أن يكون حكمنا عليها ناشئًا عن تصديق نسبتها إلى المصطلح المشبوه)، فهي لا تعنينا، ولسنا في الواقع في حاجة إلى تبرير اندفاع بعض اليساريين أو غيرهم إلى ممارسات ساذجة أو تنطوي على المبالغة ففي النهاية تلك احتمالات قائمة في أي فعل سياسي مشحون عاطفيًا بسبب السوابق التاريخية. يكفي أن نرفض مثل هذه الممارسات الساذجة ما دامت لا تفيد مبدأ نسعى إلى إقراره.
وفي النهاية ثمة سبب إضافي وأكثر أهمية لعدم حاجتنا إلى مصطلح "الصوابية السياسية" بل ورفضنا له من حيث المبدأ. ففكرة "الصوابية" في حد ذاتها تتناقض مع الفعل السياسي المتطور بصفة مستمرة استجابة لما يطرأ على ظروف المجتمعات من تغيرات مستمرة. ما هو "مناسب" كفعل سياسي اليوم، لم يكن كذلك بالأمس وربما لن يكون كذلك غدًا. المبادئ العامة للحرية والمساواة والعدالة يعاد باستمرار ترجمتها إلى سياسات وتطبيقات عملية تتوافق مع الظرف الاجتماعي والسياسي السائد. لا مجال لجمود الصوابية تحديدًا في ممارسات اليسار كتيار سياسي مسعاه الرئيسي في النهاية هو التغيير.