كان شريط الكاسيت هو أحد اللاعبين الرئيسيين في صناعة اﻷغنية في مصر في الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن يخبو نجمه مع بداية اﻷلفية الثالثة، وظهور وسائط جديدة للأغاني أغلبها إلكتروني. ولم يكن شريط الكاسيت هو الوحيد الذي خسر في السنوات العشرين اﻷخيرة، ولكن اﻷغاني الشعبية خسرت الكثير وصار يحكمها الفوضوية والعشوائية، بعد أن كانت لسان حال الناس في مشكلاتهم واهتماماتهم الاجتماعية، وذلك بحسب رأي أحد صناع اﻷغاني، وهو الملحن حسن إش إش، في حواره للمنصّة.
الكلمات الشيك
يرى إش إش، أن الملحن لا ينبغي أن يعمل منفردًا، لا يغرد لوحده ولمزاجه الخاص، فلابد أن تُشكل ورشة عمل من الملحن والمُنتِج والمؤلف، ويظل المطرب منتظرًا لحين الإنتهاء من عمل لجنة هذه الورشة، المطرب يغني فقط، فورشة العمل دورها دراسة الذوق العام لسوق الأغنية الشعبية، مايحتاجه الجمهور، ما تفتقده أذنه، فيكتب المؤلف الكلمات التي تلائم وجه المطرب وشخصيته، فتُكتب الكلمة"الشيك" للمطرب الوسيم، وتُكتب أغاني الحارات والمناطق الشعبية للمطرب الأقل وسامة، أو الذي يشبه أهل الحارة، مع الوضع في الحسبان أن تكون هذه الكلمات متسقة مع صوت المطرب، يجيد غناءها، تنضبط مع أحباله الصوتية، فتُكتب له مثلا كلمات راقصة، أو عاطفية أو درامية، فيغني من المنطقة التي يجيد الأداء منها بقوة.
ويعتقد إش إش أن مصير المطرب الذي يختار الخروج عن هذا السياق، ويعمل بذكاءه الفني بشكل فردي، يكون مصيره الفشل المحقق، لأنه يعمل خارج إطار ورشة العمل الفني، التي تراعي الآليات التي وضحها.
ويقول إش إش إنه عندما بدأ العمل رفقة المؤلف أمل الطائر كوّنا ورشة فنية سويًا ليصنعا أغنيات تليق بشخصية حكيم وصوته وملامحه ووسامته، التي كانت نادرة بالنسبة لمطربي الأغنية الشعبية.
صياغة حكيم
طلب حكيم من حسن إش إش العمل معه برفقة الشاعر الغنائي أمل الطائر، تحت مظلة شركة الإنتاج الفني"سونار" بالتعاون مع الفنان حميد الشاعري، الذي جدد وقتها في طريقة تلحين الأغنية، عن طريق الآلات الوترية الحديثة، وبهذا يؤكد إش إش، أنه من المشاركين في صياغة الشكل الفني للمطرب الشعبي حكيم، فعندما بدأ العمل مع أمل الطائر كوّنا ورشة فنية سويًا، ليشكّلا أغنيات تليق بشخصية حكيم وصوته وملامحه ووسامته التي كانت نادرة بالنسبة لمطربي الأغنية الشعبية.
عقد إش إش والطائر جلسة عمل في مكتب الأول بشارع محمد علي بوسط القاهرة، واتفقا على تقديم لحن كانا قد جهزاه من قبل ولم يتفقا على مطرب يغنيه، فكتب الشاعر أمل الطائر الكلمات على هذا اللحن، وكانت أغنية "نظرة" عام 1992، ومن كلماتها "هلّ القمر زغلل عيوني وتاه، سهم القدر خدني وشبكني معاه، شَغَل العيون بحلاوته. شبك القلوب بشقاوته، كلمة، كلمة مني كلمة منه، نظرة، نظرة مني نظره منه، قلبي قالي إنه قالي إنه، هو ده اللي بحس بيه".
يتابع، الملحن حسن إش إش؛ "كان غرض شركة "سونار" جذب نجاح الأغنية الشعبية، بعدما حقق حميد الشاعري نجاحًا كبيرًا في الأغنية الشبابية وقتها، لذا طمح هو إلى المشاركة في تلحين الأغنيات الشبابية فضلًا عن الأغنية الشعبية، لكن الشركة لم تتح له هذه الفرصة".
ولحن حسن إش إش العديد من الأغنيات لحكيم، في ثلاث شرائط كاسيت"اليومين دول"2004، "كله يرقص"2005، بالإضافة للشريط الأول"نظرة".
يرى إش إش، أن سوق الأغنية الشعبية في الوقت الحالي يحكمه الفوضى، فقد يشرع الملحن في تلحين أغنية لأحد المطربين دون أن يراعي الشكل الفني للمطرب، فيكون اللحن نشازًا، ويقع صداه غريبًا على مسامع الجمهور، وقد لا يُتقن المطرب التعامل معه، فتفشل الأغنية.
