في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، ذكر تقرير أصدره خبراء مستقلون في الأمم المتحدة أن الظروف في السجون المصرية "وحشية، وأدت بشكل مباشر إلى وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي"، محذرين من أن غيره من السجناء "سيلقون نفس المصير إذا لم تعالج مصر تردي أوضاع السجون".
عقب التقرير، وقبل يومين فقط من مشاركة مصر الاستعراض الدوري الشامل لملف مصر الحقوقي أمام الأمم المتحدة المقرر غدًا 13 نوفمبر، نظمت وزارة الداخلية فعالية بمنطقة سجون طرة، ومنها نقلت وسائل إعلام صورًا لوجبات لحوم وفاكهة تقدم لسجناء يمارسون أنشطة اقتصادية وترفيهية، ونقلت تصريحاتهم التي مدحت "المعاملة الكريمة"، وانتقدت ما تبثه "المنظمات المشبوهة"، وهو رآه حقوقيون يمثلّ ردًّا من مصر، ولو بصورة غير مباشرة، على الانتقاد الأممي، في تكرار لنمط صار متبعًا منذ أعوام.
استجابة للخارج فقط
التقرير الذي نشرته الأمم المتحدة، قوبل بانتقادات من الجانب المصري، في تكرار لما حدث وقت وفاة مرسي، حين طالبت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بـ"إجراء تحقيق مستقل بشأن ملابسات الوفاة، وكل جوانب معاملته أثناء احتجازه"، وهو ما اعتبرته الخارجية المصرية آنذاك "محاولة لتسييس حالة وفاة طبيعية".
سبق وأن واجهت مصر انتقادات، أغلبها يدور حول حقوق الإنسان والحريات، كان منها الصادر عن الأمم المتحدة كالذي استنكر "إساءة معاملة مدافعين عن حقوق الإنسان"، وآخر طالب بـ"إنهاء الحملة ضد المتظاهرين"، ومنها الصادر عن جهات غير أممية مثل منظمة العفو الدولية التي سبق وأن انتقدت "إقرار التعديلات الدستورية" و"مشروع قانون المنظمات غير الحكومية".
أمام هذه التقارير، لم تصمت السلطات المصرية، وكان لها ردود اختلفت بين الهجوم المضاد على المنظمات وبين استنكار فحوى تقاريرها، كما كان في رد من وزارة الخارجية والبرلمان في مارس/ أذار 2019 على التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية الذي انتقد حالة حقوق الإنسان في مصر، وكذلك ردّها في مايو/ أيار الماضي على تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش بشأن "انتهاكات في سيناء".
غالبًا ما يأتي الرد المصري، سواء الرسمي أو الإعلامي، بعبارات لا تخلو في مجملها من "تكذيب للانتقادات الدولية سواء حقوقية مستقلة أو حكومية"، واستنكار لـ"استنادها لمصادر غير موثوق فيها"، لكنه يعكس في الوقت نفسه اهتمامًا من النظام بما يراه الخارج في مصر، وفقًا لما ذكره حقوقيون للمنصّة.
يقول بهي الدين حسن، مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، تعليقًا على هذه الطريقة في التعامل "على عكس الخطاب المعلن من نظام السيسي أو من سبقه منذ 1952، وهو نظام واحد بعقلية عسكرية تتبنى خطابًا واحدًا يركز على تقديم الغرب كمتآمر على مصر، إلا أن ما يحدث فعليًا هو أنهم لا يستجيبون لمواطنيهم من الأفراد أو الجماعات الحقوقية أو السياسية، واستجابتهم تكون للانتقادات الخارجية فقط".
وضرب حسن مثالاً على ذلك بقوله للمنصّة "في عهد عبد الناصر تم الإفراج عن الشيوعيين بضغط من رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي آنذاك نيكيتا خروشوف الذي اشترط الإفراج عنهم حتى يزور مصر، وهو ما تكرر قبل أعوام بتفاصيل مختلفة في قضية آية حجازي، والآن نجد الصور التي رأينها من داخل السجون، قبل المراجعة الدورية الأممية لحقوق الإنسان".
بلا مصداقية
لكن "الرد المصري جاء بلا منطق" على حد وصف حسن، الذي يقول "ما تم تصديره عن السجون من مستوى الرفاهة مسنحيل أن يجد مصداقية لدى الغرب أو محليًا، إلاّ مع مَن لديهم تأييد مسبق للنظام واستعداد لتصديقه، فهذا مشهد مبالغ في ابتذاله، ولا يقنع حتى القائمين على ترتيبه".
