ظلت أمل علي* تلوم نفسها وجسدها سنين طويلة بسبب تحرش أستاذها بها جنسيًا وهي طفلة في الصف السادس الابتدائي أثناء الدرس الخصوصي في منزلها، وكان ذلك سببًا كافيًا يمنعها من مشاركة قصتها مع أحد.
تحكي أمل قصتها للمنصة بمزيد من التفصيل "لما كنت في ابتدائي بابا كان بيجيبلي المدرسين في البيت لأنه كان خايف عليا أروح سنتر تعليمي. واحد من المدرسين دول فضل معايا سنتين".
وتتابع "فاكرة وإني في سادسة ابتدائي وقتها جاتلي الدورة الشهرية وجسمي كبر شوية، وقتها صدري كبر وكنت بلوم نفسي أن معالم البلوغ ظهرت عليا بدري عن زميلاتي، المدرس بدأ وقتها يلمح تلميحات جنسية، ضمنية أغلب الوقت وأحيانا بشكل صريح، عمري ما قلت لحد، ماكنتش مصدقة إنه بيقولي كدا فعلًا، ومن ناحية تانية كنت حاسة بالذنب تجاة جسمي مش فاهمة ليه بس فعلا كنت بلوم جسمي ونفسي".
الطبيبة النفسية نعمات فؤاد تحاول تفسير ذلك بقولها إن "ضحية الاعتداء الجنسي تخوض معركة نفسية مؤلمة، لا تزول بانتهاء الاعتداء، ربما يستمر سنوات من أجل التعافي واستيعاب أن ما حدث كان اعتداءً ليست مسؤولة عنه".
وبحسب تقرير لمؤسسة تومسون رويترز فإن القاهرة هي أكثر المدن الكبرى (التي يتجاوز عدد سكانها عشرة ملايين نسمة) خطورة على النساء في العالم بشكل عام والثالثة فيما يتعلق بالعنف الجنسي بعد ساوباولو ونيودلهي.
الطبيبة ماجدة عدلي مؤسسة مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب ترى أهمية أن "نعرف ماذا يحدث للضحية لحظة واقعة الاعتداء لنفهم ما تمر به"، مشيرة إلى أن التجارب التي نمر بها في الطفولة يتم حفظها في المخ وكذلك ردود فعلنا عليها "مثل الطفل الذي لسعته النار، فحرك يديه على الفور بعيدًا عنها. هنا في هذه اللحظة تكّونت لديه خبرة بأن النار قد تحرقه وتكّون لديه رد الفعل المناسب بناء على الخبرة المخزنة في ملفات المخ ومراكز التعلم".
وتضيف عدلي للمنصة "لكن لما الإنسان بيواجه واقعة صادمة لا يوجد لها موقف مماثل في ملفات المخ، مثل العنف الجنسي أو التعذيب، لا يوجد رد فعل لأنه ليست هناك خبرة مسبقة موجودة تساعد الضحية سواء أنثى أو ذكر للتصرف على أساسها، وهذا يربك منظومة رد الفعل ويضع الإنسان في وضعية من وضعيات العجز".
وتوضح أنه أثناء لحظة الاعتداء "تدور داخل ذهن الضحية عدة أسئلة مثل ياترى لو صرخت دا هينجيني والمعتدي هيكف؟ ياترى لو ضربته هقدر أنتصر عليه؟ ياترى لو استغثت هيبعد؟ ياترى لو فيه أي مقاومة ممكن تخليه يقتلني عشان يكتم صوتي وميتضحفش؟ كل هذه التساؤلات لا تجد الضحية عنها إجابة".
ومع اتساع الجدل مؤخرًا حول حالات التحرش مع تداول العديد من الشهادات لناجيات يتحدثن عن تجارب قاسية مررن بها قبل سنوات، يطرح على الدوام سؤال عن أسباب تأخر الفتيات في الإبلاغ عمّا تعرّضن له، وهو ما قد يجيب عنه حديث دينا المغربي التي تعمل في مجال السوشيال ميديا ويبلغ عمرها 35 سنة، إذ قالت إن هذه الحوادث "بيبقى مقفول عليها في الذاكرة المنسية".
