تصميم: يوسف أيمن- المنصة

ميراث القهر: لماذا يبرر البعض العنف ضد اﻷطفال؟

منشور الثلاثاء 27 أكتوبر 2020

 خبر عودة فتاة إلى منزلها الذي هربت منه بسبب العنف اﻷسري، كان يمكن يستدعي بعض القلق تجاه سلامة الفتاة النفسية والبدنية بعد إعادتها إلى أسرتها التي كانت تمارس ضدها أشكالًا مختلفة من العنف، ولكن، على النقيض، عبَّر كثيرون عن غضبهم من رد فعل الفتاة، واصفين هروبها بـ "قلة الحيا"، وكان من بين التعليقات ما يُحرض على ممارسة المزيد من العنف ضد الطفلة، بل وقتلها، بالإضافة إلى تعليقات عديدة تسرد وقائع عنف تعرض لها أصحاب التعليقات في مراحل من حياتهم، معتبرين ذلك أسلوبًا تربويًا سليمًا، متباهين بأنهم لم يهربوا من العنف الذي تعرضوا له.

فتاة اﻹسكندرية واحدة من كثيرات تعرضن للعنف اﻷسري بحجة التأديب، ومثلها سارة عبد السلام*، 28 سنة، التي تحكي للمنصة "كنت بتعرض للضرب من أول ما وعيت على الدنيا تقريبًا، لحد تالتة ثانوي. كنت بنضرب بعصاية، أوقات أمي تضربني بإيديها لحد ما إيديها توجعها، وأوقات كانت تحرقني".

كانت والدة سارة تبرِّر العنف برغبتها في أن تصبح ابنتها أفضل حالًا "كانت بتقول إنها عايزاني أحسن واحدة، بس هي هزت ثقتي بنفسي، وفضلت لوقت طويل مش قادرة أتصالح مع فكرة إن المكان الوحيد اللي كان مفروض أحس فيه بالأمان، بيتي، كان بالنسبالي بيت رعب، كنت بحب أفضل في الشارع، وهربت من البيت وأنا عندي 11 سنة، عشان كانت أمي حالفة تضربني، كنت بحلم وفاكرة إني خلصت من التعذيب ده، فضلت ماشية لحد ما جاتلي ضربة شمس، وأغمى عليا، ولما فُقت لقيتني في البيت، ولقيتها قدامي، ساعتها الحلم إتقلب لكابوس". 

"عانيت من نوبات هلع متكررة لفترة طويلة من عمري، ومن اضطراب خدش الجلد وده لسه مستمر معايا وبحاول أتعالج منه"، هكذا تصف سارة الآثار النفسية التي لحقتها جراء العنف اﻷسري.  

وعن كيفية تعاملها مع الأمر فيما بعد، قالت سارة "كان نفسي ألجأ لحد، لعلاج نفسي بالأخص، بس مكانش ده خيار متاح، وقررت أساعد نفسي، قلت إني مش هبقى نسخة من أمي مهما حصل، إني هحاول أعالج نفسي بنفسي، وكان ليا ناس حواليا بتساعدني أكون أحسن، وعمري ما مديت إيدي على ابني (3 سنوات) ولا هفكر أعامله بالطريقة اللي اتعاملت بيها، بس لسه لحد دلوقتي كل ما أفتكر اللي كان بيحصل معايا مبقدرش أبطل بُكا". 

تقول دراسة للمجلس القومي للأمومة والطفولة بالتعاون مع اليونيسيف، إن ثلثي الأطفال الذي شملهم المسح في المنطقة محل الدراسة (القاهرة واﻹسكندرية وأسيوط) يتعرضون إلى العنف الجسدي، وأن 78% منهم كانوا ضحايا للعنف العاطفي، وأن 65% من الفتيات في القاهرة تعرضن لتشويه/ بتر الأعضاء التناسلية، ومثلهن 39% في الإسكندرية، و94% في أسيوط، هم ضحايا للإناث.

وبينت الدراسة أن واحدة من بين كل أربع فتيات تتعرض للعنف الجسدي في النطاق العمري من 15 إلى 19 سنة، كما أشارت إلى اعتقاد الغالبية من الأطفال والبالغين على حد سواء أن العنف وسيلة مقبولة للتربية. 

