لم يفق سكان ضاحية مصر الجديدة من صدمة إنشاء أكثر من عشرة كبارٍ علوية اخترقت شوارع ضاحيتهم الأنيقة لتقضي على هويتها البصرية المميزة، مزيلة في اندفاعها حوالي 100 فدان من الأشجار والمناطق الخضراء؛ حتى عاجلتهم البلدية بخبر مشروع كوبري جديد في أهم شارع فيها، الشارع العظيم، أو طريق الأهرام، الذي كان المقصود به أن يماثل الشانزليزيه في باريس، مع مراعاة جميع النسب.
فهل يتخيل أحد إنشاء كوبري علوي يمر بطول جادة الشانزليزيه حتى نهايتها عند قوس النصر؟
إن حدثًا لا معقول كهذا كان من شأنه إثارة استنكار متخذ قرار إنشاء هذا الطريق العلوي في شارع الأهرام. فهو لا يقل قيمة وبهاء عن الشانزليزيه، ببناياته الأنيقة التي تحف به على الجانيين، عارضة طرازها المختلط الفريد الذي يجمع بين عناصر العمارة المحلية والعمارة الغربية الوافدة في "تزاوج سعيد بين الشرق والغرب"، على حد قول شيخ المعماريين الراحل، حسن فتحي.
ومثلما ينتهي الشانزليزيه بميدان الإتوال يتوسطه قوس النصر، ينتهي شارع الأهرام عند الميدان الرئيسي للمدينة ترتفع فيه الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، البازيليك، بقبتها الكروية الهائلة حيث يرقد البارون إمبان مشيّد مصر الجديدة في بداية القرن الماضي.
يعود بناء هذا الصرح الضخم، العلامة المميزة لمدينة الشمس، هليوبوليس، إلى عام 1911 وهو من تصميم المعماري الفرنسي ألكسندر مارسيل طبقا لطراز يمثل حلًا وسطًا غريبًا ما بين التقاليد المسيحية وعمارة الفن الجديد، آرت نوڤو، وكان من المتوقع أن يتماس منزل الكوبري المزمع إنشاؤه، مع القبة في مشهد يضاف إلى المشاهد العبثية التي لم تخلُ منها مدينة، كانت تفخر في الماضي بكونها مدينة الألف مئذنة، قبل تحويلها إلى مدينة الألف كوبري في غضون ستة أعوام.
وفي الوقت الذي كان سكان مصر الجديدة يستنكرون ويستنجدون، كان سكان جزيرة الزمالك الراقية، يواجهون هجمة جديدة على جزيرتهم التي ما يزال جرحها ينزف إثر انتزاع مسلة رمسيس الثاني من حديقة مطلة على النيل تحمل نفس الاسم لنقلها إلى مدينة العلمين الجديدة. فإذا بهم يستيقظون على مشهد للفيف من كبار المسؤولين يضم محافظ القاهرة ووزير الآثار والسياحة، وصاحب شركة مغمورة أثناء تفقدهم حديقة المسلة المكلومة، لوضع حجر الأساس لمشروع إنشاء عجلة عملاقة على غرار لندن آي ومثيلاتها في دبي وسنغافورة.
تضامن بعض المثقفين والمتخصصين في العمران والعمارة، مع سكان الحي الشرقي والجزيرة، ونجحوا في إيقاف الأعمال الجارية، لكن حتى الآن لم يصدر أي تصريح رسمي من قبل المسؤولين يضمن عدم استئناف تلك الأعمال بعد هدوء العاصفة، ليظل سيف داموكليس معلقًا على رؤوس السكان مثيرًا للرعب على مستقبل أحيائهم.
غني عن القول أن عشوائية اتخاذ القرارات تؤدي إلى إهدار للموارد تتحمل تكلفته الأجيال الحالية والقادمة، فضلًا عن تشويه الهوية البصرية للمدينة واستئصال ذاكرتها، وكلها أشياء لن تستعاد.
تطرح هذه المشروعات التي تتم تحت مسمى التطوير إشكالية العلاقة بين القديم والجديد، بين التراث والتجديد، في عصر تغير خلاله مفهوم الحداثة منذ أكثر من نصف قرن، بحيث لم تعد تعني الحداثة العمرانية إزالة القديم وإحلال كل ما هو جديد محله، بل أصبح تعريفها هو الحفاظ على القديم، ورفعه إلى حد القداسة. فالمستقبل لا يتناقض مع الماضي، بل يعيد إحياءه.
