بين أشجار التوت الكبيرة في محافظة الدقهلية توجد قرية صغيرة اسمها كفر الأعجر، حدث أن همست فيها جنيّات الأرض لجنيّات الشعر عندما ولد الطفل زكي عمر عام 1938، بأن شاعرًا كبيرًا عرف طريقه إلى هذه الدنيا.
ولد زكي كأبناء الفلاحين طفلًا يغوي الأرض ويعرفها، يلمسها وكأنه كفيف يهتدي برائحة الزرع إلى السبيل، حتى كبر واشتدت يداه وأصبحت قادرةً على حمل الفأس، ليعمل مع الأجراء والفلاحين الذين كانوا يحبلون الأرض ولا يحلمون حتى بامتلاكها.
يعرفه الفلاحون جيدًا ويحبونه، ذلك الشاب الذي يسافر إلى المدينة –المنصورة- ليتعلم في المدرسة الثانوية ثم يعود في أيام الإجازات ليعمل معهم أجيرًا مقابل بعض القروش ينفقها على تعليمه. صاحب زكي الشجر وهمس للأرض أن تُخرِج أفضل ما لديها للفلاحين المخلصين، ظل يغني ليهون عليهم أثر الشمس التي طبعت سمارها ومحبتها على شعره ومنحته الكثير من الدفء والحرارة.
من هنا بدأ زكي رحلته مع الشعر العامية، من الغيط حيث أغنيات العمل ومواويل البسطاء. عندما يشتد الفقر في القرى المنسية يصرخ البعض على هيئة غناء ويصرخ آخرون على هيئة شعر، وآهٍ من صرخة الفلاح عندما تنفجر أبيات شعر. من هنا كانت صرخة فلاح اسمه زكي عمر، صرخة تحمل شعرًا شجيًا محمّلًا بالبوح ممتلئًا بالصور الممزوجة برحابة الريف وانطلاقه وصدقه.
عن سنوات زكي الأولى كعامل تراحيل ومزارع يقول الشاعر زين العابدين فؤاد "زكي اشتغل عامل تراحيل وبعدين درس واشتغل في الزراعة وكان له ديوان وقصايد عن عمال الترحيلة، وهي الشغل اليوم بيومه، بحيث يتجمعوا العمال ومعاهم زكي ويركبوا العربية بتاخدهم للأرض اللي هيشتغلوا فيها وممكن تاني يوم تاخدهم لأرض غيرها".
الشعر ظل في قلب زكي على الرغم من رحيله إلى المدينة، لينتقل من الدفاع عن الفلاحين للدفاع عن عمال المصانع، وكان له نصيب من الاعتقال قبل حرب أكتوبر بسبب مواقفه السياسية.
ولكن لماذا يخاف النظام من صرخة الشاعر؟
يسترسل فؤاد في حديثه للمنصة "طبعًا زكي ماكنش الشاعر الوحيد اللي دخل السجن، في نفس الفترة كان في السجن أحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود وسمير عبد الباقي"، مستكملًا حديثه بضحكة مليئة بالسخرية والحزن في آن "وقتها مش هقولك مين اللي اتسجن، هقولك مين اللي مادخلش السجن، فكرة سجن الشاعر أو المبدع في فترة كانت السلطة شايفة إن الشعر حاجة خطر جدًا وعشان كده كل الشعرا اتقبض عليهم وكنتي تلاقي في السجن رسامين وقصاصين".
وعندما أكمل حديثه عن زكي عمر ، بدا جليًا في صوته الفخر الكبير بشعراء جيله والإيمان بروح الكلمة وقوتها، إذ قال متبسّمًا "الشعرا لعبوا دور أساسي بعد هزيمة 67 وكانوا بينزلوا الجامعات والتجمعات، وقصايدهم موجودة على مجلات الحائط والطلبة بيدعوهم وطبعًا عشان كده كانوا بيتحبسوا وعشان كده اتحبس زكي عمر، لكن مين خرج من السجن وبطل يكتب؟ السجن ماهواش وسيلة لمنع الناس من الكتابة، العكس صحيح، يعني مثلا بعد 40 سنة الشباب كانوا بيغنوا أغانينا في 25 يناير".
كانت لزكي مواقف واضحة من الحرية والديمقراطية، فهو يعتبر الشعر أداة الطبقات الكادحة في التعبير عن آلامها وآمالها تعبر به عن انتكاساتها ويتغنى بانتصاراتها، وأظن هذا ما جعله يكتب الأغاني ويحاور الأشخاص على خشبة المسرح في شعره، فتحول فكره من المحلية وهموم الفلاحين -الذين يدافع عنهم- إلى محور أكبر وهو الإنسان بشكل عام، فلاحًا كان أو عاملًا.
