منذ اللحظة الأولى التي قررت فيها الكتابة عن الشيخ أحمد برين، وأنا أراه في كل الأماكن وأسمع صوته يهمس لي بأن الكتابة لقاء وأنا، لعله يعلم، أكثر مَن يتمنى لقاءه.
أسندت رأسي من ثِقل التفكير وغفوت، تخيّلت أني أجلس الآن معه، شيخي المفضّل والشاعر الأجمل أحمد برين، نتحدث في قريته، الحليلة في مركز إسنا، نتقي الشمس تحت ظل جميزة كبيرة تتدلى أوراقها على الشيخ وتستمع معي لما يرتجل من القول، وتهتز أوراقها من عذوبة الوصل وصفاء المَدد، لا شك أني كلما سمعت الشرائط أو التسجيلات، وسمعت الناس في حانة الوجد أمطرت عيناي وتمنيت لو كنت بجوارهم ذات يوم، لأجلس وأستمع إليه، أقول الآه، مثلهم، وأضع يدي على قلبي لأجده ينبض بالمَدد والجمال والمحبّة.
بدأ عليّ، ابن الشيخ أحمد برين الحديث عن الشيخ بأن كل الجمال عنده من مِنح الله وفضله؛ كان تعليم الشيخ أحمد فقط في كتَّاب القرية. ولد الشيخ محمد محمد أحمد عثمان، الملقَّب بأحمد برين، في غرب سهيل بمحافظة أسوان، في 25 أبريل/ نيسان 1939 ولعل مولده في أسوان هو سبب الحنين الدائم الذي كان يكمن في قلب الشيخ أحمد وأيضًا لأن والده دُفن هناك، فقد بصره إثر حُمّى وهو ابن عامين، ومن ثم رحلت أسرته إلى قرية الحليلة مركز إسنا ومن هنا كانت البداية.
اكتسب الشيخ أحمد الثقافة من بعض المشايخ وبعضهم لمس فيه الموهبة والصوت العذب وسرعة الحفظ والبديهة، وبعد ستة عشر عامًا من حضور الموالد والجلوس بجانب الشيوخ والمدّاحين أصبح البعض يرشّحه لكي يمدح، ومن هنا كانت بداية شهرته ومعرفة الناس به، ويؤكد علي برين، أنه كان يحفظ القصيدة من أول مرة، وكان ذلك الذكاء يُدهِش الحضور، ومن ثم انتقل إلى قرية الدير التي أكمل فيها حياته ومات هناك، وترك أبناءه الأربعة (محمود وعلي ورضا ونعمة) وسيرته البديعة والطيبة.
في الدير شمال قرية الحليلة في أقصى الجنوب، انضم الشيخ أحمد إلى فرقة الشيخ محمد جاد العضيمي، وقضى مع الفرقة فترة زمنية طويلة تقترب من العشر سنوات أو أقل، وهناك جاء رجل ليطلب من أحمد برين أن يذهب لإحياء ليلة بمفرده وحينها استأذن شيخه ورفض ذهابه. ولكن شجّعه أحد أفراد الفرقة وكانت المرة الأولى التي يذهب فيها الشيخ أحمد بمفرده ليحيي ليلة كاملة بدون الفرقة.
يقول علي برين "كانت ليلة المولد النبوي الشريف هي الأولى التي يذهب فيها الوالد بمفرده، اشتهر من تلك الليلة الشيخ أحمد وأصبح الناس يطلبونه ليحيي بعض ليالي الصالحين والأولياء في نواحي القرى المجاورة، ومعظم قرى الجنوب".
شهرة "أب برين"، كما يطلق عليه أهل الصعيد، لم تقتصر على جنوب مصر فحسب، بل كان معروفًا عالميًا، فأقام الحفلات في الكثير من البلاد منها، فرنسا وكانت رحلة أساسية ومعتادة بالنسبة له، وإنجلترا و إيطاليا وبلجيكا والنمسا والمغرب وغينيا، وغيرها.
