يصرّ هذا العام الكئيب على عدم الرحيل قبل أن يحصد المزيد والمزيد من القامات الكبرى التي أضافت الكثير إلى حياتنا الفكرية والأدبية والسياسية، ففي ثلاثة أسابيع فقط رحل مصطفى صفوان وسعيد الكفراوي ومحمد الجميعي ورفعت سلام، وعلى مدار العام لم يتوقف قطار الموت عن التهام هؤلاء الذين يبدو أنه يختارهم بعناية.
أما رفعت سلام الذي غادرنا أول من أمس، فيعرف الجميع أنه كان على وشك الرحيل بعد إصابته بسرطان الرئة، وبعد أن فشل علاجه وتدهورت حالته بسرعة، ومع هذا بدا موته كأنه مفاجأة، فقد كان أصدقاؤه يتمنون أن تحدث معجزة ما ويبقى قليلا، ليمنحنا أعمالا أخرى كعادته، فهو أكثر وأغزر أبناء جيله إنتاجا في الشعر والترجمة والنقد والعمل الثقافي الجاد والمتواصل على مدى تسعة وستين عاما.
تربطني برفعت سلام علاقة طويلة، فنحن معا من أبناء سبعينيات القرن الماضي، ومررنا بالطبع بالأحوال والوقائع ذاتها، وكان رفعت تحديدا من الذين أصرّوا منذ اللحظة الأولى على عدم الانتماء للمؤسسة الرسمية، لذلك كان من بين هيئة تحرير مجلة إضاءة 77 وكتابات، وهما مجلتان صدرتا أساسا لتأكيد الاستقلال في وقت مبكر، وكانتا من بين الموجات المتلاحقة التي سادت خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي لمجلات الماستر، وكلها شكّلت ملامح مقاومة ثقافة عصر الانحطاط الثقافي خلال حكم أنور السادات ومن تلاه.
ومنذ وقت مبكر، عكف رفت سلام على الإنتاج، وربما كان من أكثر أبناء جيله إنتاجا، ليس في الشعر وحده، على الرغم من أنه كان أحد أكثر أبناء السبعينيات تميزا وغزارة، وأصدر تسع مجموعات شعرية منذ "وردة الفوضى الجميلة" 1987 وحتى مجموعته الأخيرة "حجر يطفو على الماء" 2008.
وإذا كانت العلاقة التي تربط بيننا لا تسمح إلا باللقاءات غير المنتظمة، إلا أنه ظل بالنسبة لي الأحرص على الوقت والعمل المتواصل والمحتشد بالأسئلة التي لم يكتف بطرحها فحسب، بل حاول أيضا أن يجيب عليها عبر الإنتاج. فعلى سبيل المثال أصدر عام 1990 كتابه "بحثا عن التراث العربي- نظرة نقدية". وكان هذا الكتاب بالنسبة لي مدخلا لتناول وفهم قضايا عديدة في التراث العربي الذي لم ينل مايستحقه من اهتمام ومعرفة كثير من مجايلينا، وخضنا نقاشات مطولة حول هذا الكتاب تحديدا، وأظن أنه أفادني إلى أبعد الحدود في قضايا منهجية.
غير أن أهم ماينبغي التوقف عنده هو دوره بالغ الأهمية والتأثير في الترجمة من الإنجليزية والفرنسية. والحقيقة أن رفعت أسدى للأدب والثقافة العربية الكثير مما كان ينقصنا من الأعمال الشعرية على وجه الخصوص.
رفعت ترجم وحقق الأعمال الكاملة للشاعر السكندري قسطنطين كافافيس، بما في ذلك قصائده غير المكتملة أو تلك لتي لم يكن قد رضي عنها، والأعمال الكاملة لبودلير، وهما عملان لا حدود لأهميتهما بطبيعة الحال، وترجم دواوين لبوشكين وماياكوفسكي وليرمنتوف وديوانين لريتسوس، ومجموعة شعرية لشعراء من كرواتيا، كما ترجم كتابة نقديا عن الإبداع القصصي عند يوسف إدريس لكربرشوبك.
وله أيضا ثلاثة كتب تشكّل إسهامه الفكري والنقدي هي المسرح الشعري العربي وبحثا عن التراث العربي: نظرة نقدية منهجية، وبحثا عن الشعر.
أي أننا نتحدث عن اثنين وعشرين كتابا سواء كان مؤلفا أو مترجما، إلى جانب مراجعة ثلاثة كتب هي قصيدة النثر لسوزان برنار وبرنار نويل وثلاثية الكالباس الروائية لجان ديفاسا نياما.
ومن بين أياديه البيض على الثقافة لعدة سنوات، توليه لرئاسة تحرير سلسلة "آفاق عالمية" التي شهدت إبان توليه تدقيقا في الاختيار، وإصدار أعمال جديدة من الأدب العالمي، اكتشف خلالها جيل حديد من المترجمين الشباب الأكفاء، بل وأضاف سلسلة جديدة على هامش آفاق عالمية هي سلسلة "المائة كتاب" تصدى من خلالها لإعادة ترجمة أعمال كانت قد صدرت وبها تدخل بالحذف والإضافة مثل رواية الصخب والعنف لفوكنر والمحاكمة والمسخ لكافكا والغريب لألبير كامي والأب جوريو لبلزاك وزوربا اليوناني لكازانتزاكيس وفي انتظار جودو لبيكيت وحكايات بورخيس... وغيرها.
اختار رفعت سلام مايمكن أن يطلق عليه دون أي تجاوز، الصناعة الثقيلة، الإضافة، القيمة، مايبقى طويلا ومانحن في احتياج إليه، ولم يلتفت إلى جهوده إلا المسؤولين عن جائزة كافافيس ومنحوه إياها، أما المؤسسة الرسمية، فلم تلتفت إليه، وفي نفس الوقت لم يكن هو ينتظر منها جوائز أو تقدير وتكريم كان يستحقه، لكنه لم يضعه في اعتباره، وترك لنا ماتحتاج إليه أجيال قادمة من المعرفة والوعي: اثنان وعشرين كتابا خلال رحلته.
الصديق العزيز رفعت سلام.. لقد أبليت بلاءً حسناءً.. ارقد في سلام ولروحك السكينة.