حينما يتعمّد فنان سواء كان رسامًا أو أديبًا أو سينمائيًا تبنيّ ثيمة دينية واللعب على تنويعاتها بشكل فجّ، هل يكون أقصى همّه حينها تشويه أو ازدراء دينٍ ما أيًا كان، أم هناك محاولة ولو خفية لاستيعاب وفِهم ذلك المُعتقد من وجهة نظره، الأمر الأشبه بتفكيك طفل للعبة ولو باهظة الثمن كمحاولة فطرية منه لفِهم ماذا يقبع بداخلها.
في حوار مع قناة الجزيرة، شدّد رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون في أكثر من موضع، على أن الرسوم الكاريكاتيرية الأخيرة أو أي رسوم أخرى سبقتها ليس الهدف منها شنّ هجوم على الإسلام، وإنما هي مجرد ممارسة فنية لا يمكن للحكومة الفرنسية أن تمنعها، طالما الدستور يكفل للشعب هذا الحق. مُدللًا على وجهة نظره بأن رسّامي الكاريكاتير هؤلاء يهاجمون كل المذاهب؛ فهُم يسخرون أيضًا من الكنيسة الكاثوليكية وحاخامات اليهود، بل "يصل الأمر بهم أحيانًا للنيل من رؤساء الجمهورية الفرنسية أنفسهم".
هل يمكن للعرب الذين توجّه إليهم الرئيس الفرنسي بحديثه أن يفهموا اللعبة المقصودة؟
حينما سُئِل سلمان رشدي أثناء إقامته تحت حراسة خاصة لحمايته ممن أهدروا دمه، إن كان أخلص مشروعه الأدبي للطعن في الإسلام بكُتبه وعلى رأسها "آيات شيطانية"، ردّ مُستنكرًا على الصحفي بأنه أيّ إنسان غبيّ هذا الذي يهدر كل عُمره محاولًا هدم عقيدة؟
وفي مقدمة روايته "الإغواء الأخير للمسيح"، التي ضايقت المسيحيين الراديكاليين، يقول الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس"كل ما فعلته أني حاولتُ فهم ذلك اليسوع الإنساني وليس اللاهوتي الجبّار الذي ملأوا رؤوسنا به ونحن أطفال". ولم تكن رواية نيكوس مجرد عمل أدبي مُستفِز، بل حملت قصتها انتقادًا مباشرًا لجوهر العقيدة المسيحية، إذ حاول المؤلف عبرها سرد حياة موازية للأناجيل: ماذا لو ترك يسوع صليبه وآلامه وعاد ليعيش حياة هانئة فتزوج مريم المجدلية وأنجبت له أطفالًا وشاخ بينهم ومات ميتة طبيعية؟
ألا يُعد ذلك ازدراءً؟
من الظُلم القول بأن كل المسيحيين أزعجتهم الرواية، لأن هناك مخرج كاثوليكي، هو مارتن سكورسيزي، أُغرم بيسوع كازانتزاكيس، وجازف بتقديم النص سينمائيًا، وإن كان المتدينون، كاثوليك أو أرثوذكس، تجاوزوا نبرة نيكوس الأدبية واتخذوا قرارًا بإهمال مؤلفاته، فهُم لم يحتملوا ذلك المشهد على الشاشة الكبيرة حيث يقف المسيح "كرجُل له مشاعره وشهوته" أمام المجدلية "كامرأة فاتنة وليست مجرد مؤمنة". وثار المتحفّظون الأوروبيون حينها على سكورسيزي ونددت بالفيلم الكنيسة الكاثوليكية بالولايات المتحدة الأمريكية واصفة إياه بالمُهين. لكن سكورسيزي كان يعرف ماذا يريد من مغامرته وأدرك أنه لا يملك معركة معهم أو مع مسيحهم.
