ترى المحامية عزة سليمان أن أوضاع المرأة وحقوق الإنسان في مصر صعبة للغاية، خاصة مع وجود ما اعتبرته "تطبيع مع العنف" ودعم للمتحرشين على حساب الضحايا، مطالبة في حوارها مع المنصَّة بسنِّ تشريعات لها أبعاد جندرية تصب في صالح أوضاع النساء، منتقدة في الوقت نفسه المجلس القومي للمرأة لتبنيه خطابًا محافظًا تجاه المرأة، بدلًا من دعم القضايا النسوية.
دعم الضحايا للوصول إلى العدالة، هو بوصلة عزة سليمان منذ أعوام، خاصة حين دشنت، سيولا، الكيان الذي احتفلت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بمرور 25 سنة على ميلاده.
تسترجع سليمان الآن مشوار المؤسسة بمحطاته المختلفة على مدار ربع قرن، وتقول "أعتقد أن سيولا قدمت وما زالت تقدم العديد من الإنجازات للمرأة المصرية والعربية، أبرزها في ملف قوانين الأحوال الشخصية للمساعدة في تحقيق الإنصاف والمساواة للمسلمات والمسيحيات، فطرحنا بعض القضايا مثل وضع أطفال المسيحيات من زوج مسلم أو تحوَّل إلى الإسلام، وحضانة المرأة المسيحية لأطفالها، ورفعنا شعار الأمومة ليس لها دين".
ومن بين "إنجازات كثيرة" عدَّدتها سليمان لمؤسستها، كان ما تحقق في مجال العنف الأسري "ده كان يعتبر من أهم التابوهات في مصر، لكن كسرناها في التسعينيات، خاصة ما يُعرف بسفاح المحارم، بعد ما كان عيب إننا نتناقش فيه. وضرب الآباء للبنات وحبسهم في البيت ومنعهم من التعليم، وضرب الزوجات والاغتصاب الزوجي، كل دي كانت تابوهات اتكلمنا فيها وقدمنا الدعم وما زلنا حتى الآن".
ما تزال سيولا تدعم ضحايا وناجيات، على الرغم من محطات صعبة مرت بها، وكادت أن تنهي رحلتها وتغلق أبوابها، حسبما كشفت مؤسسِتها "طبعًا فكرنا (في الإغلاق وإنهاء النشاط)، خاصة إننا في الأربع سنين اللي فاتت ماخدناش موافقة غير على مشروع واحد، والمأوى بتاعنا اتقفل ورفعنا قضية على الوزارة".
إغلاق المؤسسة حدث بالفعل لكن بصورة مؤقتة، لأسباب فُرِضَت عليها، وحكتها عزة "السنة دي المؤسسة قفلت أكتر من مرة وأخدت أجازة لأننا للأسف الشديد ماكناش لاقيين مرتبات للفريق، أو بسبب ضغط الخدمات بصورة أكبر من إمكانياتنا. وفيه فترة اشتغلنا 3 أيام في الأسبوع، وحاليًا 4 أيام في الأسبوع، ومن الأسبوع اللي فات (ثالث أسابيع ديسمبر) المؤسسة قافلة لغاية يناير، وهنحاول نقدم الدعم عبر التليفونات".
تحاول المؤسسة تقليل ما عليها من ضغوط مادية، لكن دون تقصير في دورها على أمل تحسن الظروف مستقبلًا، كما تتمنى مديرتها "عندنا أمل نحصل على كذا موافقة، لأننا مقدمين على مشروع خاص بالسفارة الهولندية والسفارة الألمانية في مصر؛ وده مدينا أمل نكمل".
تأمل السيدة استكمال رحلتها مع المركز، فالسنوات الخمس والعشرين حملت من الذكريات ما يجعلها لا تتقبل فكرة إغلاقه "ده ابننا الصغيّر، وصعب إنك تشوفيه بيتقفل، خاصة إنها بتقدم دعم الحكومة مش بتقدمه لستات اتعرضت لسفاح محارم أو عنف أسري. واحنا بنحاول نساهم في تطوير بلدنا، و زي ما رئيس الجمهورية اتكلم على دور المجتمع المدني، فأنا بقول سيبونا نعمل دورنا، واحنا لا شايلين سلاح ولا بندعو للعنف".
طال سليمان الأذى بشكل شخصي وصور عديدة مثل الاعتقال والتشهير، اللذان ولّدا في نفسها غضبًا يُثار من وقت لآخر "لما بشوف رجال مبارك وهما بياخدوا حريتهم، وبيتلغي تجميد أرصدتهم ومنعهم من السفر، لأني ماعملتش جرايم زيهم".