كانت للشيخ أحمد هالة خاصة به وحده وبمن معه، تشعر بأن الفرقة جسد واحد وصوت واحد، تجده مرة يعزف بصوته ومرة هم يتغنون بدلًا عنه، فكان من المهم أن نعرف من هم أعضاء فرقة الشيخ أحمد ودلّنا علي برين قائلًا؛ "أقدم أعضاء الفرقة كان العم عبد الرضي الحايق، وكان يعزف آلة النوبة، وهي آلة تشبه الباز الصغير ويضرب عليها بجريدتين في إيقاع موسيقي مميز، و ثاني أعضاء الفرقة صالح حفني، المعروف باسم صالح الحويطي وكان يعزف على الدف الكبير، وكان الشيخ يقول عنه إنه ميزان الفرقة، وإن الضربة من يده كانت تجعل الفرقة ترجع لنفس الرتم فكانت لهم الميزان".
ويتابع "وثالث أعضاء الفرقة كان محمود أحمد محمد، وكان يعزف على النوبة بعد رحيل العم عبد الراضي عن الفرقة، ورابعهم كان محمود النوبي أو محمود أبو لعوب، وكان يعزف على آلة المظهر وهي آله تشبه الرق الصغير لكن أعمق وأكبر، والأخير كان فوزي حافظ عازف الناي، وكان يستعين به الشيخ أحمد عندما يسافر لإقامة الحفلات في الخارج، حيث كان يبدأ الحفل بمقطوعة فردية بآلة الناي".الشيخ أحمد أجمل من كان يعزف على الإطلاق، يجعلك تنتشي وهو يرفع يده بالرق الصغير الخشبي ويقربه من الميكروفون ويعزف نغمة خاصة جدًا، يجعلك تسمع صوت الهدهد مرةً ومرةً إيقاعًا يأخذك إلى البعيد، إلى منطقة ترى فيها نفسك فقط، وعندما سألت العم علي برين؛ إن كان الشيخ أحمد يعزف آله ثانية، قال إنه كان يعزف على هذا الرق فقط وفي إحدى حفلات فرنسا كان من الحضور أساتذة موسيقى فجاؤوا إلى الشيخ ليسألوه هل يضع شيئًا داخل هذا الرق الصغير ليخرج هذا الصوت؟ وقال إنه لا يضع أي شيء مما جعلهم يندهشون إثر ذلك، ولعل أوضح صورة لهذا المشهد تجده في حفل المغرب.
كان مولد سيدي أحمد بن إدريس هو المولد المفضل الذي يمدح فيه أب برين، وكان يوافق العشرين من رجب كل عام، ظل الشيخ يحتفل به لمدة أكثر من 55 سنة في قرية الدير وكانت مجمع محبيه من أسوان حتى قنا، وكانت ثاني الليالي القريبة لقلب الشيخ أحمد وعلى لسان علي برين كانت ليالي سيدي أبو حجاج في الأقصر، ومن ثم ليالي قوص بكل قراها لأنهم كانوا يعشقون الشيخ، وكانت الليالي الأشد حنينًا لها هي ليالي أسوان كوم امبو ودراو، وكان الشيخ أحمد يمدح مع كل الطرق الصوفية لكنه كان يتبع طريقة السيد سعد الدين الجباوي، والسجادة الخاصة بهذه الطريقة في سيدي يونس الشيباني في القاهرة بجوار بوابة النصر، وهذا على لسان علي برين.
كان للشيخ أحمد أكثر من 36 شريطًا معتمدًا من شركة تسجيلات كانت تُدعى فودافون، وفي فترة تعرضت لأزمة واشتراها أبناء الخطيب، الذين جاءوا للشيخ وأعطوه مبلغًا رمزيًا وسجلوا له شرائط أخرى معهم، وكان للشيخ أحمد تفاعلًا كبيرًا مع مريديه وكان إذا قال له أحد الموجودين خانة أو بيتًا يعجبه كان يرد عليه الشيخ بمسبَّع كامل فورًا، ويا ويل الذي يقول شيئًا به استهزاء مثلًا أو كلمة لا تعجب الشيخ، فإن رده عليه يجعل الناس يعرفونه بفلان الذي قال له الشيخ كذا ويصبح أضحوكة لا تُنسى.
فرش وغطا
على عكس المتوقع والمعروف بأن علاقة الشيخ أحمد ومحمد العجوز علاقة كلها مشاحنات أو سب وخلافه، في حديثي مع العم على برين، وبداية ذكري لمحمد العجوز وجدته يترحّم كثيرًا عليه ويقول عنه كل الطيب، وعندما سألته عن المعروف عن علاقة العجوز بالشيخ قال إن العلاقة بينهما كانت قوية جدًا وطيبة إلى أقصى درجة، لم يكن محمد العجوز ابن أخت للشيخ أحمد كما يقولون، كان محمد العجوز من نجع هلال من إدفو، وبدأ العمل مع الشيخ من سنة 1977 تقريبًا إلى سنة 1980، وكان يعمل معه في الفرقة يعزف الرق، وأخذ هذه الفترة يقيم مع الشيخ أحمد في منزله، ويذهب لبيته مرة أو مرتين في الأسبوع، ومن ثم شق طريقًا خاصًا به وحده، واشتهر هناك في إدفو وبدأت شهرته من هناك.
وأوضح العم علي برين أن الشائع عن شرائط فرش وغطا بين العامة، وعن وجود مشاحنات بين العجوز وأب برين، غير صحيح بالمرة، وأن من كتبوا عنها لم يتحروا الدقة. ويحكي علي برين قصة يبرهن بها على ذلك، فيقول إن "الاحترام القائم بين الاثنين كان لا يتخيله أحد، فعندما كنا في طريقنا إلى إدفو مثلًا ونجد العجوز جالسًا على القهوة، فكان يقول الوالد لي "وقف العربية ونادي عليه" وذهبت أنا للعجوز لأقول له إن الوالد جالس في السيارة، فقام العجوز يهرول إليه ويقبِّل الشيخ من قدمه إلى رأسه، ويذهب ليأتي "بصندوق ساقع" ويكرم الشيخ أحمد ومن معه كرمًا لا تتخيلينه".
ويقول كذلك إنه "عندما توفي محمد العجوز كان الشيخ أب برين تعافى من جلطة أصابته، وعندما ذهب إلى نجع هلال عند سماعه للخبر أصبح يبكي الشيخ أحمد كالأطفال ويقول "يا ولدي يا ولدي" وتأثر الجمع كله أثر تلك المحبة".
الأدب الشعبي في الجنوب
عندما يطلق على أي فن أنه "شعبي" يعتقد الكثيرون أنه بلا قواعد أو أساس، وهذا ظن غير صحيح بالمرَّة، فنحن نجد في الفنون الشعبية روح الشعب وما يحبّه ويعبر عنه، فمثلًا في الجنوب تستطيع أن تجد أشكالًا كثيرة للتعبير والحكي، بداية من النساء داخل البيوت في الليالي العادية، فتجدهن وقت الخبز يدندنّ بكلمات تصف القمح وسماره، ووقت الأعراس يتغنين بكلمات تتدلى من عناقيد شعر صافٍ يرتجلنها بانسيابية بسيطة وممتعة.
وإذا ذهبنا إلى أهل "المعنى" فمنهم من يحب القول والحكي مثل محبي السيرة الهلالية الذين يحفظونها عن ظهر قلب، ورحلة بني هلال التي اشتهر بها الشاعر جابر أبو حسين والأبنودي معه، وتبعهما محبو فن الواو بشكل عام، حيث إنهم يحبون نظم الشعر والتعبير به عما يدور ويحدث، وهناك أيضًا فن "النميم" واشتهر به أهل أسوان وكان يقال على هيئة مربعات من الشعر، وكانوا يتغنون بها في رقص الكف وتسمى الخانة يبدأ المطرب بها في ليالي الأعراس ومن الممكن أن يرد عليه أحد الموجودين بخانة أخرى على نفس الوزن وأكثر من اشتهر بها أبو الحسن والأمين ومن بعدهما رشاد عبد العال.
وأيضًا نجد فن العديد، وفي اعتقادي أنه أكثر وأكبر من حصره في أنه مجرد عادة فهو فن تجد فيه شعرًا صافيًا يملؤه الحزن والصدق معًا، وأيضًا الفرش والغطا، هو فن من الفنون القولية الشهيرة في صعيد مصر، يعتمد اعتمادًا كليًا على الارتجال المباشر أو التراث المحفوظ، وهو يتكون من سبع شطرات على وزن بحر البسيط غالبًا، نظام التقفية فيه يعتمد على الجناس التام في الثلاث شطرات الأولى وجناس تام آخر في الثلاث شطرات الثانية، ويأتي الشطر الأخير على نفس الجناس التام الأول متممًا المقطع الشعري وكأنه يغطيه، لذلك سمي بالفرش والغطا، وهو الذي اشتهر به الشاعر والقوال أحمد برين وأيضًا محمد العجوز وعبد النبي الرنان.
والأهم بالنسبة لنا الآن هو فن المديح، الذي تجد أكثر مريديه وأشهر مداحيه في الجنوب، ويبدأ عادة مدح الذات الألهية ثم الرسول وآل البيت، ويطلب الوصل، واستخدم الكثير من المداحين قصائد الفصحى لشعراء الصوفية مثال ابن الفارض والحلاج، وهنا نجد مدى اختلاف أحمد برين في استخدامه للعامية في الكثير من مواويله ومسبعاته؛ العامية التي تتميز بالفصاحة العربية والتمسك بالتراث والحفاظ على المعنى.
تجده يقول العامية الدارجة بلغة فصيحة تتعجب لها، هذا بخلاف الجناس الذي تجده فيما يقول أب برين الذي تسمعه مرة واثنين وثلاثة حتى تكتشف الجمال في استخدام نفس الكلمات والتركيب أحيانًا، لكن باختلاف المعنى والقصد، هذا ما كان يفعله الكثير من الجنوبيين في فنونهم القولية لكن الشيخ أحمد هو الأروع في ذلك والأصفى على الإطلاق، تجده مثلًا يقول:
يا ظبية الأنس ليكي قلب جافيهِ (جافي أهو)
ضربتِ نبلك أصاب قلبي وجا فيهِ (جاء فيه)
فضلت أبكي ودمع العين جافيهِ (جفّ اهو)
شغلت فؤادي ولكن مهجتي قالت
حضرتلي بالأمس وقعدت للصباح قالت (من القيلولة)
ناديتها لا تكوني كالتي قالت
"فذلكنَّ الذي لمتنني فيهِ".
دائمًا التعبير الشعبي هو الأهم في بلاد الجنوب، وربما يكون الأدب الشعبي والمحلي هو الأصدق في التعبير عن الشعوب وحالتهم ومشاعرهم في العالم أجمع.
ما لم تحط به خبرًا
تتعدد الجوانب الإبداعية عند أحمد برين ولكنني أخص بالذكر تناوله لقصص التراث والقصص المذكورة في القرآن، فإنه تناولها بشكل بديع يستطيع فيه المرء البسيط أن يفهم ويفسر آيات كتاب الله، ويستطيع الإنسان الواعي التلذُّذ والاستمتاع بما يعرف بشكل فريد، يجعلك ترى "كليم الله موسى" وتعيش معه رحلته مع الخِضر، وتذوق اختبار الصبر على "ما لم تحط به خبرًا"، وتعاني مع "أبونا الخليل" في اختبار الله له في ولده، وبحثه عن الله في بداية رحلته، وتعذر "زليخة" في محبتها للنبي يوسف، وترى المشهد كأنك كنت هناك مع النسوة وهن يقطعن أيديهن.
لعلي أحاول الآن كشف الجمال عند الشيخ أحمد في استلهام الشخصيات التراثية والدينية التي كان يتناول قصصها، ونبدأ من يوسف الصديق التي بدأها الشيخ بمسبع بديع مطلعه:
"يا ظبية الأنس مالك لم تيجي حالي.."