هذه القناعة توصل لها الغرب بعد مئة عام من الصراع بين المدينة الحديثة والمدينة القديمة، أثناء محاولة الأولى محو الثانية والقضاء عليها. وفي مصر تم حسم هذا الصراع لصالح ما يُطلق عليه التطوير، ليس فقط على حساب الأحياء القديمة بل كل ما تلاه من عمران حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي.
هذا التوجه المصري الجديد يناقض بشكل صارخ تطور علم التخطيط والتجديد العمراني الذي يدرس في الجامعات، ومُثبت في الاتفاقيات الدولية للحفاظ على التراث والبيئة التي وقعت عليها مصر، ووضعت الأطر القانونية والمؤسسية المحلية اللازمة لتحقيقها على أرض الواقع.
نحن إذن أمام مفارقة كبيرة تحتاج إلى تحليل في إطار أشمل، يناقش فكرة أو مفهوم تطوير وتحديث المدن في سياقات تاريخية مختلفة، حتى نستطيع فهم ما يحدث اليوم.
كيف بدأت فكرة تحديث المدن بإزالتها؟
واكبت العمليات الكبرى لتحديث المدن في أوروبا بدءًا من منتصف القرن التاسع عشر، الثورة الصناعية التي أحدثت تغيرات هائلة في نظم التنقل والمواصلات وتقنيات الصرف الصحي والإمداد بالكهرباء والمياه، وطوّعت أساليب التخطيط العمراني لتعبر عن عصر الكهرباء والبخار والسكك الحديدية.
كان أول من أرسى قواعد هذا التخطيط الحديث البارون هاوسمان محافظ باريس في عصر نابليون الثالث وقام بالتنظير له المهندس الإسباني ايدلفونسو سردا. لذا يعتبر هاوسمان رائد التخطيط الحديث في العالم، وإليه يرجع الفضل في وضع خطة شاملة لباريس ترتكز على منهج رئيسي هو معاملة المدينة كوحدة متكاملة تتكون من مجموعة من الأنظمة المتصلة ببعضها البعض وهي على التوالي: نظام محور الحركة، والفراغات العامة، والمناطق الخضراء، والبنية الأساسية.
وعلى الرغم من أن المحاور العرضية المستقيمة التي أنشأها هاوسمان في النسيج القديم المتعرج لباريس وتوسيع الشوارع لكي تصلح لسير السيارات ذات المحرك وخطوط الترام؛ أدت إلى إزالة أحياء بالكامل إلا أن مفهوم الحفاظ على الأنسجة العمرانية لم يكن تبلور وقتها، وكانت الغلبة آنذاك لمفهوم الصحة العامة والقضاء على الأوبئة التي انتشرت في أحياء الطبقات الفقيرة وسط المدينة وضواحيها.
وقتها بدا الاستئصال هو الحل الأمثل تؤازره الرغبة في أن تُفرز الثورة الصناعية مدينتها الخاصة الجديدة.
لاقى المنهج الجديد الذي تبناه هاوسمان في تحديث العمران انتشارًا واسعًا في عواصم أوروبية أخرى كڤيينا في النمسا، وبرشلونة في إسبانيا، وبودابست في المجر، وروما الإيطالية، وحتى مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة، كما تمت محاكاة هذا المنهج العمراني القائم على الاستئصال في مدن المستعمرات وعواصم الدول الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، ومن بينها مصر التي كانت خارجة للتو من العصور الوسطى دون المرور بعصر النهضة والحقب التالية له، والتي تشكلت خلالها نظريات العمارة المدينية بتدخلات محدودة لتطوير الأحياء، قبل الوصول لتبني النظرة الشاملة في التخطيط الحديث والهدم قبل إعادة البناء.
وعلى الرغم من أن تحديث المدن المصرية وعلى رأسها القاهرة والإسكندرية بدأ في عصر محمد علي، في إطار خطة شاملة لتحديث التعليم والاقتصاد والصناعة والزراعة والصحة، إلا أن ذلك لم يرتكز على أرض معرفية صلبة، في مقابل عمارة عصر النهضة الأوروبية التي كان عمادها الثقافة والفنون والتنوير والثورة الصناعية، وأفرز خلالها كل عصر عمرانه وعمارته.