حكاية أخرى من ذاكرة الكاتب سمير الفيل هذه المرة، وقعت في ظل مرارة الهزيمة "في مساء أحد اللقاءات ذهبنا لسرادق شعبي كبير اجتمع فيه المئات وضمنهم كان أمين عام الاتحاد الاشتراكي وكان اسمه ابو القاسم الطرشوبي على حسب ذاكرتي ومعه محافظ الدقهلية".
ويتابع للمنصة "عندما بدأت الندوة انبرى الشعراء لإلقاء قصائدهم التي كانت تتناول وقتها حرب الاستنزاف مع العدو الصهيوني حوالي 1969. وقبل وصول عمر لإلقاء قصيدته، قابل بالصدفة ماسح أحذية أخبره أنه بلا مأوى حيث يبيت في الشوارع والطرقات ويتمنى مقابلة المحافظ ليقدم له شكوى".
اصطحب زكي ماسح الأحذية معه إلى الندوة، حسبما يتذكر الفيل متابعًا "عندما نطق مقدم الحفل اسم زكي عمر، أمسك بيد عامل الأحذية وتقدم به نحو المنصة ووقف أمام مكبر الصوت ووجه كلامه للمحافظ قائلًا: قصيدتي الليلة هو هذا الرجل الذي لا يجد شقة أو حجرة تأويه. هل هذا يليق مع المجتمع الاشتراكي الذي تدعو له الدولة؟".
مع خشبة المسرح إلى قضبان السجن
بدأ زكي كتابة المسرحيات وتشخيص التجارب الإنسانية عن طريق الحوار الشعري. وفي حوار لم يكتمل ولكنه منشور على صفحة تحمل اسم زكي عمر على فيسبوك، وأكدت ابنته أمل للمنصة أنها بالفعل من أجرته معه، ذكر أنه بدأ تجربته مع المسرح من على المصطبة، حيث كانت البيوت بأبوابها وجدرانها وأسطحها هي الديكور. كان الناس يذهبون معه إلى القرى المجاورة أيضًا في عروض مسرحية تحفز على المقاومة، بينما البلاد تمر بمراحل صعبة في تلك الأيام حيث العدو إلى الجوار وشعور الهزيمة يثقل القلب والحرب وشيكة.
يعود الأمير لذكرياته "كان زكي من صنف هؤلاء الشعراء الذين يهتمون بنصٍّ على حساب باقي القصائد، وهو نص الحرية والمساواة".
بداية علاقته بالمسرح كانت مع مسرحية عرائس اسمها الفانوس عن قصة الروائي الكبير عبد الله الطوخي، ولكنها فقدت بسبب إهمال بعض المسؤولين ولم يكن زكي يحتفظ بنسخة أخرى منها. بعدها كتب أغانٍ وأشعارًا لمسرحية المشخصاتية التي أخرجها عبد الرحيم الزرقاني عام 1971.
في تلك الفترة أعد عرضًا مسرحيًا غنائيًا من أشعاره التي كانت سبب دخوله السجن في أكتوبر/ تشرين الأول 1972، واستمر العرض الذي أخرجه عبد الغفار عودة أربعة أشهر متتالية على خشبة مسرح الجمهورية، وقد حمل اسم مدد مدد.. شدي حيلك يا بلد وتضمن أغنيةً تحمل نفس الاسم غناها الفنان محمد نوح.
من النادر أن تجد شخصًا يعرف أن كاتب هذه الأغنية التي طالما رددتها الألسن هو زكي عمر، وقد تكرر كثيرًا أن نسبت أعماله لغيره.
تجربة السجن وبعدها السطو على أعماله ونسبها إلى غيره، دفعته إلى ترك ذلك كله والذهاب إلى اليمن الجنوبي، بعد أن خرج من السجن عام 1973، مع اندلاع الحرب.
من يقنع الشاعر بملازمة اليأس؟
من يقنع زكي عمر بالرجوع عن قرار السفر والبقاء في وطن أصبحت جدرانه مليئة باليأس؟ يبوح زكي دائمًا في أشعاره بالحنين إلى الوطن وعدم الرغبة في تركه على الرغم من أن وجوده هناك -في اليمن الجنوبي- نال تقديرًا كبيرًا من المؤسسات الثقافية هناك حتى أنهم احتفوا به وطبعوا بعض أعماله مثل عبد الفتاح الجندي والولد زاكي وكان له برنامج إذاعي أسبوعي وآخر على التلفزيون.
كان له شأن كبير في هذا البلد.
