في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول بدأت المحاكم تجربة جديدة بشأن تجديد حبس احتياطي لمتهمين في ثلاثة سجون مصرية. يمكن التأريخ لبداية هذه التجربة بعام سابق وتحديدًا مع صدور تعديلات قانون المحاكم الاقتصادية لسنة 2019.
وقتها أضحى "التقاضي الاقتصادي" الإلكتروني واقعًا لا يمكن تجاهله، إذ نص التعديل على إتاحة رفع الدعاوى وتداولها إلكترونيًا أمام المحاكم الاقتصادية لحين صدور الحكم فيها، ليسير بذلك التقاضى الإلكترونى جنبًا إلى جنب مع التقاضي التقليدي. وحاليًا يجرى تدشين البنية الإلكترونية اللازمة لبدء تنفيذ تلك التعديلات التي تم إنفاذها في أغسطس/ آب 2019.
كان الهدف من هذا التعديل تجريب التقاضي عن بُعد وتقييمه في المحاكم الاقتصادية لاستكشاف المميزات والعيوب من خلال الواقع العملي، تمهيدًا لإحداث تغيير جذري في بنية النظام القضائي المصري بالاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة في كافة جهات التقاضي.
الرغبة في التحول الإلكتروني قديمة، ولم يتوقف الفقه القانوني المصري منذ تسعينيات القرن الماضي عن التبشير بها وتوضيح أهميتها في التسهيل على المتقاضين وتقليل زمن التقاضي، وفي المقابل لم يتوقف أيضًا عن التحذير من مخاطر هذا النظام على حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة في بعض أفرع القضاء وخاصة القضاء الجنائي.
الجدل الفقهي والفلسفي الذي أثارته هذه النقاشات تمثل في عدد من المحاور يبدأ من التسمية وهل نطلق عليه التقاضي الإلكتروني أم إلكترونيات التقاضي؟ ويصل حتى حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة؟ ويثير أسئلة من عينة: هل الدعوى الإلكترونية يجب أن تكون لها نسخة ورقية أم لا؟ وهل يجوز في التقاضي الإلكتروني عقد جلسات مباشرة في أروقة المحاكم من خلال حضور القضاة والمحامين والمتقاضين للمحكمة؟ ومَن هو صاحب السلطة في طلب هذا الأمر؟ وهل هناك ضمانات حماية إلكترونية؟ وما هي قواعد الإثبات أمام القضاء الإلكتروني؟ وهل يجوز التحقيق مع المتهم أو تجديد حبسه عن بُعد؟ وكيف سيحضر المحامي؛ هل في غرفة إلكترونية منفصلة عن الغرفة الإلكترونية للمتهم، أم سيكون مع المتهم في مكان واحد ولا ينفصل عنه أثناء التحقيق معه أو تجديد حبسه أو محاكمته كما تنص كل القوانين؟ وغيرها من الأسئلة والمحاور بهدف طرح أفكار ورؤى بشأنها.
انتهت التسعينيات وأسئلتها.. ثم جاء كورونا.
مع انتشار الوباء تسارعت الخطوات للبحث عن بدائل التقاضي التقليدي الذي يستلزم الحضور المادي للمتقاضين والمحامين داخل أروقة وقاعات المحاكم. بالتزامن مع انتشار الوباء؛ أطلقت محكمة النقض خدماتها الإلكترونية، كما أتاحت محكمة القاهرة الجديدة رفع الدعاوى المدنية أمامها إلكترونيًا، وعلى مدى شهور جرت العديد من المناقشات حول استخدام إلكترونيات التقاضي في أعمال النيابة العامة.