لهذا السبب نعرف إجابة سؤال: لماذا لم ينعكس تحديث محمد علي وأسرته على تطور مصر بشكل عام، رغم المردود الإيجابي لبعض القرارات؟ والإجابة هي أن الاستعانة بهؤلاء الخبراء الأجانب لم يشكّل في يوم من الأيام حلقة متصلة من التقدم والابتكار والجدل والصراع بين تيارات فكرية متعددة، وشطحات طوباوية في تصور العمران يجد بعضها طريقه إلى النور، ويُثري بعضه الآخر النقاش والخيال حتى لو يتم تطبيقه.
لذلك ولد هذا التحديث مبتسرًا وهشًا نتيجة انتزاعه من سياقه الأصلي والأصيل، وعدم تجذره في المحيط الجديد مما جعله عرضة للانتكاس، أو قابلًا لإفراغه من محتواه، ليصبح مجرد أداة للتنمية العقارية خارج الزمان والمكان.
لا أشكك في أن أولى عمليات التحديث الكبري للقاهرة في عصر إسماعيل تعتبر إضافة جديدة، من خلال إنشاء مدينة عصرية خضراء غرب المدينة القديمة، قام بتخطيطها كبار المهندسين الفرنسيين ممن شاركوا في مشروع إعادة هيكلة باريس واستمدوا خطوطهم العريضة من مخطط باريس بشوارعه المستقيمة المتعامدة التي تتقاطع معها محاور شبه منحرفة مكونة ميادين دائرية في نقاط التقائها.
ولأن الهدف من هذا التحديث العمراني لم يولد من رحم ثورة صناعية، وإنما كان محاكاة لنموذج فرنسي بهدف الإبهار والتباهي وتحقيق حلم الخديو الشاب في نقل باريس إلى ضفاف النيل؛ جاءت المحاكاة مبتورة دون اعتبار لخصوصية المكان، حيث حالت كثافة الآثار التاريخية في القاهرة القديمة دون اختراق نسيجها بعدد كبير من المحاور العرضية مثل باريس، فتم الاكتفاء بمحورين فقط هما كلوت بك لربط ميدان العتبة المستحدث بالسكة الحديد، ومحمد علي بالقلعة. وإذ تم الحفاظ علي الآثار من الاندثار؛ إلا أن التجديد العمراني اقتصر فقط على واجهات المباني المطلة على المحاور الجديدة مخلفًا أطلالًا خربة في الخلفية.
هذ المحاكاة المبتورة كانت بمثابة حجر الأساس لعمليات الهدم المستقبلية التي ستطول القاهرة القديمة مؤدية إلى مزيد من التدهور وتشريد آلاف الأسر التي غدت بلا مأوى، ودشّنت ظهور مشكلة للإسكان ستتفاقم لاحقًا نتيجة لعوامل عدة أخرى، كما أن المحاكاة المصرية لم تنقل الجدل الفكري الذي أثاره مشروع هاوسمان في باريس بين الكتاب والشعراء والمثقفين.
فهناك؛ تفاعل إميل زولا روائيًا مع أفكار التطوير وتناول المضاربات العقارية في روايته La Curée أو الذبيحة، أما المعماري شارل جارنييه فقد انتقد نمطية العمارة الجديدة في مواجهة ثراء وتنوع القديمة، كما تباكى الشعراء على اختفاء الطرق المتعرجة الضيقة التي كانت تضفي بهاءً على النسيج الحضري القديم لباريس وتثير دهشة المشاهد.
وانتقادًا لنموذج تحديث فيينا؛ انبرى المنظّرون المعماريون أمثال النمساوي كاميللو سيتي في الدفاع عن أنوية المدن القديمة، وأظهر، وغيره، القيم التاريخية والعمرانية والرمزية التي تحملها مدينته قبل "تطويرها" بحسب النموذج الجديد لهاوسمان.
هذا الجدل الفكري أدى إلى تشكل وعي مجتمعي عام بكل الأشياء الجميلة التي شكلت ذاكرة الأماكن وهويتها على مر العصور قبل فقدانها إلى الأبد.
