يفتتح فيلم الأرنب جوجو الذي رشح لست جوائز أوسكار فاز منها بأفضل سيناريو مقتبس، بمشهد طفل أبيض بشعر أشقر وعيون زرقاء يرقص مرحًا مع أصدقائه بزي عسكري مرصع بالنياشين، مع موسيقى مرحة في الخلفية، وبعد مجموعة من اللقطات المتتابعة يظهر من يبدو كأدولف هتلر يرقص مختالًا كالأخرق برفقة الفتى، ويحدث ذلك كله فيما سنعرف بعد قليل أنه معسكر لكتيبة أنشأت لتجنيد الأشبال من الأطفال الألمان للحرب في صف ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية.
لا يكاد المشاهد يطمئن إلى ما يظنه أحداثًا كوميدية، حتى يأخذه الفيلم في طريق السخرية اللاذعة والكوميديا السوداء، حين يبدأ مساعدو القائد في التأكيد على أهمية وجود الفتيات في المعسكر، ودورهم الذي لا يمكن تناسيه في تحضير الوجبات للمجندين من الذكور وتضميد الجراح وتعلم قدر ما يمكنهن عن أهمية إنجاب أطفال أصحاء للرايخ.
على الرغم من حماس الطفل للفوهرر وحزبه، يتقصده القادة بأوامر قاسية صريحة، يخاف الطفل ويجري راكضًا وسط تهليل القادة والأطفال، يكتسب الطفل بعدها لقبًا، اسمًا وصفة؛ الأرنب جوجو.
الحاجة إلى الصديق الخيالي
يجلس جوجو في الغابة وحيدًا مشبعًا بالعار، فيظهر القائد أدولف هتلر في صورته المرحة الخرقاء من خلفه بشوشًا يحاول أن يستطلع أمره ويسرّي عنه، فيشتد عزم الفتى عندما يخبره القائد بأن لا عيب إطلاقًا في وصفه بالأرنب؛ ذلك الحيوان السريع القادر دومًا على المناورة واستطلاع أماكن الغذاء والتكيّف مع بيئته المحيطة. بعدها يركض الطفل عائدًا إلى المعسكر، مكللًا ومعميًا بثقته المطلقة في صديقه الخيالي.
يمنح هذا الحماس المكتسب الفتى طاقة كبيرة للانخراط في حفلة حرق الكتب في معسكر الأطفال النازي، حيث يبدأ الأطفال بإلقاء الكتب داخل آتون نار التخييم بفرح حقيقي، مما يستدعي إلى الأذهان فيلمًا آخر بقصة تتشابه كثيرًا، وهو فيلم سارقة الكتب، رغم اختلاف الأجواء.
يحضر الصديق الخيالي أيضًا في سارقة الكتب، تستحضره الطفلة الوحيدة التي تتقاذفها في جحيم النازية دور الرعاية حتى تستقر في بيت زوجين، كان الزوج فيه حنونًا رخوًا في ردود فعله، أما الزوجة فتبدو متسلّطة لا تأبه كثيرًا بالأطفال، ولا يهمها سوى الدعم الحكومي الذي تحصل عليه نظير رعايتها للطفلة.
كان الصديق الخيالي الذي استحضرته الفتاة هو الكتب التي كان أولها كتاب سرقته من جحيم الكتب المقام في الشارع القريب، التقطته وقد احترقت أطرافه ونجت البقية من المحرقة. اعتادت الفتاة بعدها الاستغراق في القراءة التي صارت تسرقها من بيت زوجة عمدة المدينة، لتستطلع عبرها الحيوات المختلفة، وتتخذ منها عونًا على الأيام السود الطوال. فبينما انجرّ جوجو تابعًا للنازي الأحمق، من أحداث سيئة إلى مصير أنكد، قاومت الفتاة بالكتب حياتها الباعثة على كل كآبة.
مقابلة العدو: كلّ من خندقه
في الفيلم الأول يتسلل جوجو إلى غرفة أخته المتوفية مستطلعًا آثارًا حديثة بدت على المخبأ خلف الحائط، ليظهر وجه محدّق لفتاة مشعثة أمام كشافّه الصغير فيرتعب بينما تمسك الفتاة بخناقه ليصرّح الفتى أمامها بأكثر الكلمات رعبًا وبغضًا إلى نفسه "أنتِ يهودية".
بقدر ما يرتعب الفتى ويهرع إلى الأسفل مناقشًا الكارثة المهولة التي اكتشفها مع صديقه الخيالي، وسط سيناريو يسخر من هتلر ذاته، حين يقترح على الفتى الحل الأمثل من وجهة نظره للتخلص من "تهمة إيواء الفتاة"؛ أن "نحرق المنزل ونتّهم وينستون تشرشل".