اكتشاف حمدي بتشان
اشتد عود الأخوين حسن وسيد إش إش، بعد رحلتهما الطويلة من الغناء في الأفراح والموالد، حيث أجادا الموسيقى والغناء من خلال الاحتكاك بالفنانين، وتعلما العزف على الآلات الموسيقية من خلال الممارسة الحرة للفن.ثم نشأت علاقة صداقة بين عائلة إش إش، وعائلة الطائر الفنية، المكوَّنة من الشقيقين إنسان وأمل الطائر، التقيا من خلال الغناء في أفراح شارع محمد علي.
فكّر الأخوان الطائر في صناعة مطرب شعبي جديد، ليخلقا شكلًا ولونًا جديدين، بعيدًا عن حسن الأسمر والمطربين المقلدين لأحمد عدوية. وحسب الدارج وقتها كان يُسمى"نمرة"، فاقترح عليهم حسن إش إش، مطرب شعبي شاهده في حفل زفاف صديق لهم في محافظة الإسكندرية.
يحكي إش إش " كان غالبية المطربين في فترة الثمانينيات يقلدون الفنان أحمد عدوية، حتى بعضهم لقَّب نفسه باسمه، أمثال فوزي عدوية، وحمدي عدوية، وعندما فكّر الأخوان أمل وإنسان الطائر، في صناعة مطرب شعبي يخالف السائد، اقترحت عليهما حمدي بتشان، وكان وقتها يغني باسم حمدي عدوية، واقترحت عليهما فكرة أغنية كنت قد سمعتها كلماتها أثناء وجودي في محافظة أسيوط، فالأطفال كانوا يلعبون ويرددون "إيه الأساتوك ده اللي ماشي يتوك ده إيه ورد الجناين ده". لكن إنسان الطائر أجَّل الفكرة، فتشائمت. وبعدها بفترة ذكرني بها أمل الطائر، وأكملنا كلماتها على المقهى، وأثناء تسجيلها أدى الملحن محمد إسماعيل سيكا صوت الرجل العجوز، فكنت قد أديت له في أغنية صوت رجل أخنف".
يكمل إش إش؛ "أضفنا للشريط أغنية "زعلانة" أخرى تواكب شهرة الأفلام الهندي، تشبه سنجام، وكتب كلماتها أمل الطائر "شاهنجي هنجي هانجا، أوتاشا تاشا إيه"، لكنها لم تنجح، وكنت قد أطلقت اسم حمدي بتشان، ليكون اسمه بدلًا من حمدي عدوية، نسبة إلى الممثل الهندي الشهير أميتاب باتشان، وحقَّق نجاحًا كبيرًا بعدما استقبل الجمهور أغنية"الأساتوك" بحفاوة كبيرة.
ما بعد الأساتوك
ويشير إلى أنه نجاح الأغنية، فتح له طريقًا واسعًا لتلحين العديد من العروض المسرحية، بداية من مسرحية "العسكري الأخضر"1993 إخراج حسن عبد السلام، تأليف أحمد الابياري، كما أضافت ملمحًا جديدًا للشاعر الغنائي أمل الطائر حيث بدأ في كتابة أغنية "الإفيه"، بعدما كانت الأغنية التقليدية المعنية بالهجر والفراق والحب والمشاكل الإجتماعية هي السائدة، كما لحن أغنيات بعض الأفلام السينمائية، فلحَّن استعراضات فيلم الجاسوسة حكمت فهمي بطولة الفنانة نادية الجندي، و فيلم أبو الدهب، بطولة الفنان الراحل أحمد زكي، لكن الشاعر أمل الطائر توقف عن الكتابة للمسرح وعاد للأغنية الشعبية مرة أخرى.
ويضيف؛ "صنعت بعد هذه الفترة العديد من ألحان المسرحيات للعديد من الفنانين، أمثال الفنان سمير غانم، وأحمد آدم، ومحمد سعد، وسيد زيان، ومحمد هنيدي. كما طلب مني المخرج المسرحي حسن عبد السلام أن يكون الفصل الثاني من مسرحية العسكري الأخضر على غرار شريط الكاسيت الذي أنتجته لي أنا وشقيقي سيد، باسم "فرح عزيزة" وحقق نجاحًا وشهرة واسعة وقتها".
عائلة إش إش
يتذكر الملحن حسن إش إش بداية حياتة الفنية؛ "بدأت مطربًا وليس ملحنًا، ففي سن الرابعة عشر، كوّنت برفقة شقيقي الأكبر سيد فرقة فنية تحت اسم أولاد إش إش، وتم تغييره ليصبح "ثنائي إش إش"، ثم "عائلة إش إش أفندي"، كنا نجيد فن المونولج ونقدمه في الأفراح الشعبية، والموالد الشعبية، وزاد من موهبتنا الفنان حامد الشريف صاحب الفضل في المونولوجات الشعبية والأغاني التي تُغنى في الموالد، وتوفى في فترة السبعينيات، فاشتهرنا في الأفراح وكان أصحابها يأجلونها لأننا محجوزين في حفل زفاف آخر، ففي فترة الستينيات، غنيت أنا وشقيقي سيد إش إش في أغلب الأفراح التي كانت تُنصب على أسطح المنازل في الإسكندرية، ثم أفراح الأقاليم في أغلب محافظات مصر".
