في سياق عالم الفن المعاصر، تصف محررة الفنون التشكيلية الأمريكية نانسي بريننتال علاقة الكلمات بالصور من حيث الصراع أو المنافسة بقولها "لقد انتصرت الكلمات"، لكن هل العلاقة بين الطرفين عدائية بالضرورة؟
يعتبر الكثيرون أن الكلام والكتابة ردّا فعل طبيعيين عند مشاهدة الأعمال الفنية التشكيلية، تمامًا كما نرغب في مناقشة وتقييم فيلم أو رواية أو وجبة أو مباراة كرة قدم أو قَصَّة شعر جديدة لأحد الأصدقاء. وعندما يكون الفن صعبًا أو غير مألوف، تكون اللغة المناسبة بعيدة المنال، في مثل هذه الحالات، ثمة حاجة إلى قدر أكبر من الكلام، ربما تأويل ولو على نحو مؤقت، لا بأس، طالما يتوافق مع العمل الفني.
عند قراءة الخطاب الفني، نتعامل مع ما أسماه النحات والمصور الأمريكي روبرت سميثسون (1938-1973) "متحف اللغة في محيط الفن"، فالمشكلة ليست أن الكلمات تتعارض مع الصور، هذه وضعية أبدية، لكنّ الإشكالية الحقّة هي عندما تكون اللغة التي تتناول العمل الفني والصور، مجانية أو ليست منطقية، فمن المحتمل أن تكون مدمرة.
الكلمات أم اللوحات؟ أيهما الأكثر أهمية؟ هو السؤال ذاته الذي ناقشه فيلم Words and Pictures (2013) للمخرج الأسترالي فريد سكيبسي، ومن خلاله يدور نقاش بين مدرب فنون ومعلم لغة إنجليزية، ينتهي بمسابقة في مدرستهما يقرر فيها الطلاب ما إذا كانت الكلمات أو الصور أكثر أهمية.
بطبيعة الحال، اللوحة كالنصّ الأدبي، كالأغنية، كالشريط السينمائي، خطاب يمكن أن يتحاور مع غيره من الخطابات، ويمكن أن تُقيم معنا كمتلقين حوارًا خاصًا، تبوح ببعض ما تحمل ألوانها، وما تفيض به رؤيتها، دون أن يكون ذلك واعيًا في ذهنية الفنان.
ومؤخرًا، برز مصطلح "المحادثة مع العمل الفني"، وعلى الرغم من معناه المائع العصيّ على التأطير، فإنه يشير إلى الجدل المستمر في الساحة العامة، وأيضًا إلى مصفوفة التأثيرات على التطور الإبداعي لفنان معين، ونعتقد أنه تطور طبيعي لمفهوم الحوار الباختيني في العمل الأدبي، نسبة إلى الفيلسوف والمنظر اللغوي الروسي ميخائيل باختين (1895 - 1975).
هنا، نبدأ في تدشين "المحاورة" مع معرضين فنيّين جريئين، هما أحدث معارض الفنانة والأكاديمية المصرية سما يحيى "بلد المحبوب- حكاوي القهاوي" الذي أقيم في جاليري الأتيليه بوسط القاهرة من 6 إلى 18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ويجمع بين التصوير والتشكيل، وأفردت فيه مساحات خاصة للحوار، بوصف لوحاتها خطابات متجاورة، تشكل في العموم خطابًا ذا رسالة جمالية ومضامينية في الوقت نفسه.
من المؤكد أن إقامة معرضين متوازيين متداخلين يجري تلقيهما بوصفهما ساحة فنية واحدة، هو "مغامرة فنية"، خاصة وأن بإمكان المتلقي التعبير عن الرؤيتين في إطار واحد، متاح للزائر أن يدمج بين قسمي التصوير والنحت بالأدوات المصنعة والمواد سابقة التجهيز، في عبارات واحدة، هل يمكن القول إن الرسالتين متكاملتان؟ في اعتقادنا ذلك وارد.
في القسم الأول، حين يدخل الزائر من باب قاعة العرض في أتيليه القاهرة، سيرى في مواجهته لوحتين ستفرضان الرؤية الكلية للمعرض، أو على الأقل لهذا الجانب من المعرض "بلد المحبوب"، سيكونان بدء المحادثة التي أشرنا إليها من قبل.