عندما سئل عن رفاقه وشعراء العامية في جيله، تستطيع أن تشعر في كلامه الذي جاء في الحوار الذي لم ينشر، بيأس وخوف لم يمسا قلبه فقط بل قلب الشعر ورواده، حيث تحدث عن الكبت السياسي وقتها بمسمى "عدوية السياسي" وقال بأنه هو الدافع الأول للرحيل ولقرار الهجرة، وبأنه –ذلك العدوية السياسي- يتجاهل الشعراء الحقيقين ويتبنى المسخ، ورغم ذلك كان يلوم شعراء جيله لأنهم يتكلمون "بالخاصية" وأنهم لم يتجهون لكتابة المسرح مع أن المسرح "هو الامتداد والعمق الاستراتيجي".
عاصر زكي شعراء كبار مثل عبد الرحيم منصور وسيد حجاب، لكن اللافت بحق كان ذلك التشابه الذي لا تخطئه ذائقة بين تجربتي زكي والأبنودي في ديوان وجوه على الشط مثلًا. تشابه كبير في أبيات كتبها الشاعران، بعضها كتبها زكي أولًا وبعضها كتبها الأبنودي أولًا، ولكن الحظ في العامية انحاز أكثر إلى الخال، ما يفسره زين العابدين فؤاد في رد بسيط يحمل محبة وثقة في كلا الشاعرين "التشابه ممكن يبقى في الموضوع بمعنى إن زكي بيكتب عن الفلاحين اللي عارفهم والأبنودي بيكتب عن الفلاحين اللي عارفهم برضو لكن ماتصورش إن التشابه تشابه شعري".
آمن زكي بكتابة الأغاني مثلما آمن بكتابة المسرحيات، كانوا –زكي وأصدقاؤه- يمشون مسافات حتى إذا اجتمعوا بالناس أنشدوا لهم الأغاني الحماسية والقصائد التي تدفع للمقاومة. هذا هو الشعر كما لمسته أنامل زكي الذي كان يحب أن يكنّى بـ "ابن الريف"، وكثيرًا ما وقع على دواوينه بـ "زكي عمر ابن الريف".
عندما تحدث زكي عمر عن كتابة الأغاني قال إنه "ضد تخدير الجماهير وأيضًا ضد اللعب بأعصابهم، فأنا مع الأغنية الهامسة، المقنعة التي تدعو الجماهير أن تتأمل وتفكر ثم تتخذ قرارها، لست مع الأغنية التي تناضل الجماهير دفاعًا عنهم".
ولكن الواقع في ذلك الوقت كان مغايرًا، واقع نجد فيه أكبر شعراء العامية يكتبون الأغاني الخفيفة إذا صح التعبير. يدين زكي هذا الواقع ولا يدين الشعراء، يتهم هذا الواقع بالتسبب في اتهام نجيب سرور بالجنون ثم موته وهو الهرم في عالم المسرح والشعر، وبأنه -أي الواقع- من جمع الحطب بيديه وحفر الحفرة في بيت أحمد عبيدة ونفض عنه الثوب وسكب عليه الجاز وجعل جسده يتساقط عنه مثلما تسقط القصائد وتحترق.
هذا الواقع، الوحش الهائل، هو السبب في كل هذا بل وأكثر، فلولاه ما غادر زكي بلده التي يهواها والتي أهدته أبياتًا من شعر ينسجها باخضرار الزرع ومحبة الأرض، ليستقر في اليمن حتى حلّت لحظة النهائية أثناء يوم عائلي عام 1987 على شاطئ البحر في عدن. ذلك البحر الذي كتب عنه الكثير وكان يعرفه جيدًا، أراد ابتلاع ابنته أمل. نجح الأب في إنقاذها ولكنه لم يستطع إنقاذ نفسه.
لكن الشعر يطفو ويبقى حتى وإن تجاهل الكثيرون وجود شعراء آخرين عدا الأسماء الكبيرة كمن يعبدون آلهة. بقي زكي عمر وغيره من المغمورين الصادقين الذين لم نرَ لهم أعمالًا كاملة أو مجلدات، ونحن نعلم قدر احتياجنا لهم وللمبدعين الذين لم نسمع عنهم قط، ولكن هكذا هي الحياة، في كل جيل هناك 50 شاعرًا يظهر اثنان منهم على الشاشة.
لماذا لم نجد مجلدًا يحمل أعمال زكي عمر إلى الآن؟ تساؤل حزين يجيب عنه الشاعر زين العابدين فؤاد "موقف الشاعر ومنهجه يحددان، أنا مثلًا الهيئة طلبت مني أعمالي بعد سن السبعين"، وأكمل بصوت الشاعر المؤمن بما يكتب "على العموم دي سياسات نشر".
لكن كما ذكرنا ، الشعر يبقى ويفتش عنه من يهواه كالحبيب الذي يتبع أثر محبوبته، يشتم رائحتها في كل مكان وينظر في الوجوه آملًا أن يراها، أو كما قال زكي عمر نفسه "بعد أن اكتشفنا –بالصدفة- اننا نكتب الشعر، لم نعد نخشى شيئًا".