نظرة جديدة للمدينة
بعد الحرب العالمية الثانية نشأت رؤى جديدة في الدول الأوروبية مدعومة بنظريات المعماريين تهدف إلى الحفاظ على الأحياء التاريخية وإعادة تأهيلها من جانب، ومن جانب آخر التخلي عن هدم الجيوب السكنية المتدهورة لصالح نفس منهج إعادة الإحياء. ساهمت تلك الأفكار في بلورة وثيقة اليونسكو الأولى الصادرة عام 1972 للحفاظ على التراث الإنساني من الاندثار.
وفي الفترة الممتدة بين نهاية عصر اسماعيل وحتى عشية ثورة يوليو 1952، استمرت التدخلات في النسيج القديم من خلال توسيع الشوارع. ولتحقيق استقاماتها؛ أزيلت المشربيات ومئات المباني لفتح الحارات السد من أجل ربط الأحياء بعضها البعض، وتم ردم الخليج المصري ليحل محله شارع بورسعيد، وشقت شوارع الأزهر والجيش.
وعلى التوازي استحدثت أحياء جديدة شيدت من قبل شركات إنماء عقاري أجنبية على نمط تخطيط المدن الحديث وفي محاولة لتطبيق بعض نظرياته مثل نظرية المدن الحدائقية لـأبنيزر هوارد. فولدت قاهرة جديدة تضم أحياء متباينة معماريًا وعمرانيًا هي جاردن سيتي، والمنيرة والفجالة والزمالك والروضة، وفي الضواحي مصر الجديدة والقبة وشبرا والمعادي التي عمرت بفضل خطوط الترام. ومثل مدينة إسماعيل التي أصبحت وسط المدينة التجاري والثقافي. هذه الأحياء الجديدة خططها كبار المهندسين في أوروبا وصمَّم بناياتها معماريون أكفاء ذوو شهرة عالمية، فتحوا مكاتب لهم في القاهرة وزودوها بعمائر سكنية وبنايات تجارية من بنوك ومحلات كبرى ودور للسينما والمسرح وفنادق كبرى، لا تقل قيمة جماليًا وإنشائيًا عن مثيلاتها في العواصم الأوروبية الأخرى.
هذه العمارة هي ما يُطلق عليه الآن "عمارة الزمن الجميل"، إلا أنه لم يكن جميلًا أبدًا في مناحٍ أخرى.
مشاهد لشوارع القاهرة القديمة والخديوية بين الحربين العالميتين
بداية تدهورت أحوال الأحياء القديمة وصارت تلعب دور وعاء استقبال المهاجرين الريفيين الجدد وفقراء المدن بعد نزوح الطبقات العليا والوسطى منها للأحياء الحديثة. ثانيًا حدث شرخ اجتماعي كبير بين القاهرة الجديدة من جانب، والتي ضمت الجاليات الأجنبية والطبقات العليا وجزء من الطبقة الوسطى، ومن جانب آخر القاهرة القديمة التي أصبحت جزءًا من الأولى بعد أن كانت هي الكل.
ودفع هذا التدهور إلى إطلاق حملة تبنتها الفرنسية هنرييت دوفنسير عام 1932 لإنقاذ البيوت المملوكية والعثمانية في القاهرة القديمة، صحيح أن منشآتها الأثرية كانت في مأمن من التدهور، إلا أن بعض المباني الأخرى كانت معرضة للخطر (1).
وبين أعوام 1932 و1940 أثير لأول مرة نقاش فكري حول التراث والتجديد، في إطار تساؤلات كبرى حول كيفية تعبير العمارة عن الهوية الوطنية.
فريقا الصراع الفكري كانا من طليعة المعماريين المصريين، الذين درسوا في الخارج وعادوا إلى مصر ونشطوا في نشر أفكار العمارة الحديثة من خلال ممارسة المهنة ومجلة العمارة والفنون التي أصدروها. أدى هذا النقاش إلى نشأة ثلاث تيارات فكرية مختلفة: الأول وهو الغالب، تبنى مبادئ العمارة الحديثة التي غزت العالم كله آنذاك، والثاني فضّل الاحتذاء بالعمارة الفرعونية، والأخير انحاز للعمارة الإسلامية.
حسم المعماري، وليس السياسي، مصطفى فهمي باشا الجدل حول هذا الموضوع مقترحًا أن يتم تصميم كل المباني العامة للوجه البحري على الطراز الإسلامي والفرعوني في الوجه القبلي.