وتشرح دينا أكثر للمنصة عمّا تعرضت له في طفولتها "أنا مثلا كنت ناسية إني تعرضت لحوادث تحرش وأنا صغيرة وبدأت أتذكرها وأنا كبيرة بعدما درات نقاشات واسعة أثناء واقعة نهى الأستاذ صاحبة أول بلاغ بالتحرش في مصر".
وتضيف "وأنا في اعدادي كنت فاكرة إن فيه حاجة بتحصل بس كأن في خجل وإنكار إني أقول إن فيه حاجة بتحصل وبنتعامل كأن مافيش حاجة حصلت خاصة لما الانتهاك يكون من الأقارب، وبعدها الموضوع بيتردم عليه (يصبح في طي النسيان) وكأنه ولا حصل، حتى بينك وبين نفسك، لغاية ما بنكبر وبنفتكر اللي حصل بالتفاصيل ورد الفعل وبنفتكر إننا كنا بنلوم نفسنا، ومعرفش ليه بنقع فيها بس غالبا بسبب التربية وبفتكر إحساس إني مضايقة من نفسي وخايفة أقول لحد وإحساس إني منكسرة".
الإنكار في علم النفس هو إختيار الشخص لإنكار الوقائع كوسيلة لتجنب الحقائق الصادمة من الناحية النفسية، هو ببساطة رفض الإقرار بأن ما حدث له حصل بالفعل. وذلك بحسب الطبيبة نعمات علي.
أما ماجدة عدلي فترى أن سبب حالة الإنكار التي تدخل فيها الضحية هو "تجنب الألم غير المحتمل عندما تتذكر، وبعدها لما بتحاول تفتكر ما حدث لها تتعرض لكل اعراض الصدمة كما لو كانت تحدث لها الآن، تمر بحالة من الهلع والرعب النفسي والشلل عن الحركة والألم الجسماني، وتمر أيضًا بحالة شك في حدوث الواقعة زي إنها تقول لنفسها لا دا محصلش حاجة، لا دا مكنش قصده، أكيد انا بيتهيأ ليا حاجات".
وتتابع "تظل الضحية طوال الوقت في محاولة للفهم ولما يكون المجتمع بيحمل الضحية وزر ما حدث لها بالتالي يتأخر البوح كثيرًا لانه وفقا للمنظومة المجتمعية هي هتكون شايفة نفسها الجانية".
وفضلًا عن ذلك، فإن الناجية تستعيد دائمًا لحظات الاعتداء الذي تعرضت له "إما على هيئة فلاش باك صور شريط سينما شغالة في دماغنا طول الوقت واحنا صاحيين. او على هيئة أحلام مزعجة اثناء النوم يتم استدعاء الحدث الصادم فيها، ودي مرحلة مجهدة على المخ بيكون عاوز يرتاح منها، فبيدخل على مرحلة آخرى تسمى التجنب، فيما معناه أن احنا نتجنب اي مكان، اي مشهد، اي ناس ممكن تفكرنا بلي حصل، مش بس بنتجنب الجاني".
أما نعمات فؤاد فتشرح أن لكل ضحية رد فعل مختلف "ولا يجوز أن نضع كتالوج لردود أفعال الضحايا، هو متوقف على عدة عوامل منها السن الذي حدث فيه الواقعة والتجارب التي لديهم وهل لديهم أمراض نفسية أم لا، هل لديهم دوائر دعم ومساندة محيطة بهم أم لا، والأهم هو استقبال الضحايا للواقعة، كيف تستقبل الضحايا وقائع مثل هذه؟".
وتؤكد الطبيبة المختصة أن وقائع التحرش الجنسي والاغتصاب تخلف وراءها أمراضًا نفسية يتم تشخصيها، مثل الإنكار والتروما والاكتئاب والقلق، مشيرة إلى أننا "نتحدث عن وقائع صادمة وغير متوقعة والمخ غير قادر على التعامل معاها، وإنه في لحظة الاعتداء يتوقف المخ عن التفكير، ورد الفعل يأتي من العقل الباطن ويحدث حالة إنكار وانفصال عن الجسد لذلك نسمع أحيانًا كثيرة عن حالات فقدان الوعي أو الإغماء التي ممكن أن تتعرض لها الضحية، أو إنها تتجمد في مكانها". ويمكن قياس هذا مثلا على حادثة عنيفة لتصادم قطارين، سنجد ردود أفعال مختلفة تمامًا لكل المتواجدين داخل القطار، سنجد أحدهم يجري، وآخر ظل في مكانه مثلا.