لماذا يُبررون العنف؟

استشاري الطب النفسي بمستشفى العباسية للصحة النفسية، الدكتور أحمد عيد، قال للمنصَّة إن أحد التفسيرات التقليدية في علم النفس لظاهرة قبول العنف، هو سلوك الضحية وتوحدها مع الجاني، حيث تشعر دائمًا بقوته ونجاحه في تحقيق مآربه، وبالتالي تلقى هذه السلوكيات القبول، ومن ثم التقليد بطريقة لا واعية، ظنًا منها أن ذلك الأسلوب هو الأمثل والأنجح لشيوعه، خاصة عندما لا تجد أسلوبًا آخر  يمكن مقارنته به.

 

صورة من بعض التعليقات على فيسبوك على عودة فتاة اﻹسكندرية

 

فيما ترى أخصائية الطب النفسي بوحدة الأطفال والمراهقين بمستشفى الصحة النفسية ببني سويف، الدكتورة نهال زين،  أن التماهي مع المُعتدي هو أحد الأعراض الجانبية للتعرض للتعنيف، فعند المرور بتجارب مثل التعرض للعنف أثناء مرحلة الطفولة، تتكون مشاعر ومفاهيم خاطئة عن هذا الفعل، وإن لم يتم علاجها وتصحيحها تتحول هذه الأفكار إلى معتقدات راسخة.

وضربت زين، في حديثها للمنصَّة، مثالًا "يعني لما الأب والأم يمارسوا العنف ضد الأبناء ويفهموهم إن ده عشان مصلحتهم، أو عشان بيحبوهم، وإن هم يستاهلوا ده ﻷنهم أشقياء، أو بيتصرفوا تصرف سيئ. بينتج عن ده اعتقاد راسخ بإن الضرب والعنف شيء كويس، وإنه تعبير عن الحب والاهتمام، ولازم لتقويم السلوك".

"من هنا تنتج لنا حلقة مُفرغة، تتحول فيها الضحية إلى جانٍ، فالذين تعرضوا للعنف على يد آبائهم، يكبرون ليمارسوا العنف مرة أخرى ضد أبنائهم، ما لم يتم تصحيح أفكارهم عن العنف وما اختبروه منه، والتعامل معها بشكل صحي"، تابعت زين، مفسرة رد فعل المبررين للعنف اﻷبوي في واقعة فتاة الإسكندرية.

إيمان عبد الناصر، 32 سنة، وقعت ضحية لهذا التماهي في تربيتها ﻷطفالها الثلاث"كتير بلاقي نفسي بقول الكلام اللي أمي كانت بتقوله ليا، بضرب بنتي الكبيرة زي ما هي كانت بتضربني، وبرجع أعيط لما أفكَّر تاني وأروح أصالحها بسرعة وده بيسببلها لخبطة في مشاعرها ناحيتي. أنا مش عاوزة أكرر معاها نفس اللي حصل معايا. عاوزاها تبقى أحسن مني".

وعن صراعها مع نفسها في تربية اﻷطفال تقول "لا يمكن واحدة من بناتي هتتعرض للختان زي ما حصل معايا. لا يمكن هقول لعيالي شكلكم وحش أو أكرّههم في نفسهم، بس بفقد أعصابي كتير وأوقات بضرب بنتي أو أقرصها وأرجع أصالحها وأتكلم معاها. شايفة فيها نفس عنادي ونفس شخصيتي. بس بحاول أديها الدعم اللي مالقيتوش وقتها. وجوزي بيساعدني إنه يتعامل معاها بهدوء وقت ما تغلط، وأنا بتحكم في أعصابي وبفكر كتير في الفترة الأخيرة قبل ما أتصرف غلط بقول إن ده مش أنا. وإن بنتي هتغلط وتعرف غلطها بس الضرب مش حل مهما كان".