وهذا ما يفسر لنا الآن تصميم محطة سكة حديد القاهرة على الطراز الإسلامي، بينما صممت محطة السكة الحديد بالجيزة على الطراز الفرعوني. وفي نفس الوقت ظهرت بنايات ذات طرز مختلطة على غرار عمارة هليوبوليس تجمع بين فن العمارة المستحدث وطرز أخرى أوروبية، والأمثلة عديدة نسوق منها على سبيل المثال مبنى جمعية المهندسين المصرية في شارع رمسيس.
لم يستمر هذا التوجه كثيرًا لاتجاهه للنقل أكثر من الابتكار وانتهى في بداية الأربعينيات لصالح تيار غلاة العمارة الحديثة، التي جردت المباني من كل زينة.
وبهذا انقطع حبل السجال الفكري الذي كان من شأنه إفراز فكر جديد ينتزع فتيل "أزمة التحديث" لنصل إلى منهج إبداعي مصري معاصر لا يتناقض مع الماضي بل يُحييه، لأن ما حدث بعد ذلك كان بمثابة تدشين عصر جديد مثّل قطيعة مع مفهوم تحديث المدن في أوروبا وانطلق في "البناء بلا هوادة"، استجابة لضرورات معيشية مُلحّة من سكن وانتقال، غيّرت شكل العمران بالكامل، مُقتلِعَة أجزاء لا يستهان بها من الذاكرة البصرية للأماكن، قاضية على هوياتها المتعددة.
استئصال الذاكرة في الأحياء الحديثة
بعد سقوط الملكية؛ لم يعد التدهور العمراني وإقتلاع الذاكرة البصرية للأماكن من جراء عمليات التطوير مقصورًا فقط على القاهرة التاريخية فحسب، لكن بدأ يطول الأحياء التي شيدت في فترات التحديث الأولى للمدن وعلى رأسها القاهرة الخديوية، التي بدأ أفولها إثر حريق القاهرة الذي اندلع عام 1952 قبل الثورة بعدة أشهر.
استمر التدهور بعد ذلك دون توقف نتيجة لعوامل كثيرة من ضمنها هجرة الأجانب وتغير التركيبة الاجتماعية للأحياء، التي وصفها الكاتب علاء الأسواني في روايته عمارة يعقوبيان. واكبت هذه الهجرة الانتقال التدريجي لمركز الثقل الإداري والسياحي والثقافي من حي الأزبكية إلى الغرب للاقتراب من ميدان التحرير الذي اكتسب مركزية جديدة إثر تعمير الضفة الغربية.
ثم انقضت معاول التجريف على حديقة الأزبكية في العصر الجمهوري الأول (عبد الناصر) فاستقطعت منها أجزاء لصالح مبنى سنترال العتبة ومقار استخراج رخص السيارات المركزي، ثم مُدّ شارع 26 يوليو فشطرها إلى نصفين لتزال بالكامل في العصر الجمهوري الثالث (مبارك) من أجل إنشاء مترو الأنفاق، ومعها قهوة متاتيا التاريخية ملتقى رواد النهضة المصرية من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
وقد نعى الكاتب جمال الغيطاني حديقة الأزبكية في كتابه خطط الغيطاني بالقول "اجتثت الأشجار وأنهي وجود النخيل ثم الإجهاز على النوى. أبيدت الصفصاف والغازولينا والأكاسيا والكافور والجميز ثم محي الظلال والسواقي والشوايف قطعت جاذرة الحمائل والتعريشات، ومع كل شجرة اقتلعت كان العمال يسمعون صوتًا شاكيًا مجهول المصدر، يحوي الألم الثاقب. ثم تزايد الأنين وتردد في الحي كله ثم تجاوزه إلى سائر الخطط ثم تردد في الفراغ الكوني خارج الكوكب ورصدت أصداؤه بين المجرات".
وفي العصر الجمهوري الثاني (السادات)؛ تولت المضاربات العقارية إثر سياسة الانفتاح الاقتصادي وارتفاع ثمن الأرض بشكل صاروخي؛ مهمة تغيير شكل أحياء القاهرة والمدن الأخرى من خلال هدم الفيلات والعمائر محدودة الأدوار وإحلالها بأبراج سكنية وتجارية قضت على الحدائق الخاصة التي كانت تحيط بالفيلات دون أية ضوابط بل بتواطؤ من قبل المحليات.