ويعترف أنه تأثر بالمغنين الذين كان لهم باع في الموالد الشعبية، مثل محمد رشدي، وسركي عاكف، وحورية حسن، الذين كانوا يغنون في محافظة طنطا، مسقط رأس حسن إش إش، في ليالي مولد أبو الريش، وسيدي إبراهيم الدسوقي، وغيرها من الليالي.
يقول المُلحن؛ "لقبإش إش لازمني بسبب عمي"إش إش"، فأطلق علينا المبدع حامد الشريف لقب "إش إش"، وقلت أعمالي الفنية هذه الفترة بسبب الفوضى التي تحكم السوق الفني، و تدهور حال الأغنية الشعبية من ناحية الإنتاج وكفاءة المطربين، وسيطرة المهرجانات".
شريط الكاسيت وأحكامه
يقول ملحن الأغنية الشعبية إنه بعد رواج إنتاج شرائط الكاسيت للمطربين من خلال شركات فنية عديدة، مثل صوت الحب لصاحبها عاطف منتصر، وشركة صوت الفن لمالكها محسن جابر، وشركة هاي كواليتي لملاكها طارق عبد الله، سعيد عبد الله، وشركة صلاح الدين بالجيزة، وفلفل فون، وغيرها من الشركات الصغيرة الأخرى التي دخلت في خط سوق إنتاج الأغنية الشعبية.
https://www.dailymotion.com/embed/video/x6i9mfuبعد رواج عملية الإنتاج للمطربين، دخل بعض الأفراد أصحاب المشاريع الصغيرة، كأصحاب المحلات، وتجّار الأدوات الكهربائية، للاستثمار في الكاسيت، إما أن يطرح المُنتج اسم مطرب صاحب صوت قوي، أو يترك هذه العملية للملحن والمؤلف، ويكتفي بدفع التكاليف وجمع المكسب فقط، فظلت هذه العملية رائحة، والجميع يجني ثمارها، بحسب ما يتذكر إش إش.
لكن جني اﻷرباح من سوق الكاسيت لم يستمر طويلًا، وتحمل ذاكرة إش إش سبب ذلك، وهو ظهور بعض الأشخاص والمحلات أصحاب شرائط الكاسيت "المضروبة"، التي أثّرت بكل تأكيد على أرباح الشركات الكبرى السابق ذكرها، فقلَّ إنتاجها، ومن هنا، لم يجد أصحاب "الكاسيت المضروب" الشرائط التي ينسخونها بأسعار رخيصة، وفسدت عملية الإنتاج منذ فترة بداية اﻷلفية الثالثة، خاصة بعد ظهور طرق تسجيل أخرى في الاستوديوهات، وحل التراك ساوند محل شريط الكاسيت، وارتفعت تكاليف الإنتاج وظهرت وسائل جديدة لسماع اﻷغاني مثل موقع اليوتيوب.
لشرائط الكاسيت، قبل انقراضها، فضل كبير على عدد من المطربين، حسبما يرى إش إش الذي يتذكر أنها أعادت المطرب محمد رشدي للحياة، بعدما تم طرح ألبوم بعنوان دامت لمين، إنتاج شركة فري ميوزك وحقق نجاحًا كبيرًا في السوق المصري، في حين أن بعض المطربين قد اتجهوا للغناء في الأفراح وملاهي شارع الهرم، وحققوا نجاحًا كبيرًا في ذلك، مثل حلمي عبد الباقي وغيره.
فوضوية الأغنية الشعبية
الفرق بين اﻷغنية الشعبية في التسعينيات ومثيلتها الحالية كبير، بحسب إش إش، الذي يرى أن اﻷغنية الشعبية في الثمنانينيات والتسعينيات، كانت أقرب للعاطفية والرومانسية والشبابية، وقت كان روادها من "أصحاب الحناجر" مثل محمد رشدي ومحمد العزبي ومحمد عبد المطلب، وكانت أغنياتهم راقية، وتلاهم أحمد عدوية وحسن الأسمر وكتكوت الأمير ومعوض العربي، الذين اهتموا باللون "الاجتماعي" في اﻷغاني، فغنوا عن مشكلات المجتمع والناس.
أما عن المرحلة الحالية فيقول إش إش؛ "الجميع يغني، وكل هم المطرب والمنتج هو طرح أكبر كم من الأغنيات في السوق، بغض النظر عن جودة الأغنية أو اللحن أو السياق الفني الذي ستطرح من خلاله الأغنية، فهناك فوضى في كل شىء، لذا لن تستطيع أن تعد على أصابع اليد الواحدة مطربين مميزين كمطربي الفترات السابقة".