تقدم اللوحة الأولى فتاتين بملابس منزلية، سيدتين قاهريتين، تدل على هذه الهوية أزياؤهما وديكور الحيز الذي يشغله "سرير عمدان" بـ"عساكره" دون أثر لـ"الناموسية"، وفي الخلفية يبزغ هلال وسط أجواء ليست صافية، بقدر ما تميل إلى السخونة.
بجانب لوحة الفتاتين، تنتصب اللوحة الثانية التي تقترب في مقاساتها من المشهد السابق، يتوسطها هرم تحيط به تعبيرات صاخبة وساخنة، مع طغيان للون الأحمر بدرجات متباينة، لنصبح منذ تخطي العتبة في قلب القاهرة ونسائها، القاهرة التي يصفها الشاعر المصري الراحل سيد حجاب بـ "الساهرة الساخرة الآسِرة الهادرة الساهرة الساترة السافرة".
إذن نحن في رحاب القاهرة وزحامها، والنساء الساكنات أطر اللوحات هن نسوتها، بما تبديه رسامتهن فيهن من جمال شعبي، وإكسسورات تشير إلى زمن سابق، ليشبهن نساء الفنان المصري الراحل محمود سعيد، ربما بسبب الانتماء الطبقي ذاته، الطبقة الشعبية، لتنقل ملامح هذا الواقع على الوجوه، وإن تباينت المناطق، إسكندرية عند سعيد والقاهرة عند يحيى.
تقاطُع عنوان المعرض مع أغنية على بلد المحبوب (1935) لأم كلثوم، والتي كتبها أحمد رامي ولحنّها رياض السنباطي، ليس اعتباطيًا ولا استفادة من عبارة شهيرة حد كونها أيقونة عند سماعها ترن في الأذن فورًا الجملة اللحنية التي احتراها السنباطي على مقام البياتي، مقام الشوق والحب والعتب، ويحمل إحساس النداء والانتظار واللهفة، إنّما هو الاختيار الذي يخدم رسالة المعرض وتفاصيل محاوراته مع المتلقي، عبر شقي القسم الأول الذي تصور نصف لوحاته المرأة الشعبية والنصف الآخر قوراب ومراكب مبحرة.
نساء القاهرة في بلد المحبوب يعشن "صدى الهمس في الزحمة و الشوشرة"، ويطالعن من نوافذ أو يتطلعن إلى مجهول بعيد، يترقبن عائدًا، أو ثلة من العائدين، دون أن تشير العيون إلى أي ملمح لصدق تحقق العودة. وعلى النقيض، تشع العيون بحزن يُخفي الابتسامة، ورغم الاستعداد الجسدي لبعضهن لمواعدة آخر، وما تفيض به الأجواء من عطش جنسي أحيانًا للمحبوب، فإنه ظمأ لا يرتوي، وعروق لا تبتل "تتمنى عيني رؤياك، أشكي لك وأنت تواسيني".
الطبيعة جميلة حقًا، لكنّها لا تزال تحمل عيوبًا وعيوبًا، غير محسوسة للإنسان العادي، ومرئية مجسدة للفنان الذي يحاول أن يفرض فكرة الشكل الجميل بالطبيعة؛ "يصحح الطبيعة، ويُغيّر من حالتها غير الكاملة سعيًا نحو وضعية أكثر كمالًا، يصنع فكرة مجردة، أشكالًا أكثر كمالًا من أي أصل واحد"، على حد قول الرسام البريطاني السير جوشوا رينولدز (1723-1792)، إنه مبدأ الفن العظيم.
وفي الجزء من "بلد المحبوب"، تتوراى النساء وتحضر مراكب في لقطات مختلفة، ومن زوايا عدّة، وكأن العيون تشكو للمراكب "أسى الوحدة في اللمة والنتورة"، وتنظر نساء القاهرة إلى القوراب، تفيض نظراتهم بالشكوى بعد أن "زاد وجدي والبعد كاويني"، متطلعة إلى ما يحمله خشب السنط من "ريحة الأحباب".