إذا كان للمُشاهد أن يُحاكِم ضمير المُخرج بناءً على مشهد صنفه كازدراء، فعلى الجانب الآخر يجب عليه أن ينظر للمشاهد النقيضة بمنطقه ذاته، مما سيضعه في حيرة إزاء أيديولوجية الفنان ومدى إيمانيته من عدمها. فسكورسيزي نفسه الذي عرّى المسيح مع المجدلية في فراشٍ واحد، قدّم فيلم "الصمت" المأخوذ عن رواية يابانية بنفس الاسم تدور حول الإرساليات اليسوعية لنشر المسيحية في اليابان، وكيف تعرّض أولئك الرهبان لعذابات وحشية في خدمة رسالتهم، وفي فيلمه "شوارع وضيعة" يهرب أحد الأبطال من الحانة للكنيسة واجدًا الملاذ من عالمه الصاخب المليء بالعصابات والدماء، وفي "الأيرلندي" ذهب بعض النُقاد إلى أن سكورسيزي تعمّد وضع مواقيت ميلاد واغتيال كل شخصية تظهر على الشاشة حتى ولو ثانوية، ترسيخًا منه لمبدأ العقاب الذي هو نتاج إرثه المسيحي.
يسوع اﻹنساني
تعود الحبكة اليسوعية/المريمية لتظهر في الأدب الأمريكي الحديث حيث وضع دان براون روايته الأكثر شهرة ومبيعًا شفرة دافنشي، بعد أن طوّر فكرة نيكوس كازانتزاكيس، أو نظرية الكأس المقدسة بشكل عام، والتي يرمز خلالها العلماء لمريم المجدلية بالكأس العظيمة، لأنها حملت أقدس نسل عرفته البشرية، نسل يسوع.
وعند براون اتخذت الفكرة بعدًا معلوماتيًا أكبر من التخييل القصصي، وكأنها توحي بوجود نسل مؤكد للمسيح تحاول الكنيسة الكاثوليكية إخفاءه ولو بتأجير قتلة ﻹنهاء منبته قبل أن يفتضح الأمر ويفقد حوالي 1.2 مليار مؤمن رباطهم بالعقيدة. لكن إذا أخذنا الرواية لأبعاد أعمق، سنجد أن الروائي الأمريكي لم يكن مجرد بهلوان ينسف بالديناميت أركان الفاتيكان، بل هو يرمي لفترة حرجة من تاريخ أوروبا كان مشاهير الرسّامين فيها يضطرون لمغازلة الكنيسة بلوحاتهم، وهو يفنّد أفكار الفاتيكان نفسها حول العِلم والكون ومنشأه وليست أفكار يسوع ذاته، إذ لا يملك مشكلة معه كنبيّ (لسلمان رشدي رد شبيه في علاقته بالنبي محمد).
كل ما أراده دان براون هو خلق مفارقة بين سلوك يسوع الإنساني وسلوك المؤسسة الكنسية الحالية ذات الفكر البطريركي السلطوي، وعلاقة الندية المألوفة بين الروح والعقل، تلك القضية بالذات تبلورت في روايته ملائكة وشياطين، التي تؤسس لإمكانية قيام فكر تديّني علماني لا يبخس قيمة شخصيات مثل جاليليو و كوبرنيكوس، ولا يصنّف نظرية الانفجار العظيم على أنها محض كُفر. وجدير بالذكر أن كلتا روايتيه تحولت لفيلم سينمائي ولم يُقابل أي منهما بسعة صدر عند قطاع الإكليروس (أصحاب الرتب الكهنوتية) وبعضهم خرج بمانيفستو مضاد لرواياته.
وفي سياق مشابه، سَخَّرَ الروائي الطلياني أمبرتو إيكو كل مجهوده الأكاديمي ليطعّم به روايته الأيقونية اسم الوردة، التي ترصد سلسلة جرائم تقع في القرون الوسطى، بدير معزول على جبل ناءٍ، لنكتشف في النهاية أن المُجرم واحد من الرهبان المُسنين الذين لا يعتقدون أبدًا في اقتران الفلسفة بالإيمان. هل يمكننا القول أننا بإزاء رواية يمارس رهبانها جرائم دموية وينامون مع نساء في حرم الدير؟ هل كرّس أمبرتو مئات الليالي من عُمره ليرسم رواية بورنوجرافية؟ قطعًا المسألة أكبر من هذا. حُوِّلت الرواية لفيلم هي الأخرى وانضمّتْ لقائمة الأفلام المغضوب عليها.