ومن ثم يكمل الشيخ أحمد الحكاية بمتعة من رآها، وصدق من شعر بها، يجعلك ترى المشهد كاملًا، بداية من يوسف الذي جاءه المدد وأنقذه من المكيدة ووصف حاله:
"لولا البراهين يوسف كان ملابسها" ( أي مال باسها)
وزليخة التي "كادت أن تخلع كل ملابسها"، مرورًا إلى النسوة اللواتي شاهدن يوسف، قائلًا على لسان زليخة:
"شافوا ابن يعقوب وقطعت يدّهم سكين
قالت يا مساكين أهو اللي فيه لومتوني".
ببساطة تشبه أب برين وحده، يمكنك أن ترى المشهد هكذا أمام عينيك.
أما في قصة موسى والخضر، فتناولها الشيخ برين بشكل إبداعي لا يوصف، فبالطبع الخضر له كراماته وأهميته لدى الصوفية بشكل خاص، وموسى كليم الله معه في رحلته، تجد الشيخ أحمد يتناولها في جزئين، فيجعلك تشاهد الفرق ما بين عين موسى وعين الخضر، ما بين الباطن والظاهر، بين الولي والمريد، تجد الشيخ أحمد يبدأ القول في الجزء الأول بـ:
"موسى كليم الله يحكم ظاهرًا.. والخضر يحكم بالقضا في الحالِ".
ويبدأ الشيخ أحمد معك ببداية قصة موسى وإلقائه في اليم، يصور لك المشهد ويجعلك تسمع بأذنيك وقلبك ما كان يدور في ذهن أم موسى على لسان اب برين فيقول:
" أقوم من النوم تسبقني دموعي أبكي.. على حبيبي اللي رميته وهو ملكي".
مرورًا بكل ذلك الحزن إلى أن يصل المدد من الله فيقول أب برين على لسانها أيضًا:
"لما جت له العناية صبح يضحك وانا أبكي".
ومن ثم يرجع الحديث إلى موسى الذي لم يكن يعلم ما يدور في بال الخضر، من خرق السفينة ثم قتل الغلام وبناء السور للقرية التي بخل أهلها على نبي الله والخضر.
تغنى بذلك وأنشد الشيخ أحمد واصفًا ما حدث على لسان الخضر لموسى:
"لما خرقنا السفينة كنت تعرفني ونسيت اسمي.
لما قتلنا الغلام كنت حبيبي بس خصمي
في يومها بنينا الجدار وانت والأيام على جسمي
آدى جزاة اللي نزل عكّر عكر وغيره صاد"..
يجعلك تغمض عينيك وتتخيل نفسك مكان موسى عليه السلام وهو يبحث عن رجل له علم لدني، رجل تذوق طعم الوصل، ويصف أيضًا الشيخ أحمد لقاء موسى مع الخضر ويحكي متخيلًا ذلك المشهد:
" لاقيه بعلمه اللدني
قاله: من أخبرك عني؟
قاله: ربي اللي خلقني
أمانة يا شيخي أيا عمي
هل أتبعك لتعلمني؟
قاله: إن كنت عايز تتبعني
وفعلت شي لا تسألني
وكون صابر والصبر اهو داه
لآخر التسجيل يجعلك برين بخفة الإيقاع وجماله تعيش مع موسى والخضر رحلتهما، وكأنه يعلم طريق قلبك ويستعير عينيك ويعيرك عينيه ليجعلك ترى ما يرى وتطلب الوصل عندما يصل.
أما قصة الخليل إبراهيم، فيحكيها لنا الشيخ أحمد بداية من الطير إلى البحث عن وجود الله، إلى اختبار ربه له في ولده، بالطبع نعلم الكثير لكن أب برين يجعلنا نعيش ذلك، وتجده في بداية القصة يقول:
"أبونا الخليل شاهد شي من غربا ( من الغرايب)
فضل ينادي على فعل الهلس مين غربا ( مين غرك يابا؟)
ومن يتقِ الله ياكل عيش من غربا ( من غير ربا)
أسمع أبونا الخليل فى القرآن بيخاطب النمرود
قاله إن كنت معبود هات لي الشمس من غربا".
