ليه من غير سبب محبوبنا يعادينا"
بعد ما بنى في قلبي المحبة مدينة
وفارق ليه مدد وفاضلين وحدنا أدينا
حتى الطيف رحل شاف وادي غير وادينا"
يبدأ الشاعر/ القوال (أبو الحسن) هذا الدور في إحدى الجلسات الشهيرة للنميم بأسوان، والنميم، هو الفن الذي يملؤه الشعر الخالص والهيام الواضح، وهو ما يشرحه الباحث والشاعر فيصل الموصلي "فن قولي شفاهي ابتدعته القبائل العربية في جنوب مصر كالجعافرة و العقيلات، والعبابدة والأنصار، والنميم حسب ما جاء في المعاجم اللغوية فهو "المنمنم" بمعنى المزخرف أو المرقش"، ومما يجعل النميم مختلفًا تمامًا عن الفنون الأخرى هو عدم مصاحبته ﻷي آلات موسيقية، فهو لا يعتمد إلا على نغم الأبيات، غير فن "الكف" مثلًا الذي يعتمد كثيرًا على آلة العود وباقي الآلات كالدف والطبلة، و"فرش وغطا" الذي اشتهر به الشيخ أحمد برين ومحمد العجوز، حيث كانت تصاحبهما اﻵلات أيضًا.
هذا الفن يشتهر في الجنوب ويعرفه أهله، وعلى اﻷكثر أهل أسوان والأقصر، والقليل من سكان بعض المدن الأخرى، لأنه غير منتشر بشكل كبير في باقي محافظات الصعيد.
على الحصير
يجلس الشعراء على حصير مفروش على اﻷرض وكأنهم على مسرح ما، إلا أن اﻷمر أكثر طبيعية وميلًا للبساطة، فقد يتناولون الشاي أو يدخن أحدهم سيجارة بينما يقرضون الشعر عفويًا.
بمجرد أن يقول القوال أو الشاعر الدور، الذي هو المقطع الشعري الذي يقوله الشاعر وعادة يكون وليد اللحظة، يلحقه شاعر آخر بدور مثيل يصب عادة في نفس الموضوع، ويلاحقهما ثالث، وهكذا إلى نهاية الجلسة.
ربما تبدأ الجلسة بذكر النبي محمد وآل بيته، ومن الممكن أن تبدأ كعادة العرب بذكر المحبوب والبكاء على ما تركه من أثر، ومناداته والقول بالشوق والعتاب مثلما همس القوال والشاعر أبو الحسن في أشهر جلسات النميم، قائلًا:
"قالوا لي مسافر زول تمومة ديني
يا شاغل الطريق أرجوك قوام عديني
وصلت وقولت له يوم السفر ناديني
في ساعة الوداع بسمة حنان اديني"
وقول الرائد أبو حديدة:
"صلوا على اللي آمنة ما رأت به وحمة
ضمين العالمين يوم اشتداد الزحمة
يوم يبقى العرق عوم وأم لهايب تحمى
يوقف طه بين باب السلام والرحمة"
وأيضًا قوله:
"أنا بمد العشرة اللي كانوا مع الرسول جُلاَّس (جالسين)
سعد مع سعيد وعثمان خالي الأدناس (لا يوجد به دنس)
أبو بكر وعمر وعلي، علي الباس (شديد البأس والقوة)
وطلحة مع الزبير والحمزة والعباس".
جلسة نميم ﻷبي الحسن وأبي اﻷمين
حتى بداية التسعينيات كانت هناك ليلة خاصة للنميم في الأعراس، حيث يلقي أهل المعنى (النميم) أشعارهم، ويأتي الناس للاستماع إليهم وتشجيعهم، وكانت الجلسة للرجال فقط، وربما يحضرها الأطفال مع آبائهم، لكن لم يُسمح للنساء بمبارحة المنازل لحضورها، وعندما حاولنا التفتيش عن سؤال "هل يوجد سيدات تقولن النميم؟" كانت الأجابة بنعم، لكن بدون ليلة أو مجلس وبالتالي ظللن مجهولات.
والآن مع مرور الزمن نُسيت تلك الليلة وأُهمِلت، فأصبحت المجالس تقام عندما يحدد لها شعراء النميم الوقت، ربما في مناسبة ما أو في الأعياد، لكنها في النهاية غير محددة المواعيد.
رواد النميم وكباره
يبدأ أبو الحسن، أشهر رجال فن النميم، بهذا الجر (المربع) السابق في جلسة من أشهر الجلسات وأجملها، والتي كان معه فيها أبو الأمين. في البداية يأخذك صوت أبو الحسن ويأسرك بجماله الذي يحمل دفء أسوان وتشعر فيها بشجن غير عادي، ولن يستوقفك جمال الصوت فحسب، بل يأخذك جمال الكلمات والصور، مما يجعل اﻷشعار متخيلة بشكل كامل أمام عيني المستمع، فيهيم الحضور وتجد منهم من يطلق صوته ويقول "الله"، ومن يعلق بتعجب شديد "يا سلام"، تجدهم يجلسون على الحصير في استمتاعهم كأنهم في إحدى المسارح الكبيرة، وكل شاعر يبدأ بجر النميم، أي بقول " الله ليل يا ليييل" وبعدها يقول كل منهم ما يريد.
