قبل سنوات غير بعيدة لم يكن المجتمع المصري معتادًا على تداول روايات النساء بشأن تعرضهن للعنف الجنسي بأشكاله المختلفة، حيث كانت الفتيات تخشى من الوصم المجتمعي وما يرتبه من آثار، ولكن يبدو أن إحداهن قررت في لحظة شجاعة كشف الغطاء عن بئر ظل مغلقًا لوقت طويل، ليطفح بما فيه.
لم تقتصر المفاجأة على قدر العنف والتحرشات الجنسية التي تواجهها المرأة يوميًا، بل امتدت لتشمل محورًا أكثر عُمقا يتمثل في أن الكثير من القصص التي كشفت الضحايا عن تفاصيلها، كانت بطلها رجلًا ناجحًا يحظى بنفوذ ومكانة اجتماعية مرموقة، ليبقى التساؤل؛ لماذا يلجأ هؤلاء الناجحون وأصحاب الأموال لممارسة الجنس بالقوة بينما هم قادرون على إشباع رغباتهم بطرق رضائية؟
خرجن عن صمتهن فأسقطن أوراق التوت
منذ أيام؛ بدأت مدونة نسوية تُعرف باسم دفتر حكايات نشر سلسلة من الشهادات لفتيات مجهّلات يتحدثن فيها عن تجاربهن مع العنف الجنسي، كان أغلبها يتهم أحد أبرز الصحفيين المصريين "الاستقصائيين"، فضلًا عن كونه مُدربا في المجال ذاته أشير له بالأحرف الأولى من اسمه (هـ.ع).
موجه غضب عارمة انتابت مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين طالبوا باتخاذ إجراءات القانونية ضد الصحفي وامتناع المؤسسات الصحفية عن التعاون معه، فضلا عن مطالبة عدد من منظمات المجتمع المدني بضرورة وضع ضوابط واضحة للحد من تعرض العاملات للتحرش الجنسي بأنواعه، وعلى الرغم من محاولته نفي الأمر والتشكيك في صدق الروايات المنشورة، إلا أنه لم يجد صدى نظرًا لضعف الحجة والبرهان.
اتهامات الصحفي الاستقصائي بالتحرش والاغتصاب لم تكن الأولى من نوعها، خاصة فيما يتعلق بسلوك الأشخاص الناجحين وأصحاب النفوذ من الرجال، حيث انتشرت قبل سنتين قصة مشابهة تحدثت عن تورط إعلامي مصري شهير يعمل في قناة ألمانية في واقعة تحرش، ما دعا القضاء الألماني لفتح تحقيق في الواقعة.
أيضا؛ ارتبط اسم صحفي مصري آخر يشغل منصب مدير التحرير في أحد الجرائد المستقلة المقربة من السلطات، بواقعة تحرش بإحدى الصحفيات في المؤسسة، والتي انتهت بفصل الصحفية واستمرار مدير التحرير في منصبه دون عقاب، حيث وصف آنذاك بالاعتماد على القوة والنجاح، فضلًا عن وقائع الشاب أحمد بسام زكي، التي شغلت الرأي العام قبل أسابيع مضت.
وعلى الرغم من تعدد الوقائع واختلاف التفاصيل، إلا أن ثمة عامل مشترك يجمع هؤلاء جميعًا؛ استمتاعهم بسلطة ونفوذ إما اعتمادا على نجاح مهني في عملهم في الوقائع الثلاثة الأولى، أو استنادًا على ثراء ونفوذ العائلة كما في حالة بسام زكي.
ولا تأتي هذه الحوادث منفصلة عن سياق عام تتعرض فيه النساء في مصر لمخاطر، فوفقًا لتقرير أصدرته مؤسسة تومسون رويترز عام 2017، تأتي القاهرة في مقدمة قائمة المدن الكبرى الأكثر خطورة على النساء بشكل عام، وهي القائمة التي تضم 19 مدينة يتجاوز عدد سكانها عشرة ملايين نسمة، كما أنها في المرتبة الثالثة من حيث العنف الجنسي.