تشير نعمات إلى أن أيضًا الإنكار يجعل الضحية تشعر بأنها كانت جزءًا من الواقعة أو سببًا فيها، أو أن ما حدث كان برغبتها "لأنها ترفض تصديق ما حدث، ولا تسمي الأشياء بمسمياتها". وقد نجد ضحية ترتبط عاطفيًا بالمعتدي عليها، وتشعر أنها تحبه، لانها لم تستوعب بعد أنها ضحية واقعة اعتداء، وهذا يحتاج لوقت كبير من العلاج حتى تدرك أن ما تعرضت له كان انتهاكًا لا تتحمل المسؤولية عنه.
وتضيف نعمات أن أي حدث صادم يؤثر على افكار الإنسان ومشاعره وينتج عنه مشاعر متضاربة، من عدم الفهم والاستعياب، هي لم تفهم بعد ما حدث لها، كيف إذن ستخبر به الآخرين؟ لذلك يتأخر البوح، ونجد أيضًا أفكار سلبية تجعل الضحية تعيش بها لوقت طويل لذلك نجد الضحايا يلمن أنفسهن لوقت طويل لاعتقادهن بأنهن السبب، وتتوالى الاسئلة إلى ذهن الضحية مثل هل أنا السبب؟ هل شجعته؟ لماذا حدث هذا معي؟ إحساس كبير بالذنب وجلد الذات.
أميرة محمدين* انتقلت من إحدي محافظات الصعيد إلى القاهرة تزامنًا مع ثورة يناير بحثًا عن حلم الحرية، لكنها في المقابل تعرضت لاعتداءات جنسية متكررة من اثنين من اصدقائها ولم تبح أبدًا بما حدث ولم تعبر عنه واكتفت فقط بقطع الصلة مع هذين الشخصين "فضلت فترة كبيرة مش مستوعبة وعندي حالة إنكار ان دا حصلي انا تحديدًا خاصة ان اصحاب الوقائع اصدقاء، كنت بقول لا مش حقيقي، وبعد ما ادركت إنه حصل قررت اقطع علاقتي بيهم بلا أي رد فعل، لاني برضه كنت شايفة اني السبب"، كما تخبر المنصة.
وعن تفاصيل الواقعة تقول "كنت وقتها لسه جاية القاهرة جديد، وكنت عايشة مع صديقات آخريات، دايما كانوا محسسني إني مقفلة بسبب نشأتي، وهما كانوا سامحين بزيارات أصدقائهم، ولما قررت إني أبقى زيهم وأعزم أصدقاء ليا في البيت، تعرضت لاعتداء جنسي، لم أستطع البوح وقتها، لأني كنت أرى نفسي مذنبة وأنا اللي سمحت إن دا يحصلي، وأخدت وقت طويل في التعافي، كان عندي طول الوقت إحساس بالقلق لما بتواجد وسط رجالة وبحس بانفصال عن جسمي، وكنت بخاف أحكي برضه لأني كنت بحس بالدونية".
تعتقد نعمات أن علينا أن نتجنب سؤال الضحية عن أسباب تأخرها في البوح "وكأننا نلومها على الوقت اللي تحتاجه لاستيعاب فقط ما حدث لها، ولكن دعونا نسأل إيه اللي ممكن يشجع الضحية على البوح؟ وعند البحث لا نجد شيئًا. الصمت الذي يُفرض على الضحية ناتج عن معارك نفسية ثقيلة تخوضها مع نفسها قبل مواجهة المعارك المجتمعية المبنية على العادات والتقاليد التي عادة ما توصمها، فضلًا عن لومها، الضحية عارفة إنها أول ما هتتكلم هتتلام وهتسمع مصطلحات زي ليه مجريتيش، ليه مصرختيش، إيه وداكي هناك".
* أمل علي وأميرة محمدين اسمان مستعاران بناءً على طلب المصدرين وحفاظًا على خصوصيتهما.