ويكمل الشيخ أحمد القصة حتى يصل للمشهد الأصعب، الذي كان فيه سيدنا إبراهيم يختبر بأصعب اختبار وهو ذبح ولده، وهنا يطلق الشيخ أحمد الوصف:
"المدية في إيد الخليل وابنه ع الأراضي شَهد (المدية أي السكين)
قال: يا أبتِ إفعل ما تؤمر وليل كل الخلايق شهد
أجمعنا يارب مع الصالحين والشهد (اي الشهداء)
كلامك كما الشهد مثله قط ما سمعنا".
يبدع الشيخ أحمد دائمًا في تناوله للقصص واستخدامه للتناص، يزور حانة الوجد ويصطحبك معه، يشرب من كأس المُدام ويمسك بيدك ليجعلك تتذوقه، فيروي ما فيك من عطش، يصلك ويجعلك موصولًا بالجمال والرقة والمدد.
وفي نهاية التسجيل الذي يحمل اسم "أبونا الخليل" يتحدث اب برين للمبتلي وينصحه ويصفه، يأتي بجانبه ويتحدث بدل عن صمته –صمت المبتلي- فيقول:
"إن أظلم الليل تروحوا فين يا مبالي".
هكذا أنهى أب برين ذلك التسجيل وأنهينا نحن الحديث عن تناوله للتناص ورحلته التي أخذنا معه فيها بكل إبداع وسلطنة، جعلنا نرى الخضر ونبكي مع أم موسى، ونُختبر مع سيدنا إبراهيم في ذبح ابنه.
أما عن روح الصوفية التي نجدها في كل ما يقوله "أحمد برين"، وروح المدد، وتعب الطريق والمشقة:
"العذاب في الحب هين بس لو يرضى الحبيب.. أما هجره شيء يجنن شيء يزيد النار لهيب".
هكذا يدلل الحبيب ويبتغي وصله، يعاتبه ويرضى بعذاب قلبه مقابل أن يرضي ذلك المحبوب، يبحث عنه في رحلة شقية، وهنا نتذكر تسجيل العصفور الذي عاتبه الشيخ أحمد بأنه بعدما كبره واعتنى به سافر وهجره، ويظل يبحث عنه أب برين في البلاد. ويقول في مقدمة التسجيل "وكيف أنساك يا من لست تنساني؟".
نتخيل أن العصفور هو المحبة التي يضل عن طريقها المُريد أحيانًا وعندما يعود ويظل يبحث عنها في شرق البلاد وغربها مبتغيًا الوصل، يردد آهات الحزن التي يتمثلها الشيخ أحمد بعذوبة صافية وهو يقول "حبيبي لما رحل كتبت اسمه في حجر صوان" وهنا يبين مدى إخلاصه للمحبوب، ورغم أنه فارقه نحت اسمه على الحجر، في نهاية التسجيل تجد الإيقاع في سرعة أشد وأكثر خفة ورشاقة ومن خلفها الشيخ أحمد يدفع بالقلب الذي يملؤه المحبة ويوجهه للطريق ويقول:
"باب القبول اتفتح قدم طلب يابني
احنا علينا الأساس وانت عليك تبني
أنا غفلت لحظة وجه المحبوب يعاتبني
بتحب وتنام، يبقى في شرع مين يابني؟"
هكذا ألقى في قلوبنا بذرة التخلي عن كل شيء إلا الله، أي المحبة.
أحمد برين شاعرًا
عندما تستمع لأب برين تجد نفسك كثيرًا ما تقول "الله"، على الصوت مرة وعلى الإيقاع مرة وعلى المعنى في الكثير من المرّات، لم يكن الشيخ أحمد مجرد قوّال أو مداح، فهو شاعر بكل ما تحمله الكلمة، شاعر جميل وعذب يشبه الجنوب ونيله الصافي بشكل لا تستطيع أن تفسره، يستطيع تكرار كلمه "الله" حتى يذوب فؤادك، ويكرر النداء بالمدد حتى تستطيع أن ترى الوصل وتهيم، لم يكن أحمد برين شاعرًا جميلًا فقط بل كان مميزًا في تناوله لكتابته وما يقول.