كما أظهرت دراسة صادرة عن الأمم المتحدة في العام ذاته، أن 99.3% من النساء المصريات تعرضن لأحد أنواع التحرش لمرة واحدة على الأقل، بينما جاء في دراسة أعدها الاتحاد العام لعمال مصر، في أغسطس 2014، أن 30% من النساء العاملات في مصر يتعرضن لتحرش جنسي في مكان العمل، وترتفع هذه النسبة في القاهرة لتصل إلى 70%.
لماذا تحرش هؤلاء ؟
يرى خبراء في علم النفس أنه في كثير من الأحيان تكون الرغبة الجنسية غير مؤثرة نسبيًا في حالات العنف الجنسي، حيث تلعب دوافع فرض الشخصية والقوة والعدوان دورًا أكبر. وقد تكون الرغبة الجنسية حتى غائبة تماما عندما يتم استخدام التحرش والاغتصاب لأغراض الإذلال والإساءة وإشباع غرور النفس، فضلًا عن أن دافع التحرش يكون أكبر لدى الرجال أصحاب المناصب الهامة في حال كان متعلقا بتقديم منفعة للضحية مثل التوظيف أو الترقية أو إبداء النصائح في مجال العمل.
فوفقا للباحثين في علم النفس، ريوس كيمبرلي وهالبر لي، يجد أصحاب السلطة الأقل أو المرؤوسين عادة قدرة على التكيف مع المخاطر والتقليل من حجم الاعتداءات الواقعة عليهم، وهو ما يُفسر صمت الضحايا في أغلب حالات التحرش الجنسي لفترات طويلة تصل لسنوات دون الإفصاح عن ما تعرضن له.
ومن ضمن النتائج التي توصل إليها العالمان في ثلاثة دراسات تبحث العلاقات بين السلطة والدونية والنرجسية والميل نحو التحرش الجنسي، فإن النرجسية لدى الرجال تُعزز من فرص ارتكابهم جرائم التحرش الجنسي، حيث أظهرت الدراسة أن الرجال الذين يحظون بثقة مفرطة في النفس قد يرتكبون جرائم التحرش الجنسي أكثر من الآخرين. وفسر العالمان ذلك بضعف التعاطف ومشاعر الاستحقاق أو وجود شك خفي مخجل -غالبا ما يكون متعلقا بالجنس- بأنهم ليسوا جيدين مقارنة بالأخرين أو أن الطرف الآخر ينظر إليهم باعتبارهم غير أكفاء، ما يدفعهم لممارسات تشعرهم بالتفوق والسيطرة.
أيضًا؛ توصلت الدراسة إلى أن شعور المدير أو المسؤول بأنه غير كفء يُعزز من فرص تحرشه جنسيًا بمرؤوساته من النساء في العمل، خاصة وأن الشعور بعدم الكفاءة هو إحساس داخلي قد لا يظهر في تصرفات الشخص أو التعامل مع الأخرين.
أيضًا ترى الدكتورة لين يوناك، أستاذة علم النفس في معهد بيركشاير للتحليل النفسي، أن التحرش الجنسي فعل مرتبط بالسلطة أكثر من الجنس، وأن الدافع عادة ما ينبع من رغبة الجاني في فرض السيطرة والإحساس بالقوة.
وتقول لين، أنه بالنظر للحالات الواردة في حملة أنا أيضًا (#MeToo)، فإن المتحرشين من أصحاب النفوذ يعتمدون على آلية الترغيب والترهيب استنادًا إلى مناصبهم وامتيازاتهم في العمل، فهم يملكون ما يحتاجه ضحاياهم من فرص للنجاح سواء من خلال وظيفة، ترقية، توصية، تدريب، اختبار أداء، أو فرصة لدخول مجال العمل.
أيضا؛ يُمكن تلخيص وجهة نظر هؤلاء المتحرشين من أصحاب النفوذ بتفاخر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه قبّل نساء دون موافقتهن قائلا "عندما تكون نجما، فأنهن يتركنك تفعل ذلك".
ويقول أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا داتشر كيلنتر، في مقاله الجنس والسلطة والأنظمة التي تُمكن الرجال مثل هارفي واينستين، إن الدراسات تُشير لمبالغة الرجال الأقوياء من أصحاب النفوذ في تقدير الاهتمام الجنسي للآخرين، كما يعتقدون خطأً أن النساء من حولهم ينجذبن إليهم أكثر مما هو الحال في الواقع، ويجدون راحة في تفسير أغلب ردود فعل النساء بمنظور جنسي.