إلى من تتطلع نساء القاهرة؟
لا أحد، الأمر أشبه بمسرحية البريطاني صمويل بكيت في انتظار جودو، فمثلما كانا رجلا بكيت ينتظران جودو الذي لا يأتي أبدًا، تُخيّب المراكب رجاء نسوة القاهرة، لتبك عيونهن، وتزيد الشكوى وتشعل نار البعد، لتستمر اللهفة دون انقطاع.
من لهذا الجوع العاطفي والجسدي؟
لا أحد، المراكب جميعها خالية، لا تحمل أي شخص، رجلًا أو امرأة، مراكب تائهة، لا ربان ولا مسافرين على متنها، خاوية على أشرعتها، تؤكد أن العيون المتطلعة لا تنظر إلا للسراب، وما تحلم به الأنفس ليس سوى أوهام.
في منتصف القاعة، وضعت سما يحيى مجسمًا لمركب يحمل بعض الأشخاص، لكنّ الرسالة منذ البداية واضحة، لا يحمل المركب سوى منحوتات لسيدات أخريات، ربما قررن الذهاب إلى عشاقهن بأنفسهن، و"على بلد المحبوب وديني"! فتغادر المركب الخشبية المحملة بالنساء، وما عليها من تمائم قد تجلب الحظ، وتمنع العيون الحاسدة، فيما تبقى نسوة القاهرة أسيرات إطارات الصور، جائعات للهوى، هل يمكن أن نقول إنهن نسوة عرق البلح، فيلم المخرج الراحل رضوان الكاشف في حُلى جديدة؟
نعود إلى حيث بدأنا، عن تجاور رؤى الفنان والمتلقي، والأخير متعدد بعدد الذين يتعاطون العمل الفني، وجوهر الفن يكمن في هذا اللعب بين منشأ الخطاب الأول ومتلقيه، ليصبح الأخير بدوره منشأ جديدًا ومبدعًا يعيد خلق العمل وفق تصوراته وثقافته، إنه أمر حيوي، فالنقاش المستنير الدائم متباين الأراء هدف العملية الفنية، فالفنّ لا يتحدث عن نفسه، ولا يُجيب عن جميع الأسئلة التي يطرحها، لا بد إذن من الاختلاف، فالإجماع في النقد ممل ومميت.
حين نسأل سما يحيى نفسها عن "بلد المحبوب"، تجيبنا أنه بمثابة "وطن كامل يعيش حالة من الاسترخاء بعد يوم عمل شاق وطويل، فتأتي النساء رقيقات إلى هذا الحد، يمكثن في الرخاوة والهدوء"، بينما ترى أن "منحوتة المركب التي تحمل البنات تؤكد بوضوح أنّ المرأة هي التي تقود مركب الحياة من البداية للنهاية لتصل بالأسرة إلى برّ الأمان لأداء دورها الكامل".
في الجزء الثاني، أو بالأحرى المعرض الثاني الملحق "حكاوي القهاوي"، سنصبح في دوامة الرجال المنفصلة عن عالم النساء في "بلد المحبوب"، انفصالًا رؤيويًا ومكانيًا، إذ يُقام القسم الثاني في قاعة أخرى، قاعة تحية حليم، وتبقى النساء في دائرة الشوق بينما يعيش الرجال في عالم المقهى وما يحمله من دلالات الصخب؛ اللعب والفتونة وسوق العمل، مرة، ودلالات المؤقت والعابر مرة أخرى، فالمرأة في واديها والرجل في معاركه الجادة واللاهية، وبينهما برزخ لا يلتقيان.
لن تخرج من "بلد المحبوب- حكاوي القهاوي" كما دخلت، بعد أن حررك التجسيد في كل هذا الفراغ من الأحكام المسبقة والتأويلات الجاهزة، متنقلًا بين البساطة والتنوع، التماثل وعدم الانتظام؛ اللوحات التي تصور مشاهد مألوفة أو منحوتات تبدو غريبة؛ مشكلة بين الفظّ والخصب المزروع بالنماء، ومدركًا وجوب ألا يوجّه الفن للعيون فقط، لكن من خلال العيون للخيال.