على طاولة التفكيك
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة للسينما الإيطالية التي تتحرر فيها من صوابية الفاتيكان، إذ قدّمت في عام 2008 فيلمًا ساخرًا بعنوان We Have A Pope وفكرة الفيلم حول البابا الجديد المُختار والذي تصيبه حالة ذُعر فيهرب تاركًا المقر البابوي ليحيا حياة عادية وسط الجماهير في البارات والشوارع والملاهي الليلية. يمكننا النظر للحدوتة من معيار أنها ازدراء بحت للقيم الكهنوتية وبالتالي للذات الإلهية التي يجسّدها الباباوات، حسب المفهوم الكنسي، لكن لِمَ لا يستطيع المُشاهد العربي مسيحيًا كان أو مسلمًا النظر لفيلم كهذا على أنه مأزق نفسي يمرّ به إنسان طبيعي؟
ثم تعود الأزمة الفاتيكانية ليقدمها من جديد المخرج البرازيلي فرناندو ميريليس، في The Two Popes وهو فيلم حواري تتلخص حبكته في سِجال طويل بين باباوين أحدهما يمثل الاتجاه التقليدي والآخر يمثل التجديدي، ولا غرابة أنه نكأ جروحًا وجرائم قديمة ظنت الكنيسة الكاثوليكية أنه عفا عليها الزمن: كاغتصاب الأطفال ودعم الحكومات الفاشية في أمريكا اللاتينية، لكن الفارق هذه المرة أن السيناريو يسمح للقطبين بالتلاقي وطرح كل منهما رؤيته الخاصة دون مصادرة لأيّ منهما، بل بشاعرية خدمتها أغاني فرقة آبا التي لم يتورع صُناع الفيلم عن تضفيرها مع مجتمع الكرادلة الصارم.
وليست الكاثوليكية فقط من وُضعت على طاولة التفكيك، فالمخرج اليهودي وودي آلن، من أكثر الفنانين الذين استطاعوا الوصول لنقطة تلامس بين غرسة الإنسان الدينية وتعارضها مع مواقفه الحياتية، وكثيرًا ما سخر من تأثير الجيتو اليهودي على طِباع أفراده في أكثر من فيلم له.
على سبيل المثال في فيلمه Everything You Always Wanted to Know About Sex نجد امرأة مُقبِلة على ممارسة الجنس الفموي مع زوجها لكنها تُتمتم قبلها ببعض التلاوات الدينية شبيهة بالتي تُقال على مائدة الطعام. وفي قسم آخر من نفس الفيلم يدور حول عاشقين غير متزوجين قررا ممارسة الجنس، يضع آلن عالمًا تخيّليًا للحيوانات المنوية، يبدون فيه كأنهم رواد فضاء يستعدون للهبوط من عضو الرجل لعضو المرأة، لكن عملية إنزالهم تصبح مُهددة وقاسية حين يحاول القُسس المسيحيون تعطيلها بأي وسيلة ممكنة، طالما أن العلاقة ليست في إطار الزواج.
وفي فيلم آخر له Crimes and Misdemeanors نجد البطل طبيبًا يملك سُمعة وأُسرة وأبناء، تهدده عشيقته بفضح علاقتهما فيلجأ للاستعانة بقاتل مأجور يُنهي حياتها، والمُلهم هو وضع آلن خط درامي موازٍ، يمثّل طفولة الطبيب التي قضاها بين عائلته اليهودية حيث مارس معهم كافة الطقوس والشعائر، وكأن العقبة التي تحول بينه وبين الخلاص من مصدر تهديده هو ثِقل القول التوراتي المُستدعى من ذاكرته الطفولية "لا تقتل".
خلاصة القول إنه مثلما للعقائد محضرها المقدس، فللفن أيضًا معبده الذي لا يمكننا الولوج إليه إلا بتشريعات صانعيه التي يعقدونها مع المُتلقي بشكل مُضمَر. وبالتالي يستطيع كل مُتحفظ يُغضِبه تعرّض الفن لإيمانياته الحسّاسة الانصراف عن مشاهدته أو التعاطي معه لكن وفقًا لقواعد لعبته، موسِعًا مداركه، تاركًا بالخارج اعتقاداته التي قطعًا تُخالف منطق الصُنّاع أو بالأحرى اللاعبين، الذين لا يقصدون في الأغلب أي ازدراء، لكنها لعبة بلا إجبار، ومن يتعطش للمشاهدة والمتعة وحده مَن يتلهّف ويدخل.