 منى م. 29 سنة، وأم لطفلة (14 شهرًا)، تمر بظروف مشابهة "أنا بيحصل معايا كده، بابا كان بيضربني وأنا صغيرة وساعات كتير وأنا متعصبة بلاقي نفسي بضرب بنتي، بس طبعا بلحق إيدي قبل ما أضرب. ومرة واحدة بس ضربتها وقعدت أعيط لما هي عيطت، بس هي ضربة واحدة. بجد الموضوع مؤذي جدًا وأنا مش عاوزة أعمل معاها كده، بس هي دي الطريقة الوحيدة اللي أعرفها لتأديب الأطفال. ربنا يفتح قدامي السُبل الصح عشان أقدر أربيها تربية سليمة من غير ضرب أو أذية".

وتوضح الدكتورة نهال زين أن من الآثار السلبية للعنف، شعور الأطفال المعرَّضين لذلك بعدم الاستحقاق، وانعدام القيمة، وتوجيه الغضب نحو الذات أو الله، فالشخص الذي يتعرض للعنف يُفكر بأن الله تخلى عنه، باﻹضافة إلى تكرار النمط، فيُمارس الشخص المُعنّف العنف ضد الآخرين. 

التعافي من أثر اﻷذى

على عكس سارة، تمكَّن علاء السيد*،  25 سنة، من علاج آثار العنف، ويحكي قصته للمنصَّة "أبويا كان بيستمتع بضربي أنا وإخواتي، وكنت لما بستنجد بحد من قرايبنا يقولوا مالناش دعوة أبوهم وبيربيهم، لحد ما دخلت أولى كلية وكان لسه بيتعامل معايا بمنتهى الإهانة وقلة القيمة، وقتها قررت إني أتعالج عشان مكنتش بعرف أنام، ولا حاسس إني راجل، عشان طول الوقت خايف منه، ومجرد صوته كان بيخليني أرتعش. وقررت ما أرجعش البيت ده تاني، ومن يومها كل اللي بيني وبينه تليفونات، بطمِّن عليه من باب البِر". 

ويقول الدكتور أحمد عيد إن "الهروب من البيت هو أحد أشكال ظاهرة الجنوح السلوكي المعروف كأحد المشكلات النفسية في فترة المراهقة. ويعتبر شائع نوعًا ما، ومن أسبابه أن المراهق يرى الوالدين غير جديرين كقدوة، لأنهما لا يعترفان بأي خطأ، وتغيب عندهما أي مساحة حوار أو تفاوض".

وينصح عيد من يتعرضون للعنف بضرورة تكوين صداقات متينة ودافئة مع بقية أفراد الأسرة، مثل الخالة والعمة، وتكوين روابط مع مؤسسات موثوقة في المجتمع، وفي الحالات الشديدة والمهددة لأمان الطفل أو المراهق عليه اللجوء لخدمات حماية الطفل والدعم الاجتماعي في مصر، مثل الاتصال برقم نجدة الطفل 16000 وهو مدعوم بخدمة من إخصائيين اجتماعيين. ويمكن الوصول إلى صفحة نجدة الطفل التابعة للمجلس القومي للطفولة والأمومة من هنا.


اقرأ أيضًا: العنف في صالات تدريب الأطفال.. "اغتيال الشخصية" في طريق البطولة 


كما ينصح عيد الوالدين بقضاء وقت أطول مع أبنائهما، وتوزيع المهام المنزلية، مثل الترتيب والتسوق، لأنه هذا يشعر الأبناء بالمشاركة في المسؤولية والإنجاز، وأيضا إتاحة الفرصة للحديث عن المشاعر السلبية، والتعاطف معها، لأن هذا ينمي البصيرة داخل الطفل. 

الدكتورة نهال زين أكدت على أهمية اللجوء للعلاج النفسي حتى يتعافى المُعنَّفين من آثار الصدمة، ونصحت باللجوء إلى مستشفيات الأمانة العامة للصحة النفسية، التي تتوافر بها وحدات للأطفال والمراهقين، وذويهم، ويمكن للآباء اللجوء لها في مختلف المحافظات للحصول على المشورة والإرشادات اللازمة والنصائح لتربية أبنائهم، وحل المشكلات التي يتعرضون لها. 

كما يمكن للأطفال أو المراهقين الإستعانة بالخط الساخن لمستشفيات الأمانة العامة للصحة النفسية، وهو  متاح على مدار الساعة، مع وجود معالج نفسي لاستقبال الشكاوى أو تقديم الدعم اللازم للأطفال والمراهقين. 


* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر