نشرت مدونة دفتر حكايات شهادة من إحدى الصحفيات تقول فيها إن صحفيًا إستقصائيًا معروفًا "خطفها واغتصبها واعتدى عليها بالضرب"، واكتفت صاحبة الشهادة بحجب اسمها وأشارت للمدّعَى عليه بالأحرف الأولى من اسمه"هـ. ع."، بعدها نشر الصحفي هشام علام بيانًا على صفحته الموّثقة نفى فيه الادعاءات وطالب صاحبة الشهادة بالتقدم ببلاغ للجهات المختصة، زاعمًا في بيانه إن تلك الاتهامات تأتي ضمن حملة ممنهجة ضده، دون توضيح مَن يقف وراء هذه الحملة أو هدفها، مهددًا أنه سيتخد كافة الإجراءات القانونية ضد كل من المدونة والقائمين عليها، بالإضافة لكل من شارك بالنشر أو بالتعليق على وسائل التواصل الاجتماعي، بموجب قانون الجرائم الإلكترونية.
في اليوم التالي لبيان علام، نشرت المدونة شهادة ثانية، على نفس الصحفي تقول فيها إنه اعتدى عليها جنسيًا. وأنهت صاحبة الشهادة الثانية بأنها أدلت بما "تعرضت له من نفس الشخص بعدما لاحظت موجة من التشكيك والتكذيب لصاحبة الشهادة الأولى، وأكدت على إنها لن تتخذ أي اجراءات قانونية حرصًا على صحتها النفسية".
توالت الشهادات حتى ظهرت شهادة ثالثة ورابعة ضد نفس الصحفي، وأكدت إحدى الناجيات أن بوحها بهذه الشهادة يأتي بالأساس لدعم الناجية الأولى التي لا تعرفها شخصيًا، وقالت صاحبتها إن نفس الصحفي حاول من قبل إجراء أحاديث جنسية معها وعندما رفضت، أرهبها وهددها، وإنها شعرت بالخوف بعد هذا التهديد.
الآن.. لماذا تفضل الناجيات من حوادث الإعتداء والتحرش الجنسي، تجهيل هويتهن؟ هو السؤال الأكثر انتشارًا في صفوف معظم المعلّقين من الرجال وكثير من النساء عقب توالي الشهادات ضد نفس الصحفي الذي أفصح بنفسه عن هويته، وتزامن مع ذلك مطالبات عدة للناجيات بالكشف عن هويتهن والتوجه فورًا للشرطة والنيابة وتسجيل محاضر شرطة. نستعرض في هذا التقرير الشارح إجابات على هذه الأسئلة المنتشرة.
إنتِ مين بالظبط؟
الخوف من اللوم والوصم وغياب وسائل الحماية وفقدان الثقة في عملية إنفاذ القانون كانت دوافع ناجيات تحدثت معهن المنصة. تقول نورا*، واحدة من الناجيات من عملية عنف جنسي "لما اتعرضت لواقعة تحرش جنسي، جريت على مسؤول داخل المؤسسة التي أعمل بها علشان يساعدني وقال لي نصًا «انتي صحفية وهتبقى لبانة في بق الكل، اللي حصلك ومضايقك، بعد ما يتنشر كل الناس هتبصلك نفس البصة وهتضايقي أكتر». تضيف "لما اتعرضت للابتزاز بعدها، كان الرد لو شاطرة شوفي مين هايصدقك. بإختصار إحنا في مجتمع بيحب يلوم الضحية".
تقول خلود صابر، الأخصائية النفسية في مجال العنف الجنسي، الإعلان عن الهوية أمر شديد الصعوبة بل يستحيل في أحيان كثيرة، وهذا الوضع لا يقتصر على مصر أو الدول العربية فقط، بل في دول أنظمتها السياسية والقانونية أكثر انصافًا للمرأة. تشرح ذلك بالقول "المعايير الاجتماعية المرتبطة بالعنف الجنسي تجعل من فكرة الإبلاغ عن الاعتداءات الجنسية أقل بكثير من المعدل الطبيعي لارتكاب هذه الجرائم، نحن هنا نتحدث عن بيئة مجتمعية منصفة للنساء، وذلك بسبب أن الوصم الاجتماعي للضحايا يظل موجودًا دائمًا، وكذلك اللوم بأنها السبب في الحادث".
تقول شيماء، ناجية ثانية تحدثت للمنصة "الخوف من المجتمع دافع قوي لي كناجية يخليني أحكي اللي اتعرضت له بشكل مُجهل، وكذلك أيضًا فقدان الثقة في عملية إنفاذ القانون، بداية من الشهادة أو تسريب بياناتي، بالإضافة لأن القانون مصعّب علينا إحنا كستات إثبات وقائع العنف والاعتداء الجنسي".
تقول خلود صابر إن "الوضع في مصر أكثر من سيئ، فثقافة الوصم المجتمعي مازالت تحاصر الناجيات. كل ما يطلع موجة جديدة من شهادات الاغتصاب والإعتداء الجنسي، يتم اتهام الناجيات إنهن المسؤولات عما تعرضن له".
اختزلت رقية، ناجية ثالثة من حادثة عنف جنسي كل دوافعها في تجهيل شهادتها في خوفها من أسرتها، تقول "أنا بخاف من أهلي". وفي هذا السياق تشير خلود صابر إلى التأثير السلبي للدائرة المُحيطة بالناجية سواء كانت من الأصدقاء أو الأسرة، ووصمها للناجية بأنها "فضحتنا، جبت لنا العار". وذلك بسبب تردد اسمها واسم أسرتها في كل الأوساط، ووصمهم معظم الأوقات.
الخسائر الاقتصادية للإعلان عن المتحرشين
تشير رقية إلى غياب وسائل الحماية والأمان "لسه بنخاف ومفيش آليات تحمينا كناجيات، بل بالعكس بنتفضح ولو واحدة فينا بتشتغل، ممكن تتطرد من شغلها بحجة إنها بتاعت مشاكل" .
تعلق على ذلك الأخصائية النفسية في قضايا العنف الجنسي، خلود صابر، بالقول إن الخوف من العواقب يدفع الفتاة بقوة لعدم الإعلان عن هويتها، ومن بين هذه العواقب: رد فعل المعتدي، هل سيهددها؟ أو هيتواصل معها بأي شكل يضغط على حالتها النفسية؟ هل لو كان المعتدي ضمن دوائرها، ماذا سيكون رد فعل هذه الدوائر. تضيف خلود "هناك تبعات اقتصادية كفقدان العمل، وهذا حدث بالفعل في كثير من الحوادث السابقة".
الصحفية مي الشامي إحدي الناجيات من واقعة تحرش جنسي تعرضت لها من أحد المسؤولين في مؤسستها السابقة. أعلنت الشامي عن هويتها منذ اللحظة الأولى واتخذت الإجراءات القانونية ضد المعتدي. تقول للمنصة "من خلال تجربتي في الإعلان عن هويتي، أرى أنه من حق الناجيات عدم الإعلان عن هويتهن، وليس من حقنا أن نضغط عليهن، خصوصًا في ظل حالة الترصد والتعنت الذي يقابل الناجية من حادثة اعتداء جنسي". مشيرة إلى إعلانها عن هويتها منذ اللحظة الأولى واتخاذها كافة الإجراءات القانونية، لكن كانت النتيجة أن حُفظ المحضر، وخسرت هي عملها بعد أن تعرضت للفصل التعفسي ولم تجد مؤسسة توظفها حتى الآن. تقول "إحنا كستات بس اللي بندفع تمن الإعلان، آخر مرة أجريت فيها مقابلة عمل قيل لي إني بتاعة مشاكل وعندي حساسية من الرجال".
تشير خلود إلى سبب آخر رأته بشكل مباشر ورئيسي من خلال عملها مع ناجيات من حوادث اعتداء جنسي مرتبط بعدم رغبة الناجية في الإعلان عن نفسها وهو إختزال المجتمع والناس لحياة الناجية وسيرتها الذاتية في قصة التحرش أو الإعتداء الجنسي، مهما كانت ناجحة ومتحققة ولديها إنجازات، تقول "هناك رغبة قوية من الناجيات في عدم اختزالهن في حادثة هي بالفعل مؤلمة".
ترى خلود أن الاختيار النسوي والاختيار المرتبط بالصحة النفسية يستدعي بالضرورة دعم خيارات الناجيات بغض النظر عن الطريقة أو القرار "سواء اختاروا يخوضوا المعركة بالإعلان عن نفسهم أو لا؛ الناجية هي بس الوحيدة اللي هاتشيل الشيلة، مهما كان هناك دوائر دعم حولها، ولكن بشكل عملي هي بس اللي هاتدفع التمن وهي الوحيدة اللي هاتتعامل بشكل عملي مع عواقب هذا القرار".
وتضيف الأخصائية النفسية "نحتاج تدريب أنفسنا على احترام خيارات النساء الناجيات من حوادث العنف، ما دمنا غير قادرين حتى الآن على توفير بيئة آمنة لهن على المستويين الاجتماعي والقانوني، أو على مستوى سياسات الدولة".
"روحوا المحكمة يا بنات"
عن الاختيارات القانونية، وسؤال "ليه ما بيروحوش المحكمة؟"؛ تقول المحامية الحقوقية نسمة الخطيب إن آليات تطبيق القانون مجحفة للإناث وهذا ما يجعل النساء تتراجع عن تقديم بلاغات عما يتعرضن له، ونجد أن أثنين من بين كل 10 فتيات تعرضن للتحرش أو الإعتداء الجنسي، هن فقط من يقدمن بلاغات للنيابة، وهذا مرتبط برغبة النساء في اكتفائهن بنشر شهادتهن مجهلة وعدم اتخاذتهن لإجراء أي خطوة قانونية وهذا ليس منفصل أيضَا عن الأعراف المجتمعية التي توصم النساء :"النساء بتقرر تخفي هويتها لان في لحظة الإعلان هتلاقي نفسها أمام معارك ليس فقط قانونية بل مجتمعية أيضًا".
تفسر المحامية الحقوقية عزيزة الطويل تأخير الشهادات لسنوات وتجهيلها بداية من حملة me too وحتى الآن "رهبة وخوف الناجيات من نظرة المجتمع ونظرة مؤسسات العدالة أيضًا".
تشرح عزيزة مصطلح مؤسسات العدالة "العدالة في مصر تتم تحت منصة يتحكم بها الذكور منذ اللحظة الأولى، بداية من مرحلة الإبلاغ حتى إنفاذ العملية القانونية، وتجد النساء نفسها مضطرة للتعامل مع رجال بداية من أقسام الشرطة ثم النيابة ثم القضاء. صحيح لدينا وحدة لمكافحة العنف ضد النساء داخل وزارة الداخلية ولكن لا نراها إلا في الأعياد أو المظاهرات، فالنساء تخشي البوح بأدق التفاصيل أمام الرجال الذين يسألونها عما كانت ترتديه أو لماذا ذهبت لهذا المكان، أو هل هناك ثمة علاقة عاطفية تربطها بالمعتدي".
تكمل عزيزة "رجال العدالة ينفذونها عن طريق قوانين يضعها الرجال أيضًا وهي قوانين تخدم الرجال، وهناك قصور تشريعي يخدم الرجال، فنحن أمام شهادة عمرها 9 سنوات بها تهم خطف واحتجاز وضرب واغتصاب وفي القانون المصري للأسف لا يوجد مصطلح اغتصاب، وبالتالي فإن التوصيف القانوني وأمر الإحالة سيكون هتك عرض. نعم هناك سقطات وثغرات يغفلها المشرع عندما يكون رجلًا".
تستنكر عزيزة مطالبة النساء بالكشف عن هويتهن والتوجه بدلا من ذلك لقوات إنفاذ القانون أو الجهات القضائية، قائلة "القانون المصري لا يعرف الصدمة والرعب الذي يحدث بعد الجريمة، ولا يعرف اكتئاب وكرب ما بعد الصدمة، بدليل أن القانون حبس الطفلة منه عبدالعزيز وهي مجني عليها وتعرضت لعدة جرائم باعتراف القانون والنيابة، لكنها في النهاية اتحبست. فهل المطلوب من الناجية الذهاب لأمين شرطة علشان تبلغ عن واقعة اغتصاب وهي في حالة صدمة وكرب، فتلاقي أمين الشرطة بيقولها إنتِ إيه وداكي هناك، أو تلاقي وكيل النيابة بيقول لها أوصفي لي العضو الذكري للمعتدي. الاستعداد النفسي لهذه الأسئلة الإجرائية والقانونية يتطلب وقتًا قد يطول أو يقصر بحسب كل حالة".
* الأسماء مستعارة بطلب من المشاركات في التقرير.