ثم بدأ مسلسل إنشاء الكباري العلوية داخل الكتلة السكنية لتحقيق سيولة أكبر في الحركة، واستمرت في العصر الجمهوري الثالث (مبارك) وما بعده، واخترق أحدهم الشارع الرئيسي في جزيرة الزمالك مارًا بحذاء قصر عيشة هانم وقصر الماريوت وعمارات بهلر مؤسس الزمالك، معلنا بدء حقبة العصور المظلمة للجزيرة.
ومع البدء في إنشاء أول خط مترو أنفاق في القاهرة في بداية الثمانينيات أزيلت خطوط الترام السطحي، اعتقادًا بأنه أصبح وسيلة انتقال بالية، في الوقت الذي كانت أوروبا تعيد استخدامه كوسيلة مواصلات عامة صديقة للبيئة بجانب المترو، في إطار سياسة تهدف للحد من استخدام السيارات الخاصة لصالح وسائل المواصلات العامة.
وتناول الأديب الراحل جمال الغيطاني إلغاء الترام بشكل فانتازي في قصة قصيرة من مجموعة ذكر ما جرى، الصادرة عام 1980 استهلها بحديث أجرته مذيعة في برنامج تلفزيوني مع مؤسس لما أسماه جمعية أصدقاء الترام، ينعي فيه الحالة التي وصلت لها العربات وتدهور المرفق بشكل عام، ويدعو الناس لركوبه والمسؤولين لإنقاذه، كونه أول وسيلة مواصلات عامة دخلت البلاد، كما أن استمراره يساهم في حل مشكلة المواصلات.
يقول الغيطاني في قصته إن حديث الرجل أعيد نشره في أوسع الجرائد انتشارًا، وأصبح الموضوع حديث المدينة، وتجمهر المواطنون لمشاهدة هذا الكائن الخرافي الذي تذكروه فجأة وهو في طور الانقراض، وتسابق معدو البرامج في دعوة خبراء في كل شيء للحديث عن مزايا الترام، كان من أهمها استخدام مركباته كمتاريس بعد أن قلبها المتظاهرون إبان أحداث ثورة 1919 وتبارى المسؤولون في الاحتفاء بالترام، فتم إصدار طابع بريد يحمل صورته، وتكريم أول راكب له في احتفال مهيب حضره كبار رجال الدولة وقلدوه درع الترام، وحينئذ قرر وزير التعليم إدراج مادة الترام في المقررات لتصبح مادة سقوط ونجاح، وأصبح سب الترام جريمة يعاقب عليها القانون.
وفي الوقت الذي دعت فيه المنظمات الشبابية أعضاءها للمشاركة في حملة لتنظيف القضبان واعادة طلاء العربات، أقام تجار المانيفاتورة في شارع الأزهر سرادق عزاء كبير في الترام الذي ألغي من شارعهم.
هذه بعض مقتطفات من فانتازيا الغيطاني أرّخ فيها لنهاية مرفق، لكنه لم يعش ليرى السرادق الذي نصب في شارع الميرغني للعزاء في مترو مصر الجديدة العريق. لم يعش الغيطاني ليرى اختزال التخطيط العمراني، علم الحاضر والماضي والمستقبل، في إنشاء الكباري واجتثاث الباسقات المورقات، ولا تجمد مفهوم التحديث ليتحول إلى أداة في يد مافيا الاستثمار العقاري لطمس معالم أماكن واستئصال ذاكرة أخرى بدون رأفة.
ما يحدث للقاهرة منذ منتصف القرن العشرين لم يحدث في أي مدينة أخرى في العالم، فلا توجد مدينة على ظهر الأرض تغيرت هويتها البصرية وأعيد بنائها ثلاث مرات في هذه الفترة القصيرة. أما ما تبقى من ماضيها العريق فأصبح لا يمثل سوى بعض الجيوب السكنية المعزولة وسط غابة من العمران الرث القبيح الذي يعبّر عن فقر الفكر والجمال وانعدام الضمير، وهذا ما يحدث بالضبط في عصور الاضمحلال.
1- كتاب وكشفت عن وجهها: حياة هدي شعراوي، أول ناشطة نسائية مصرية، تأليف سنية شعراوي، ترجمة نشوة الأزهري، الناشر: المركز القومي للترجمة.