حتي وصلنا إلى يوم 18 أكتوبر 2020 عندما دشن وزيرا العدل والاتصالات المرحلة الأولى لإطلاق نظام تجديد الحبس الإلكتروني عن بُعد بين محكمة القاهرة الجديدة وكل من سجون طرة العمومي، و15 مايو والنهضة المركزيين وذلك عن طريق نظر جلسات حبس المتهمين. جرت التجربة باتصال القاضي بالمتهمين داخل محبسهم عبر قاعات مخصصة لذلك في كل سجن وبحضور محاميهم من خلال شبكات تليفزيونية مغلقة ومؤمّنة تم ربطها بين عدد من المحاكم وبعض السجون تمهيدًا لتعميم المشروع على جميع المحاكم والسجون.
https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fextranewstv%2Fvideos%2F805172106963013%2F&show_text=1&width=560هذه التجربة صاحَبتها عدة تخوفات وتساؤلات جوهرية تطرح نفسها بشأن ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة وكفالة حقوق الدفاع، مثل:
- أولًا: هل يجوز تطبيق تلك الآلية الإلكترونية دون وجود نص تشريعي ينظم ممارستها ويضمن حقوق أطراف الدعوى الجنائية، خاصة وأن التعديلات التي أتاحت التقاضي الإلكتروني اعتمدت على قانون المحاكم الاقتصادية فقط، أما قوانين الإجراءات الجنائية والمرافعات المدنية والتجارية ومجلس الدولة فلا تزال نصوصها تعتمد على التواجد المادي لأطراف الدعوى داخل مقر المحكمة وليس التواجد الافتراضي عبر وسائط إلكترونية.
هذه القوانين لا تسعف بل وتغل يد المحكمة للنظر فيما يطلبه المدعي من طلبات عن بُعد، وذلك استنادًا إلى نصوص المواد 63 و65 و67 و72 من قانون المرافعات المدنية والتجارية رقم 13 لسنة 1968 وتعديلاته، والمادة 25 من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972، والمواد 63، و124، و126، و136، و143 إجراءات جنائية.
كل هذه المواد تجعل الخصومة القضائية (إداري- مدني- جنائي) حالة قانونية تنشأ عن مباشرة الدعوى بالادعاء لدى القضاء أي باللجوء إليه بوسيلة الدعوى، وقد حدد القانون المصري إجراءات التقدم بهذا الادعاء الذي ينبني عليه انعقاد الخصومة وهي التي تقوم على اتصال الدعوى بالمحكمة المرفوعة أمامها الدعوى وتكليف المدعى عليه بالمثول أمامها، لكونها علاقة بين طرفيها من جهة وعلاقة بين هذين الطرفين وبين القضاء من جهة أخرى، والنموذج الثاني لنشوء الحالة القانونية يكون من خلال مباشرة النيابة والمحكمة الاختصاصات المخولة لها في حضور المتهم ودفاعه وعدم الفصل بينهما وضمان التواصل بينهما على نحو يضمن أمان وحماية أسرار هذا التواصل.
وقضى مجلس الدولة المصري في حكم سابق له "فإذا لم تكن ثمة دعوى من أحد الخصمين للخصم الآخر إلى التلاقي أمام القضاء أو لم يكن لأحدهما أو كليهما وجود فلا تنشأ الخصومة القضائية ولا تنعقد، ولما كان المدعي أرسل الدعوى بالبريد السريع الدولي في أربعة مظاريف بلاستيكية بالمخالفة للنصوص المذكورة وبدون أن يودعها بصحيفة قلم كتاب المحكمة، لا مناص من الحكم بعدم قبول الدعوى لرفعها بغير الطريق الذى رسمه القانون، ودعت المحكمة في حكمها الجديد من نوعه بملاحقة التطور التقني للمحاكم الجزء الحيوي من العملية القضائية بات لازمًا في العصر الحديث".
- ثانيا: ما هي ضمانات سرية التحقيقات الجنائية في ظل آليات التقاضي عن بُعد في المحاكمات، وعلانية جلسات المحاكمات، وتكليف الأطراف بالحضور، والإجراءات الجنائية اللازمة لذلك؟
هذا التعديل يحتاج قبل إقراره فتح حوار مجتمعي بشأنه، ووضع قواعد تشريعية تخلق أطرًا لحماية هذه الضمانات بغية خلق آلية تضمن سرية التحقيقات، وعلانية المحاكمات وصيغ وطريقة تكليف الحضور.