ومن نميم (أبو الحسن) أيضًا:
"يوم ما بسافر له النفوس محتاجة
ينزل ع الرصيف لابس بديلته وتاجه
يوم صرخ العجل كل زول يناول حاجة
وأنا مش فاضي من قوله متين راح تاجي؟"
ومثلما ذكرنا أن أبو الحسن ربما يكون من أفضل قوالة النميم وأشهرهم وأحبهم للناس، لكن يوجد من هم أقدم منه ولم تسعفنا الفيدوهات بمشاهدتهم وسماعهم مثل عبده أبو حديدة، الفنان والقوال والشاعر الرائد في فن النميم، ومثلما قال لنا الأستاذ والباحث في فن النميم فيصل الموصلي، أنه عندما التقى بأبي الحسن سأله عن رأيه في أبي حديدة، وكان رده بأن الجميع لا يستطيع قول ما يقوله، وهو ما يراه الموصلي شهادة من كبير لكبير.
ولد أبو حديدة في قرية شاترمة، إحدى قرى عرب العقيلات في نصر النوبة بأسوان، وله جر نميم/مقطع، اشتهر كثيرًا لدى العامة وهو:
" قال لي بريدك يا ولد عمي
تعا شوف العسل سايل على فمي
على مهلك عليّ ما بحمل الضمي
على مهلك عليّ أنا حيلة أبوي وأمي"
أغنية نعناع الجنينة، من موسيقى الكف
والذي كانت ضمن كلمات أغنية نعناع الجنينة التي اشتهرت من خلال محمد منير، ونذكر هنا مقطع آخر من جر النميم الخاص بأبي حديدة:
" أنا بمدح العشرة اللي كانوا مع الرسول جُلاَّس (أي جالسين)
سعد مع سعيد وعثمان خالي الأدناس (أي لا يوجد به دنس)
أبو بكر وعمر وعلي، عليَّ الباس (أي شديد البأس)
وطلحة مع الزبير والحمزة والعباس".
أما أبو الأمين الذي كان له مدخل خاص به يشبهه وحده واشتهر به كثيرًا وهو "يا لولي.. طيب"، الذي يشعرك بالراحة عندما تستمع إليه وقد يجعلك تبتسم وتشعر بفيض الشعر يملؤك، فولد بنجع الغابة بمركز دراو، في أسوان، ومن نميمه:
"واقفين ع البحر والريْس بيعدينا
واحنا في استمارة الزايدين عادّينا
بقول له أنت ليه من غير سبب تعادينا؟
عدى العاشقين وأهل الغرام بعدينا"
وله أيضًا:
"ما دام في الدنيا نتحاسب حساب ميتين
ودايمًا في السفر نجلس معها متين (أي متى؟)
أنا لو سعدي خدم والخِضر يأتيني
والله العظيم ما أفوت بشاير التين".
ومن أرق وأجمل مقاطع النميم لأبي الأمين:
"يوم زعق اب عجل والأسطى زاد له وقوده
جيت بحر البلد شوفت المرخَّي عقودُه
طلعت ليه شواطين ع القضيب بتقودُه
ودعني وبكى وقال بالسلامة تعودوا".
ومن كبار شعراء النميم أيضًا نجد ،الليثي، الذي كان من نجع الغابة ولعله أعذبهم صوتًا، وله جر/مقطع يقول فيه:
"كداب اليقول جسمك صِلِب ما مالك (خاسر)
ومذهب أبوكي حنبلي ما مالك
أفوت عن بابكم واسمع كلام ما مالك (والدتك)
وعايز أكلمك ونكون تنين (اثنين) ما مالك (غير مالك)"
ونرى هنا في الشطر الثالث بدل ما يقول "أفوت عند بابكم" حذف الدال وجعلها "عن بابكم" حتى لا يكسر الوزن، ومن الغريب أنك لا تجد أحد من كبار النميم أبدًا يكسر الوزن، على الرغم من عدم درايتهم بالبحور الشعرية، ولكنها الأذن الموسيقية الفطرية ومحبة الشعر.
وآخر قوال نتحدث عنه هو شحات أبو عثمان، الذي اخترنا من نميمه مقطعًا واحدًا يمزج فيه الفصحى باللهجة اﻷسوانية ويستعير كذلك من إمرؤ القيس، فيقول:
"حلمي يزيد على الأحنف بن قيس مثقالي (مثقالة)
كجند المعتصم تلتف حولي رجالي
ساعة الهايجة (الحرب) تلقى الفرسة تتجفالي (ترتبك لي)
كجلمود صخر حطه السيل من فوق عالي".
أين النميم الآن؟
عندما سألنا الموصلي عن حركة النميم الآن، قال إنه اختلف كثيرًا عن زمن فات، فقديمًا كان للنميم ليلة كاملة من ليالي الأعراس، لكنه يقتصر الآن على "قعدة" أو سهرة لتبادل القول والاستمتاع به، وذكر لنا أسماء بعض كتاب النميم والقوالة المعاصرين، منهم عزت حسين موسى، ومحمد أحمد العبادي، وأسامة الجعفري، ومن الممكن أن تعرف أكتر عن النميم من خلال كتاب "حبابهُ عُشره" للموصيلي.
وعندما تطرقنا لرأيه في انتقال النميم من المحلية الخالصة في أسوان ليُعرف خارجها وإمكانية انتشاره أكثر، قال إن النميم مع جهد غير بسيط سينتشر ليصل للعالمية أيضًا، وأشار إلى نعناع الجنينة كمثال، كان لها فضل كبير على محمد منير ورفعت جماهيرته، فمن السهل عند إدخال الموسيقى والجهد المماثل للعصر الذي نعيش فيه أن ينتشر النميم ويتمتع به الناس ومحبو الفن والشعر، وهذا ما ننتظره.