عن مشهد حفلة شواء الكباب والكفتة التي ظهرت في تقرير لصحيفة الأخبار الحكومية، يقول بهيّ "حتى في الدول المتقدمة لا توجد رفاهة في السجون لهذه الدرجة، فهذا استخفاف بعقلية المواطن والمراقب الخارجي وينم عن خفّة عقل الحكومة".
وعقب الحقوقي قائلًا "جلد الأنظمة سميك فيما يتعلق بالانتقادات الداخلية، أما خارجيًا فنجد مقالًا في واشنطن بوست أو نيويورك تايمز يوقّف المسؤولين على أطراف أصابعهم، ونجد ردودًا من كبار المسؤولين عليها، في محاولة لتبرئة النظام".
ويرى حسن أن هذه الزيارة ليست ردًا على التقرير الأممي فقط "العمل المتعلق بحقوق الإنسان تراكمي بطبعه ولا يحقق إنجازًا بضربة واحدة أو لحظية، فقبل هذا البيان كانت هناك مواقف متوالية من أطراف مختلفة ومناسبات مختلفة من بينها ما كان قبل أسبوعين من مطالبة وزير الخارجية الألماني مصر مراعاة حقوق الإنسان، وكذلك المراجعة الدورية لحقوق الإنسان التي ستجري غدًا، ومن محصلة كل هذه المجهودات تقدم الحكومة المعنية في نهاية اﻷمر بعض التنازلات".
كيف تؤثر الانتقادات الدولية على الأنظمة؟
يتفق مع حسن، مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان المحامي جمال عيد، بقوله إن التقارير الحقوقية لها جدوى تراكمية "فهي توثّق الوقائع ﻷي شخص في السلطة لديه رغبة في الإصلاح الحقيقي، وستبقى محفوظة لأي سلطة مقبلة قد ترغب في التعامل بصورة أكثر احترامًا مع الشعب، كما تفوّت على السلطة محاولات تضليل مواطنيها بطلب دعمهم تحت دعاوى الوطنية الزائفة، وحدث وأن ساهم توثّيق الانتهاكات في تراجع شعبية النظام مقارنة بـ2013".
وأكد عيد، للمنصّة، أن التحركات الحقوقية، لاسيما الدولية "ليست مجرد بيانات بكلام في الهواء كما يتصور البعض، ﻷن أغلب ما تحصل عليه مصر من مساعدات وحتى صفقات من الغرب مرتبط بصورة أو بأخرى بحالة حقوق الإنسان، فالحكومات الغربية تطالع التقارير الحقوقية، وقد تعيد تشكيل علاقاتها بناءً عليها، فعلى سبيل المثال كان صدور قرار وقف تصدير أسلحة أوروبية لمصر عام 2013 ولمدة عامين بسبب 30 يونيو".
لتفسير اهتمام الدولة بمثل هذه التقارير يقول محمد زارع، مدير برنامج مصر في مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، بقوله "النظام يهتم بالتقارير الدولية، كما أنه يستجيب لها أحيانًا ﻷنه يهتم بسمعته أمام الغرب الذي يشكل فيه الرأي العام مصدر ضغط على السلطات، بصورة قد يترتب عليها أحيانًا خسائر مادية، مثلما حدث في قرار الكونجرس الأمريكي عام 2017 تجميد جزء من المعونة لمصر بسبب ملف حقوق الإنسان".
حرج دولي
الخسائر أيضًا تظهر في المساجلات الكلامية في المحافل الدولية وفقًا لبهي الدين حسن، الذي يقول "الحكومة المصرية تتعرض لحرج شديد في كل مرة تمثل للمراجعة الدورية الأممية لا لسبب إلاّ ما تفعله، ﻷن الوضع تدهور عشرة أضعاف ما كان عليه في 2014، وفي هذه المرّة سيكون الحرج أكبر، وهو ما يفسر منع السلطات لحقوقيين مستقلين من السفر إلى سويسرا، وبينهم شخصيات شاركت في إعداد تقارير ستعرض خلال المراجعة".