- ثالثًا: لا يجوز فصل المتهم عن محاميه، ويجب كفالة التواصل الدائم بينهما دون أن يُسمح لغيرهما بالاطلاع على مجريات هذا التواصل، فكيف يتحقق ذلك والمتهم لا يشاهد محاميه إلا من خلال وسيط إلكتروني، ولا يتمكن من محادثته وهو مطمئن لطلب مشورته والإدلاء له بما يجيش في صدره، وكشف ما تعرض له طوال الفترات التي لم يلتقيه فيها؟
حضور المحامي هنا ليس حضورًا شكليًا، بل جوهره هو تمثيل المتهم وكفالة التواصل بينهما في كل إجراءات الدعاوى الجنائية بما يتيح له على نحو حقيقي تقديم دفاعه عن المتهم.
- رابعًا: المتهم الذي يعيش فترة حبسه في السجن، وينتقل لحجرة أخرى داخل ذات السجن بها كاميرا تمكنه من حضور جلسة المحكمة عبر هذا الوسيط الإلكتروني، كيف يمكن التيقن من أنه لم يتعرض أو يقع تحت ضغط أو إكراه معنوي يدفعه للصمت أو يجبره على الإدلاء بأقوال غير حقيقية خوفًا من مصير قد يلاقيه لو فعل عكس ذلك؟
لا يمكن إنكار أن التقاضي عن بُعد تطور هام لمواكبة الحداثة وتقدم وسائل الاتصال، وبالطبع يجب تهيئة المنظومة القضائية للمضي قدمًا نحو الرقمنة، لكن كان المخطط هو تجريب تلك الآليات في المحاكم الاقتصادية والمدنية وتقييم إيجابياتها وسلبياتها من أجل إطلاقها وتعميمها، وقد تم وضع التعديل التشريعى بها منذ 2019 ومازالت المحكمة الاقتصادية تنشئ منصتها الإلكترونية لبدء عمل تلك المنظومة. لكن في المحاكمات الجنائية فلا يجب، تحت ضغوط جائحة كورونا، أن نسارع بتطبيق هذه الآليات دون وضع الضمانات التشريعية والواقعية التي تكفل تحقيق وإنفاذ قواعد المحاكمة العادلة والمنصفة، وتكفل كامل حقوق الدفاع بشأنها، وتضع القواعد التي تنظم هذه العلاقة وتحمي تلك الضمانات بعد حوار مجتمعي مع المحامين وأساتذة الجامعات والقضاة.
وإذا كان ازدياد حالات الحبس الاحتياطي هو الذي عجّل بتطبيق تلك الآلية على جلسات تجديد الحبس، فربما يكون الأجدى هو مراجعة القرارات التي توسعت في تطبيق الحبس الاحتياطي لمدد طويلة واستبداله بالتدابير الاحترازية بأن يلزم المتهم مسكنه خلال ساعات من اليوم ولا يخرج منه وفقا لما يحدده القاضي، أو إلزامه بعدم مبارحة المدينة التي يسكنها، ويمكن هنا استخدام الأساور الإلكترونية التي تكشف النطاق الجغرافي لتحركاته وتوقيتات ذلك، وهو ما يحقق التوازن بين حق المتهم في الحرية باعتبار أن المحبوس احتياطيًا بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي، وبين تحقيق هذه التدابير لنفس غاية الحبس الاحتياطي بأن يكون المتهم تحت إمرة النيابة وقت طلبه ليس هذا فحسب بل ويكون مراقبًا من خلال هذه الأساور طوال أربع وعشرين ساعة.
اجعلوا تطور وسائل الاتصال في هذا الشأن تساعد على تحقيق التوازن بين كافة الغايات والأهداف الدستورية ولا يهدد أو يقوض تلك الحقوق أو الحريات.