تغضب سليمان مما تعرضت له، ولو أنها بحسابات العقل كانت تدرك تبعات مواجهة السلطة "أنا وغيري كنا عارفين بالمنع من السفر واحنا برّه مصر، وقررنا نرجع. أنا شخصيًا كنت عارفة بالمنع وأنا في انجلترا، وقررت أرجع. لأني ولا مرّة عملت جريمة علشان أهرب منها، وبعديها صدر قرار المنع من السفر والتحفظ على أموالي".
بهذه القناعة عادت إلى مصر، وقررت اللجوء للقانون أولًا ضد تجميد أرصدتها "أخدت سند ضد البنك إنه ماعندهوش سند للتحفظ على الأموال"، ثم ضد تقييد حركتها "وقعدت سنة علشان يبقى معايا ورقة بتقول إني ممنوعة من السفر"، تكررها بلهجة استنكارية "سنة كاملة، وأنا محامية 30 سنة خبرة، بقعد سنة".
ومع الغضب، كانت هذه الأمور حافزًا لها لاستكمال رحلتها "وده اللي بنشتغل أنا وزملائي وزميلاتي عليه.. دولة القانون. أنا اتمنعت. طيب اتمنعت ليه؟ لازم يكون معايا سند".
ما تزال المحامية تخوض معاركها الخاصة حتى الآن ومنذ عام 2016، حين صارت متهمة في القضية 173 والمعروفة إعلاميًا بـ"التمويل الأجنبي"، وصدور قرار بالتحفظ على أموالها ومنعها من السفر منذ ذلك الحين.
وهنا تعلق سليمان "مفيش حد بيقول لنا إيه هي الجرايم اللي احنا عملناها؟ طول الوقت ده كله". ومنذ إخلاء سبيلها عام 2016، لم تعد سليمان متهمة فقط، بل أيضًا هدفًا لتقارير إعلامية تشوّه سمعتها "اتقال طبعًا إني عميلة وعندي فلوس، وبتعامل مع قطر وإسرائيل وأمريكا، وده كلام غير موضوعي وغير قانوني؛ فطبعًا كان عندي غضب شديد جدًا".
رغم القضايا والغضب، لم تتوقف الحقوقية عن استكمال المقاومة "برفع كل شوية دعوة لرفع المنع من السفر ورفع التجميد عن أموالي"، كما لم تتوقف عن مشوارها المهني "ومع الزمن الغضب هدي شوية، وبعمل نجاحات تانية. أنا مقاتلة ومينفعش أتكسر وأسكت. فحاليًا بقيت بساعد أكتر ومكتبي مفتوح أكتر. وأعتقد مساهمتي وزميلاتي وزملائي في قضية فيرمونت وأحمد بسام كانت حاجة عظيمة".
مش لوحدي
سليمان التي فازت في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بالجائزة الفرنسية- الألمانية لحقوق الإنسان ودولة القانون لعام 2020، تقديرًا لمجهوداتها في المجال الحقوقي سواء السياسي والقانوني أو النسوي، لا تشعر بالامتنان للفوز بالجائزة فحسب، بل ولتوقيت الإعلان عنها أيضًا، فتقول "الجايزة في الوقت الحالي ليها معنى كبير جدًا. يعني أنا 4 سنين حساباتي متجمدة، و4 سنين ممنوعة من السفر؛ وبالتالي مبعرفش أشتغل كويس لأن أغلب شغلي مع مكاتب الأمم المتحدة حول العالم. فالجايزة ليها معنى كبير جدًا؛ مبسوطة لأن حد شايفك وبيقولك احنا ممتنين لشغلك".
وعلى الرغم من إعلامها بالترشيح، إلاّ أن سليمان لم تكن تتوقع الحصول على هذه الجائزة التي تمنح منذ 2016 بصفة سنوية لثلاثة عشر حقوقيًا في كل مرّة، وسبقها في الحصول عليها من مصر زملاء لها هم: المحامية راجية عمران (2017)، ومدير المفوضية المصرية لحقوق الإنسان محمد لطفي (2018)، وفريق مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب (2019).
هذا التقدير الدولي الذي بث السعادة في نفسها، كان نفسه ما أشعرها ببعض الألم، تصفه بالقول "ده بيحصل في الوقت اللي نظام بلدك بيعاقبك وبيتهمك بالخيانة والعمالة. فكان طبعًا شعور صعب جدًا، إنك تبقي مش متقدرة جوه، بينما الناس برّه مقدرين شغلك".
"أنا مش لوحدي".. بهذه العبارة تعلّق على تكريمها "أنا متشافة، متقدرة، إسهاماتي واضحة في بعض التغييرات، لأني بشتغل كمان على تغيير السياسات، وبوصلتي حقوق الإنسان وسيادة القانون. علشان كده لما بمر بفترات انكسار أو قهر أو إحساس بعدم الإنصاف، وألاقي حد بيطبطب عليا ويقولي إنتي مش لوحدك؛ ده بيخليني أستمر في المعارك، سواء لتغيير سياسات وقوانين، أو دعم ضحايا و ستات مش قادرين يوصلوا للعدالة".
هموم نسوية
تفخر عزة سليمان بما حققته وزملائها في مثل هذه القضايا التي شغلت الرأي العام وتحتفل مؤسستها الآن بإنجازها في واحدة منها، إذ ترى فيها إيجابيات رغم الآلام "مي تو المصرية وقضايا التحرش اللي اتكشفت مؤخرًا. أعتقد دي حاجة إيجابية، إن الضحايا يخرجوا من التروما (الصدمة) ويحاولوا يلاقوا طريق للنجاة. ده مهم جدًا. وببقى فرحانة ببنات قُصّر في قضايا جنسية، مُصرّين يروحوا للنائب العام ويحكوا. دي حاجة مفرحة بكل الآلام اللي فيها".
تفرح الناشطة النسوية بما يشهده ملف العنف الجنسي مؤخرًا من تطورات إيجابية "وشيء مفرح وجود المنصات الإلكترونية اللي بتشتبك مع بعض الدُعاة اللي بيستخدموا الخطاب الديني مسلم أو مسيحي، أو الخطاب السياسي أو الاجتماعي والثقافي المحافظ. البنات بقت تشتبك معاه بشدة".
لكنها في الوقت نفسه تتساءل عن أدوار بعض الجهات المسؤولة "احنا فين؟ البرلمان فيه عدد النساء كبير وهايل. وعندنا أمل في البرلمان الجديد يتبنى قضايا وتشريعات متعلقة بالنساء، أو قوانين ليها أبعاد جندرية وحقوقية متعلقة وتؤثر (إيجابيًا) على النساء ووضعهن. لأن للأسف البرلمان السابق ماعملش ده، كان متبني أجندة الدولة وتشريعاتها".
لا تُثار التساؤلات في ذهن الحقوقية عن السلطة التشريعية فحسب، بل عن جهة أخرى كانت تتوقع منها عكس ما تراه الآن "للأسف الشديد، المجلس القومي للمرأة اللي المفروض يشتغل على السياسات، مابيشتغلش على السياسات، بل بالعكس هو بيتعامل بشكل غير مهني، وأحيانًا بيتبنى خطاب محافظ تجاه المرأة، زي مثلًا كلامه عن ضرورة التزام البنات بقيم الأسرة".
تعلّق المحامية باستنكار "قيم الأسرة اللي هي إيه؟ اللي احنا أصلًا كقانونيين بنطعن عليها بعدم الدستورية، لأنها كلمة مطاطة. أعتقد إن الآلية الوطنية لازم تفوق وتشتغل على تغيير السياسات، وإيجاد المفوضية الخاصة بعدم التمييز".
تحلم السيدة بإيجاد آليات لمناهضة العنف ضد النساء، وهذا بالتوازي مع مجهودات شخصية منها، كان أحدثها ما تبذله في قضية فتاة ميت غمر، ضحية التحرش الجماعي، وعنها تقول "بنقدم لها دعم نفسي، وبنحاول نقدم دعم اجتماعي. هي هتاخد وقت بسبب التروما، لكنها أهدى دلوقتي وحاسة إنها في أمان، وأهلها واقفين وقفة كويسة جدًا رغم إن عليهم ضغوط، لأن تم طردهم من البيت، للأسف الشديد".
هذه القضية وما أحاط بها من ملابسات وسياقات دفعت الحقوقية الآن للحديث عن تغييرات تراها حتمية "لازم نشتغل على رفض فكرة التطبيع مع العنف ودعم المتحرشين على حساب الضحايا. يعني اللي بيقولوا الشباب هيروحوا في داهية علشان بنت.. طيب ليه مفيش كلام عن اللي اتعرضت له البنت؟ الاستباحة دي جاية منين؟".
تُجيب المحامية عن أسئلتها وتقول "أعتقد لأن ماعندهمش إحساس بدولة القانون، وإنهم هيتعاقبوا وفيه مجتمع هيحتقرهم. لأ، ده فيه تطبيع مع العنف، ودعم من المجتمع للمتحرشين اللي هما مجرمين ولازم يدفعوا التمن".
لا يحتاج ملف العنف الجنسي لتغييرات على مستوى النظرة المجتمعية فقط، بل الأهم تغييرات تشريعية، وفقًا لما تراه سليمان، خاصة بعد حملة مي تو والقضايا التي توالت مؤخرًا "الجرايم كانت مختلفة، يعني فيه تحرش واغتصاب وهتك عرض؛ وده بيتطلب إننا نشتغل على التعريفات داخل قانون العقوبات، لأن حتى الآن ما زالت التعريفات المتعلقة بالاغتصاب مثلًا تقليدية جدًا وتشترط الإيلاج، بينما رأينا حالات اغتصاب بآلات حادة مثلًا".
حين تتحدث المحامية عن التطوير والتجديد، تستعين في حديثها بما فعلته السلطات بالفعل من تجديدات، قائلة "وزارة العدل بدأ يبقى عندها آليات إلكترونية في التقاضي، ودي خطوة مهمة محتاجين نعززها مع قضايا النساء في زمن كورونا، لأن مع انتشاره الستات دفعت التمن كبير جدًا، فالعنف ضدهم زاد، وقضاياهم اتأخرت، وده أمر صعب خاصة في حالات الخلع أو النفقة".
الهموم التي أثارها حديث عزّة سليمان لم تكن على المستوى النسوي فقط، فهو جزء من مجتمع أكبر يعاني المشكلات، تقول عنها "الوضع الحقوقي في مصر صعب جدًا للأسف الشديد. أي حد ممكن يتقبض عليه بتهمة نشر أخبار كاذبة، وده حصل مع أطباء اتكلموا عن إحصائيات متعلقة بكورونا. فالوضع للأسف محزن وصعب ومخيف".
الأوضاع الحقوقية في مصر لم تلق انتقادات عزّة وحدها، فقبلها كان للبرلمان الأوروبي كلمته، حين صوّت في 18 ديسمبر 2020، وبالأغلبية، على قرار يدعو لمراجعة العلاقات مع مصر بسبب "أوضاع حقوق الإنسان المتردية في مصر".
تعلّق مديرة سيولا على هذا القرار، قائلة "أتمنى إن يكون لهذا التصويت تأثيره على بعض الإصلاحيين في النظام المصري، بالنظر للقضايا السياسية التي تضم مدافعين ومدافعات عن حقوق الإنسان. فيه محبوسين كتير بلا أسانيد قانونية، وبدأ الحبس الاحتياطي يتحول لعقوبة. لازم نتكاتف لتصليح صورة مصر في ملف حقوق الإنسان. وأول مستفيد هيكون النظام نفسه".
الهموم التي يعانيها المجتمع المدني لا تأت من خارجه فقط، إذ شهد وقائع وصراعات داخلية لم يكن الحديث عنها بالمألوف مجتمعيًا، مثل انتهاكات داخل مؤسساته، حيث كانت عزة سليمان ضمن لجنة التحقيق في واقعتين متعلقتين بالتحرش الجنسي. ومن واقع تجربتها تؤكد أن هذه اللجان "مهمة وتساعد أطراف الواقعة على الوصول للعدالة، ويتم تشكيلها من خارج المؤسسة، وبمعايير أهمها موافقة جميع أطراف النزاع على أعضائها".
وفقًا للحقوقية "تُنصف اللجان أطراف الواقعة"، خاصة وأن نتائج تحقيقاتها لابد وأن تُعلن، رغم أنها "مؤلمة للمشتغلين بها، لأنها تضطرهم لمعرفة تفاصيل توّلد لديهم غضبًا"، لكنها أيضًا "تخلق أفكار حول تطوير أدوات العمل في مثل هذه الملفات" من قبيل تطوير آليات التحقيق والوصول للأدلة وتعديل التشريعات، على حد قولها.
فيه أمل
تتحدث عزة سليمان عن تجديد الآليات وتحديث التشريعات ضمن أحلام أخرى تتمنى تحقيقها، ذكرت العديد منها، قائلة "بنحلم بالحرية. أهم حاجة الحرية للستات، التعامل معاهم كمواطنات داخل البلد مش بمنطق أمي وأختي وبنتي. لأ، تكون مواطنة، مواطنة داخل أسرتها وخارج أسرتها، والنظر للتشريعات".
"في رأيي الوضع صعب جدًا".. تقول المحامية الحقوقية، لكنها ما زالت تحتفظ بالأمل الذي ظهر في حديثها وما اتخذته من إجراءات أيضًا "وسيولا بتحتفل بـ25 سنة، أعلنّا عن حملة لقانون أحوال شخصية لكل المصريين والمصريات، قائم على الحرية والمساواة والإنصاف والعدالة. ده بنحلم بيه مع قانون لمناهضة العنف ضد المرأة بكل أشكاله، وقانون لحماية الشهود والمبلغين".
الأمل ليس في سن تشريعات فقط، بل في حدوث تغييرات أخرى لم تختتم سليمان الحوار إلاّ بذكرها "تغيير الخطابات الدينية والإعلامية والتعليمية. بل، وخطاب الدولة نفسه في قضايا النساء".