لم تتسم النظرة العامة تجاه الجنيه المصري بالتفاؤل قبل بداية العام الجاري، دارت توقعات بإقبال الجنيه على تخفيض جديد لقيمته بعد صدمة التعويم العنيفة التي تلقاها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، لكن عام 2019 خيب تلك التوقعات، وسار سوق الصرف في اتجاه معاكس.
لم يكتف الجنيه بالحفاظ على مستوياته ولكن استمر في الصعود، محققًا انتصارًا نادرًا للمصريين أشبه بهدف مجدي عبد الغني خلال التسعينات، وسط إحباطات اقتصادية ومعيشية متعددة، ساهم ذلك في تمكين الحكومة من خفض أسعار المحروقات شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
ولكن هل يستمر الجنيه في تحقيق الانتصارات؟
لكي نصل لإجابة على هذا السؤال سنحتاج بداية لأن نستعيد ذاكرة الأشهر الماضية، وكيف تغيرت التوقعات بشأن الجنيه في تلك الفترة.
جاء شتاء 2018 محملًا بأجواء كئيبة على الأسواق الناشئة أو الدول التي لديها فرص جيدة للنمو، فقد استفادت هذه الأسواق لسنوات عدة من انخفاض الفائدة على العملة في أمريكا، ولكن مع اتجاه الولايات المتحدة لرفع الفائدة مجددًا أصبحت السندات الأمريكية جاذبة للمستثمرين، فقام العديد منهم ببيع استثماراته في الأسواق الناشئة والاتجاه للاستثمار مجددًا في أدوات الدين الأمريكية.
سوق أدوات الدين الذي نتحدث عنه هو سوق استثمارات العائد الثابت، أي الاستثمارات التي تحقق عائدًا مستقرًا عادة ما يرتبط بأسعار الفائدة التي يحددها البنك المركزي في كل بلد، وهي استثمارات مالية بالأساس، قد تكون من خلال شراء المستثمر أذون خزانة (وهي ديون قصيرة الأجل يمنحها المستثمر للجهة المُصدرة للأذن مقابل فائدة معينة)، أو من خلال شراء سندات (وهي ديون طويلة الأجل).
خروج أمريكا من الأزمة العالمية
أبقت الولايات المتحدة أسعار الفائدة عند مستوى صفر بين عامي 2008 وحتى 2015، واستفادت الأسواق الناشئة من ذلك نظرًا لارتفاع مستوى الفائدة على (أدوات الدين المصدرة) بعملتها المحلية مقارنة بأمريكا، مما شجع المستثمرين على ممارسات تعرف بـ carry trade أي الاقتراض في الدول التي تقدم فائدة منخفضة مثل أمريكا لشراء سندات وأذون في الأسواق الناشئة التي تمنح عائدًا مرتفعًا على ديونها.
السبب وراء إبقاء الولايات المتحدة على فائدة صفرية طيلة هذه السنوات هي رغبتها في الخروج من الركود الاقتصادي الذي تسببت فيه الأزمة المالية العالمية في 2008، وذلك من خلال إتاحة الأموال بعائد صفري مما يشجع البنوك على الإقراض، لخلق المشروعات وفرص العمل.
لكن في نهاية 2015 استشعرت أمريكا أن أسباب الركود قد تراجعت، لذا بدأت عملية تدريجية في رفع الفائدة لتصل في نهاية 2018 إلى 2.5%، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على توجهات المستثمرين تجاه الأسواق الناشئة، حيث أصبحو أكثر إقبالا على استثمار أموالهم في الولايات المتحدة.
وما دخل مصر؟
لم تكن مصر بعيدة عن هذه المعمعة، فهي من ضمن الأسواق الناشئة التي استفادت من الـ carry trade ، وكان وجود هذه الاستثمارات يدعم من الجنيه، لذا كان تأثرها بتلك الاستثمارات يبعث القلق بشأن مستقبل سعر العملة المحلية.
في مصر، خفف الأجانب، خلال 2018، من استثماراتهم في أذون الخزانة التي تصدرها السلطات، وتراجعت حصتهم من الأذون من 32% في فبراير إلى 18% في سبتمبر.
وبحسب البيانات الصادرة حديثًا عن البنك المركزي، فقد سجلت استثمارات محفظة الأوراق المالية المصرية (والتي تعد استثمارات أدوات الدين الحكومية عنصرًا أساسيًا فيها) صافي مبيعات خلال النصف الثاني من 2018 بـ 5.9 مليار دولار، مقارنة بصافي شراء 8 مليار دولار خلال النصف الثاني من 2017.
لكي يتضح لنا أهمية هذا التراجع في استثمارات الأجانب بمصر، نحتاج لأن نسترجع أيضًا ما جرى في سوق أذون الخزانة في البلاد قبل وبعد التعويم.