كشف مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، في بيان صدر عنه أمس، أن أحد أعضائه، محمد زارع، والمنضم لقائمة الممنوعين من السفر بسبب القضية 173 لسنة 2011، تقدم بطلب للنائب العام للسماح له بالسفر لحضور الفعالية الأممية في جينيف، لكنه لم يتلق ردًا حتى الآن.
علّق حسن على هذه الإجراءات بقوله "النظام لم يستطع تقديم ردّ علمي ومنطقي أمام ما توثقه المنظمات من انتهاكات، لهذا استبقوا الاجتماع الأممي وفقًا لمشاهدات زملائنا في جنيف بإيفاد 100 شخص تقريبًا لهناك، وهذا يدلل على أن سذاجة الحكومة في التعامل مع ملفات الحقوق والحريات تتجلى في المحافل الدولية، ﻷنهم يعتقدون أنه بالكثرة العددية أو بمجاملة بعض الأنظمة الصديقة لهم سيتخطوا أي حرج في المراجعات".
.. وخسائر رمزية
تهتم السلطات المصرية بصورتها دوليًا، وفقًا لحسن وكذلك زارع الذي يقول للمنصّة "مصر جزء من العالم وليست جزيرة منعزلة، وسلطاتها تدرك هذا الأمر؛ وبالتالي تهتم جدًا بصورتها دوليًا، بدليل ردود وزارة الخارجية على جهات إعلامية أو حقوقية دولية؛ ما يعكس اهتمامًا بسمعتها وصورتها أمام الصوت الدولي، ولو أبدت في ردودها هجومًا أو عدم اكتراث".
بالمثل يقول جمال عيد "بالطبع، هناك جانب رمزي بعيدًا عن خسائر المعونات المادية، فهذا النظام امتداد لنظام مبارك، ليس فقط في عدائه للثورة بل وفي حرصه على صورته دوليًا، وهو ما يدفعه لتجميلها خارجيًا بحملات تزييف وكذلك إسكات كل من يتكلم عن الانتهاكات".
طريقان للرد المصري على الانتقادات
بالحديث عن هذه الحملات؛ قسّم محمد زارع التعامل المصري مع الانتقادات الدولية إلى جزئين، الأول هو "المعلن، ويتمثل في الرد ببيانات وتصريحات تهاجم هذه التقارير، مع التأكيد على أنها لا تهتم بها، وذلك كنوع من تسجيل الموقف داخليًا، أما الثاني فهو غير المعلن رسميًا ومن خلاله تستجيب للانتقادات".
وضرب الحقوقي مثالًا على هذه الطريقة بملف أحكام الإعدام، قائلًا "بعد انتقادات البرلمان الأوروبي لتنفيذ مصر 26 حكم إعدام في الفترة من ديسمبر 2017 إلى مارس 2018، وعلى الرغم من رفض مصر للانتقادات، إلاّ أن تنفيذ الإعدام، خاصة في القضايا المبنية على خلفية سياسية، توقفّ بالفعل، وذلك مع العلم بأن مواقف البرلمان الأوروبي أدبية وليست ذات قوة إلزامية لدول الاتحاد".
وأضاف زارع "وحين عاد تنفيذ أحكام الإعدام من جديد في فبراير 2019، بتنفيذ هذا الحكم بحق 15 متهمًا على الأقل، كان آخرهم المتهمين الـ9 في قضية اغتيال النائب العام، واجهت مصر انتقادات من جهات كان من بينها الأمم المتحدة، وفي ذلك الوقت، علّق رئيس الجمهورية على الانتقادات الدولية بالدفاع عن عقوبة الإعدام؛ ما أعطى انطباعًا آنذاك بأن تنفيذ أحكام الإعدام سيستمر، لكن في الحقيقة لم تنفذ أية أحكام منذ ذلك الوقت وحتى الآن ونحن نقترب من نهاية العام".
وقف تنفيذ أحكام الإعدام تحقق، وهو واحد من أهداف حقوقية عديدة بالنسبة لزارع وحقوقيين آخرين، بينهم جمال عيد الذي يختتم بقوله "لا نطلب وقف علاقات مع مصر أو حرمانها من مساعدات، ونؤمن بأن الديمقراطية في مصر يصنعها المواطن ﻷنه دفع تمنها، لكننا بعملنا نلفت أيضًا إلى أن الانتهاكات مثل أكوام القمامة مهما أخفيتها بأسوار ستفوح رائحتها".