أما الفتاة سارقة الكتب، فتتآزر مع ماكس الرجل اليهودي المختبئ في قبو والديها بالرعاية، وتتفاعل معه وتسأله عن تفسيره للوضع السياسي، وتستعير منه كتبه، وبينما يجاهد جوجو في إيجاد حل للقضاء على الفتاة اليهودية، لا تكاد تفارق سارقة الكتب سرير اليهودي المريض عند اشتداد الحمّى عليه.
تتباين نظرة البطل الطفل في الفيلمين، فبينما ينحاز جوجو لتطرفه وولائه، لا تأبه سارقة الكتب بالصراع الدائر حولها، فقط تبغض نتائجه وتخشى أن يصيب صديقها بأذاه. يحارب جوجو، بفطرته الأصيلة وبراءته كطفل، أفكاره المتطرفة التي تبدو واضحة في صورة صديقه الخيالي نتاج لا وعيه المحشو بالكراهية، بينما تحارب سارقة الكتب بالقراءة كل الكراهية من حولها والوحوش الألمانية النازية.
يعلم جوجو من الفتاة اليهودية أن لها خطيبًا في الجبهة، وأنها تنتظر عودته لينقذها من الأسر وحمّى النازية ومحارقها، يستخدم الطفل المعلومة ويزوّر رسالة على لسان الخطيب تُشقيها، فلا يلبث أن يعود معتذرًا برسالة أخرى بطابع طفولي ينضح على صفحاتها، فتبتسم الفتاة وتمنحه بشّتها الأولى.
أما سارقة الكتب فلا تملك إزاء مرض الصديق، إلا أن تقرأ له مقتطفات من كتبها المسروقة تطييبًا لجراحه، وتكتب له رسائل عن يومها ومغامرات صداقتها البريئة، مؤمنة بأن كل كلمة تتسرب إلى روحه ولابد أنها ستشفيه. تنقذها الكلمات من الوحدة واليتم، فتثق أن لها سرًا أصيلًا قد يعيد الميّت أصلا إلى الحياة.
كيف نحارب النازية؟ بالهزل أو بالكآبة؟
تتناقض الصورتان في الفيلمين. تصدح مشاهد الأرنب جوجو بألوان زاهية في مقابل ألوان سارقة الكتب الباهتة.
تحاول الألوان الزاهية في الأرنب جوجو استعارة قشور إحساس النازيين بتفوقهم بينما يقفون على مشارف الهزيمة، بينما تحتشد مشاهد سارقة الكتب بألوان قاتمة وأزياء بالية لنقل مشقّة الألمان أثناء الحرب وكدحهم في سبيل الغذاء تلبية أساسياتهم.
وكذلك جاءت الموسيقى في سارقة الكتب حزينة تنطق بمعاناة الأبطال بدلًا عن الحوار أحيانًا، خاصة في المشاهد التي تصوّر أحداثًا مأساوية جسامًا، بينما في الأرنب جوجو وبالمثل في حالة المشاهد الزاهية، تدخّلت الموسيقى وسط محاولات الأم للترفيه عن نفسها وطفلها بالرقص، في دعوة ظلّت توجهها للطفل المرح داخله لينقلب على صورة النازي المتطرف التي تلبسته بفضل دعاية الحزب النازي.
جميع حلفاؤك خانوك.. أو بعضهم
تخلو دنيا جوجو فجأة إلا من العدوة القديمة، شبه الصديقة، الملجأ الوحيد. ينكشف له وجه النازية الذي لا يأبه به، فبينما صار يلتقط الفتات وبقايا الطعام من الطريق الفتات، جلس صديقه الخيالي الشامت يتناول عشاءً مُشبعًا من رؤوس اليونيكورن، الكائنات الخيالية العسيرة على أمهر الصائدين إلا هتلر المنيع.
وبالمثل، ينقلب ما ظنّته الفتاة استقرارًا في أحوالها وهدنة بسيطة من كآبة لم تفارق المشاهد إلا في بضع لحظات، فقط ليجتمع شملها بصديقها ماكس بعد انتهاء الحرب وهزيمة الرايخ ووفاءه بوعده بالعودة مع أول إشارة أمان.
ينتهي الفيلم الأول بوفاء آخر بالوعد، برقصة يرتجلها جوجو والفتاة التي أخبرته أن أول ما ستفعله بعد هزيمة ألمانيا هو ابتداع رقصة احتفالية ما.