"غضب الله على البشر الكافرين"
"جندي الله"
"الله يعذب بالكورونا الضالين"
أكثر ما يزعجني، هي تلك العبارات التي يرددها من يعتبرون أنفسهم مؤمنين، ولا أقصد بالمؤمنين أتباع الرسالة المحمدية فقط، بل أتباع الديانات الأخرى كذلك، سواء إبراهيمية كانت أو شرقية.
سنجد رجال دين، وأتباعًا لهم في كل الديانات الآن يقولون نفس العبارات والجمل، إن لم يكن جهرًا، فسِرًا.
كلُ مَن ملأ الغضب قلبه، يستخدم ذلك الفيروس، للتنفيس عن ذلك الغضب، وإثبات حجية رأيه، يندلع الحقد والرغبة في التشفي، من قلوبهم، وتلوكه ألسنتهم، مؤولين آيات الله حسب أهوائهم ورغباتهم، يتعاملون مع الله الغفور الرحيم، معاملة القائد العسكري المهزوم، الذي يوزع غضبه على أتباعه الذين عصوا أوامره، فهُزموا.
متناسين رحمة الله وحبه، متناسين أنه الودود اللطيف، وإن كان هناك غضب من الله على عباده (عباده هنا يقصد بها الكون أجمع بكل كائناته عاقلة أو غير، جامدة أو حية، لا أتباع دين أو مذهب أو طائفة معينة) فبسبب قسوتهم وتجبرهم وتكبرهم على بعضهم البعض، لا على الحق سبحانه.
…….
"فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"
الأنعام 43
"وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ"
المؤمنون 76
إن سلمنا بأن الجائحة العالمية التي تضرب أرجاء الأرض الآن هي غضب الله على عباده، فذلك الغضب لم ينزل علينا بسبب أننا لا نقيم الشعائر من صلاة وصوم، إلخ، فالمساجد والكنائس والمعابد كانت تمتلئ بروادها، والصيام يقيمه الصائمون، والزكاة والأعشار وخلافهما يخرجها المتدينون، والحجيج يتدفقون من كل فج عميق على المزارات الدينية، كعبة مشرفة كانت أو قدس، هيكل أو حائط، حتى الهندوس والبوذيين.
فأغلب أتباع الديانات يقيمون شعائرهم، كما جاءت في نصوصهم المقدسة، فلِمَ الغضب إذًا، وإن كان غضبًا، فلِمَ يقع على الجميع؟ ما الذي أجمع الناس على تركه، كي يغضب عليهم الغفور الرحيم؟
إن أخذنا الآيات السابقة، وبحثنا في التنزيل الحكيم عن "ض ر ع" المشتق منها كلمة تضرع، ستجدها آتية في سياق التكبُّر والغفلة المَقرون بالعذاب.
لكن ما معنى الكلمة؟
"(ضرع) الضاد والراء والعين، أصل صحيح يدل على لين في الشيء، من ذلك ضرع الرجل ضراعة، إذا ذل، ورجل ضرع: ضعيف…
ومن الباب ضرع الشاه وغيره، سمي بذلك لما فيه من لين".
كتاب مقاييس اللغة لابن فارس.
فالضراعة من الذل، والذل هنا من اللين.
فالله سبحانه يطلب من عباده، حين يقع الغضب والعذاب أن يتضرعوا له، أي أن يتذللوا له ويلينوا.
هنا يمكن أن تؤخذ لمعنى أن نقيم الصلوات، وندعوا الله تعالى بذِلة ومسكنة، كي يخفف ويزيح عنا ما ابتلانا به..
لكن الناس تقيم الصلوات وتدعو جهرًا وسرًا، فلِمَ هو مستمر معنا؟
ولِمَ لم تُفِد تلك الصلوات والعبادات؟
الجواب بكل بساطة، لأننا أصبحنا نتعامل مع آيات الله بالظاهر، نتعامل معها على أنها طقوس، نقيم الصلاة كطقس نأخذ عليه أجر، لا كمعنى، نصوم لنفس الشيء، نزكّي ونحج ونشهد بالوحدانية وبالرسالة المحمدية، كي نأخذ الأجر والثواب، أما المعنى والروح، فلا نقيم لهما الوزن الكثير.
يتعامل أغلب أتباع الديانات مع الله عز وجل، كتاجر، يعطونه نصيبه عبادة، وينتظرون نصيبهم أجرًا.
في حين أن كل العبادات والشعائر إن لم تُقم بداخلنا، إن لم نُقِمها بأفئدتنا، إن لم يكن معناها يحركنا، فما فائدتها؟
……….
دعونا نعود إلى الأصل قبل أن نعود الى الضراعة مرة أخرى.
هل يحتاج الله إلى عبادتنا؟
إجابتي الشخصية هي لا، نحن من يحتاج إلى تلك العبادة و معناها، فالله لديه ملائكة شداد، يعبدونه ويسبّحونه ليل نهار، ويفعلون ما يؤمرون.
ولديه الشيطان، الذي يعصاه ليل نهار، ولا يفعل هو وأتباعه ما أمرهم بهم.
فلديه العابدون، والعاصون…
ولا يحتاج إلى عبادتنا.
سأعود للأسف للبديهيات التي دفناها في الطقوس.
لِمَ نحتاج إلى العبادات؟
لأنها الصراط المستقيم، فمِن الصلاة نتعلّم الصِلة بالخالق، نتعلم حينما نخشع، ونصفّي أذهاننا من كل الأفكار، ونسلِّم أرواحنا قبل أجسادنا للودود اللطيف، لنتعلم كيف نتصل بأنفسنا أولًا، ومن ثَمَ بباقي مخلوقاته،كي نتعلم أن الصمت ليس باللسان، بل الصمت الأهم هو صمت العقل والأفكار.
حينما نتعلم كيف نتصل بالله، نتعلم كيف نتصل بالكون بأكمله.
الصلاة تدريب للعقل كي يصمت، وللروح كي تتصل.
لِمَ نزكي؟
لنتعلم التخلّي عن المادة، ونتصل بالبشر، المحتاج والفقير والمريض، كي نعلم أن لا دوام لمال أو لصحة، نتعلّم أن نرحم، وأن نلين بين أيدي بعض، ونتعلم أننا لا نملك ما نملكه، وأن المادة زائلة، وأن كل حالٍ إلى زوال، ولا شيء يدوم.
لِمَ نصوم؟
كي نطهِّر أرواحنا وأنفسنا، كي نتعلَّم كيف نتحكَّم بالشهوات، وقبلهم كيف نتحكم في الغضب، فالغضب يفسد الصيام كما يفسده الماء.
كالشجر، حينما تمنع عنه الماء، تتمدد جذوره وتثبته وتزيد اتصاله بالأرض.
كل الأديان باختلافها نصت على الشعائر السابقة، باختلاف المسميات، صلاة كانت أو تأمل، زكاة كانت أو عشور.
نصت على المعنى قبل الطقس، على اسم الله الباطن قبل الظاهر.
فلمَّ التضرُّع؟
كي نتعلم ألا نكون قساة القلوب، فقاسي القلب متكبر، لا يلين بين أيدي أحد، قاسي القلب لا يرحم، فلن يستطيع أن يطلب الرحمة بصدق، إن كانت الرحمة ليست بداخله، فكيف يطلب من الله شيء، لا يدركه؟
طلب منا الله التضرَّع حين وقوع العذاب، كنتيجة، لا كسبب..
كي تتضرَّع لابد أن تكون رحيمًا، وترحم غيرك، تسامح من أساء إليك، وتلين بين الناس وتقسط بينهم، والقسط أكبر من العدل، فالقسط لا يعني العدل، فاللغة العربية لا تعرف الترادف، القسط يعني أن تعدل بزيادة حق الناس عن حقك.
فإن وزنت للناس، فزد في ميزانهم، وإن أعطيت أجيرًا حقه، فزد في أجرته.
فالرحمة هي السبيل الوحيد الذي نفعله كعامة، من غير العلماء والأطباء المنوط بهم العلاج وإيجاد اللقاح اللازم، كي نعبر من هذه الجائحة، أن نقسط ونرحم بعضنا بعضًا، ونقسط ونرحم الحيوانات والأشجار والكوكب الذي جأر بالشكوى من أنانيتنا وتكبرنا وقسوتنا التي لا توجد بهذه في أي كائن آخر.
الله هو المطلق في الرحمة والحب، الله هو المعنى، الله الذي لم يعطينا اسمه، كي لا نعبد الاسم وننسى المعنى.
"رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا " مريم 65.