ويرى كيلنتر أنه بالتأمل السريع في التاريخ وخاصة تتبع سير أصحاب السلطة، سنجد كل عام مثالًا جديدًا لرجل قوي يعتدي جنسيًا على الآخرين، وتشمل مجالات القوة والنفوذ كافة القطاعات بدءًا من المنظمات الدينية أو العسكرية ومرورًا بأسواق المال والبنوك وسوق وول ستريت، ووصلا للرياضة والفن ووسائل الإعلام والتكنولوجيا، مؤكدًا أن القوة غير الخاضعة للرقابة عادة ما تدفع أصحابها لسوء الاستخدام حتى وإن كان الشخص حسن النوايا.
مصر لا تُغرد منفردة
وقائع التحرش الجنسي والاغتصاب المعتمدة على القوة والنفوذ لا يُمكن قصرها داخل المجتمع المصري فقط أو في الشرق الأوسط فحسب، حيث عرف المجتمع الأمريكي قبل عامين تقريبًا إحدى أشهر قضايا التحرش والاغتصاب ضمن حملة #MeToo والتي دشنتها عدد من الممثلات والعاملات في مجال السينما بهوليود.
وبحسب الروايات التي انتشرت آنذاك وانتهت أمام القضاء الأمريكي، فقد تحرش إمبراطور السينما في هوليود هارفي واينستين بمئات الفنانات والعاملات في المجال معتمدا على نجاحه كونه منتجا ومخرجا مرموقا في هوليود. انتهى الأمر بسجنه 23 عاما من قبل إحدى محاكم مانهاتن
واقعة واينستين فتحت الباب في هوليود أمام الكشف عن مزيد من وقائع التحرش الجنسي في المجتمع التي تعرضت لها النساء من قبل مشهورين ورجال ناجحين، حيث طالت قائمة الاتهامات ممثلين مشهورين مثل مورجان فريمان وكيفين سبيسي وآخرين.
أيضًا؛ انتشرت في 2016 اتهامات طالت ترامب نفسه بالتحرش بإحدى العاملات في "برج ترامب" قبل سنوات، تبعتها نحو 15 شهادة لنساء قلن إن الرئيس تحرش بهن في السابق.
ووفقا لعدد من خبراء علم النفس، فأن تزايد النجاح والنفوذ لدى الرجال يتناسب طرديًا مع فرص لجؤوهم لممارسات غير منضبطة من بينها التحرش الجنسي ومحاولات الاغتصاب.
حصانة للناجحين؟
ترى شون بيرن، أستاذة علم النفس في جامعة كاليفورنيا، أنه في كثير من الأحيان يتحول السلوك الخاطئ في أماكن العمل إذا مر دون ردع وعقاب إلى قاعدة ضمنية بين الذكور في المكان خاصة المرموقين وأصحاب النفوذ.
وتدلل شون بحوادث واينستين التي يُعتقد أنه مارسها لاقتناعه بأنها ستمر دون رادع بسبب نفوذه، فضلًا عما روته سوزان فاولر، مهندسة برمجيات، مدعية أنها تعرضت للتحرش الجنسي من قبل مدير في الشركة وتم لفت انتباه إدارة الموارد البشرية عن أفعاله.
وكتبت فاولر "أخبرتني الإدارة العليا أنه كان ذو أداء مرتفع وتقييمات عمل ممتازة، وبالتالي لن يشعروا بالراحة في معاقبته على ما كان يُرجح أنه مجرد خطأ بريء من جانبه".
وأوضحت فاولر أن إدارة الشركة أخبرتها بأن شكواها كانت "المخالفة الأولى" للمدير، إلا أنها اكتشفت لاحقًا من مهندسات أخريات أنهن قد اشتكين أيضًا من سلوكه غير اللائق، قائلة "تم تصعيد الموقف إلى أقصى حد يمكن تصعيده، ولم يتم فعل أي شيء حتى الآن".
وتُفسر بيرن صمت النساء تجاه تعرضهن للتحرش بأنه في ظل ثقافة العمل التي تتجاهل باستمرار مثل هذا السلوك، فإن النساء غالبًا ما يواجهن الخوف من التحدث علنًا بسبب التداعيات المحتملة.الع