دائمًا أرى في خيالي صورة أب برين شاعرًا بديعًا عربيًا أصيلًا، يحمل اللفظ والتركيب في عقله ويضفره بالمعنى الذي يكمن في قلبه، أتخيله وهو هائم يميل رأسه يمينًا حينًا ويسارًا حينًا، ويصرخ حين يقبض على البيت الأول من المسبع أو الموال، يقبض عليه بيده التي كانت تدق على الدف دقة محب وعاشق، أغمض عيني وأراه يمشي في الجزيرة العربية قابضًا على تراثها ومخيلاتها العذبة، مرادفاتها وتراكيبها التي لا تزال حديثة وخفيفة وراقصة، يجعل العامية عربية فصحى، ويبسّط الفصحى بساطة يفهمها أهل القرى البسطاء، يجعل المعنى القوي لينًا وبسيطًا، نجد مثالًا بسيطًا وهو الشطر الذي كان يقول فيه أب برين للظبي (والمقصود به المحبوب) وهنا أيضًا تركيب عربي أصيل وقديم حيث كان العرب يتحدثون للظبي والغزال كأنه الحبيب، وهنا يقول الشيخ أحمد:
"ضربتِ نبلك أصاب قلبي وجا فيهِ.. فضلت أبكي ودمع العين جافيهِ".
وهنا تأخذنا الذاكرة في هذا التركيب للعصر العباسي ونتذكر قصيدة الوأواء الدمشقي الشهيرة نالت على يدها ما لم تنله يدي وهو يقول:
مَدَّتْ مَواشِطَهَا فِي كَفِّـهَا شَرَكًا تَصِيدُ قَلْبِي بِـهِ مِنْ دَاخِـلِ الجَسَـدِ
وَقَوْسُ حَاجِبِـهَا مِنْ كُـلِّ نَاحِيَـةٍ وَنَبْلُ مُقْلَتِـهَا تَرْمِـي بِـهِ كَبِـدِي
ولعل أشهر ما يجعلك تكتشف إبداع أحمد برين هو شريط فرش وغطا الذي كان فيه الشيخ برفقة محمد العجوز وأذكر هنا مثال:
طول العمر يا خل زي الوقت داريني
كان الريبة معدوم بقي معلون داريني (داري أنا، يقصد الدار)
من كتر الافكار غافل بس داريني (داري أنا، من الدراية والمعرفة)
من ميلة الدهر والأيام انا خاشي (خائف)
الوقت جار عليّ ونعلّي أبو خاشي (لفظة في الصعيد تفيد السب)
ونويت اهاجر وأنصب في الجبل خاشي (يقصد خيشي أو الخيش الذي تقام به الخيمة)
واديني ماشي يا ولدي بقول يا حيط داريني
ببساطة الشاعر والقوال تجد هنا أب برين يقدم المسبع بلطف شديد ويأخذ عقلك أيضًا للأمثال التي نعرفها جميعًا وبالأخص "واديني ماشي يا ولدي بقول يا حيط داريني" ويربط أيضًا بينها وبين المسبع ببساطة تسكر المستمع ليقول "الله"، وهذه أيضًا صفة من الصفات التي يتميز بها الشاعر الحقيقي، وهي ربط ما يقول بالتراث وربط المعنى الذي يقوله في رأس المتلقي بالواقع الذي يعيشه والعادي الذي يعرفه.
في علبة الصبر يصيح الشيخ أحمد بداية بالموال الذي تجد في تقسيمه أن صوت أب برين وحده يستطيع الشدو به، وأجمل ما يقول فيه:
"مكتوب على ماركتك ده الطيب المبلي"، هنا جعل للصبر علبة ولها ماركة، وأنها للطيب المُبتَلى الذي يتغنى له الشيخ أحمد ويصفه ويربت على كتفه.