تعتبر استثمارات أذون الخزانة من الاستثمارات الساخنة، والمقصود بهذا الاصطلاح الاستثمارات قصيرة الأجل التي يمكن أن تخرج من السوق بسرعة في حالة استشعار أي مخاطر، فهي ليست مزرعة يتطلب تحضيرها سنوات طويلة، ولا مصنعًا سيعمل صاحبه على تسويق اسمه في السوق لعدة سنوات ولن يفرط فيه بسهولة، ولكنها عمليات شراء وبيع لأوراق مالية، مثلما تتدفق بقوة في بعض الأوقات تنسحب بقوة في أوقات أخرى.
شبح التعويم
ومع ظهور مخاطر الثورة المصرية في 2011 انسحب الأجانب بقوة من سوق أذون الخزانة في مصر، وظل حضورهم شاحبًا بعد ذلك، لم تكن السياسة وحدها هي المسؤولة عن ذلك، ولكن مخاطر هبوط قيمة الجنيه أيضًا.
رأى الأجانب أن العملة المحلية مقدّرة بقيمة أعلى من قيمتها، وأنها من المفترض أن تنخفض ولكن السلطات المصرية تحاول الإبقاء عليها متماسكة بقدر الإمكان، لكنهم كانوا متيقنين من أنها ستنخفض آجلًا أم عاجلًا، لذا كان من غير المنطقي شراء الأجانب أذونًا مقومة بالعملة المحلية ثم تهوى قيمة الجنيه خلال فترة احتفاظه بالإذن.
وكانت هناك أيضًا مخاطر نقص العملة الصعبة من السوق، فقد كان الأجانب يخشون شراء أوراق دين مصرية بالجنيه، وعندما يحل أجلها ويستلمون مستحقاتهم لا يستطيعون الخروج بها من مصر لأنه لا يتوافر في القطاع المصرفي المصري عملة صعبة كافية لتحويل هذه المستحقات من الجنيه للدولار.
هذه المخاطر كلها تراجعت بقوة مع تعويم الجنيه في نوفمبر 2016، وقد تزامن التعويم أيضًا مع ارتفاع قوي للغاية في أسعار الفائدة المصرية بـ 7%، كل هذه العوامل أدت للطفرة في استثمارات الأجانب في الأذون المصرية، وساهم ذلك بطبيعة الحال في خلق تدفقات دولارية لمصر ساهمت في دعم الجنيه بقوة.
عكس التوقعات دائمًا
لكن مع صدمة مثل صدمة شتاء 2018 يصبح الأمر مقلقًا، وبالرغم من أن العملة المصرية بدت أكثر صمودًا أمام عواصف خروج المستثمرين في هذا الشتاء مقارنة ببلدان أخرى، لكن بعض الجهات البحثية من كابيتال ايكونومكس كانت تتوقع انخفاض الجنيه خلال العام الجاري ليصل الدولار إلى 19 جنيه بنهاية هذه السنة ولـ 20 جنيه في 2020.
القلق من تأثير خروج الاستثمارات الساخنة في مصر ينبع من الحضور غير القوي للاستثمارات الأكثر رسوخًا، والتي يطلق عليها "الاستثمار الأجنبي المباشر"، وكما يظهر من الشكل التالي لا تزال الدولة عاجزة عن رفع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر سنويًا عن مستوى 10 مليار دولار، كما تبدو قيمته في تراجع مستمر.
لكن عام 2019 جاء بصورة مخالفة لرؤية الكثير من المحللين، فقد بدأ الجنيه في التعافي بقوة أمام الدولار منذ الثلث الأخير من يناير/ كانون الثاني الماضي، لتهوي العملة الخضراء من 17.86 جنيه إلى 17.59 جنيه قبل أن ينتهي الشهر.
وأكمل الجنيه مشواره في الصعود حتى وصل الدولار في نهاية مايو إلى 16.82 جنيه، إلا أن العديد من المحللين رأو أن هذا التعافي لا يقوم على أسس قوية تجعله مستدامًا، صحيح أن بعضًا من هذا التعافي يعزى لعوامل إيجابية في الاقتصاد، مثل ارتفاع إيرادات السياحة واستقرار إيرادات قناة السويس عند مستويات مرتفعة نسبيا، لكن الأموال الساخنة لعبت أيضًا دورًا جوهريًا في صعود الجنيه.
وكما يظهر من الشكل السابق كانت الأرصدة القائمة من أذون الخزانة ترتفع بشكل ملفت للنظر خلال 2019، وهي الأرصدة التي يساهم فيها المستثمرون الأجانب ما يعني المزيد من تدفقات الدولار الداعمة للجنيه.
لما تتدفق الدولارات؟
تفسير هذه الظاهرة يعزى إلى ارتفاع مستويات الفائدة في مصر مقارنة بالأسواق الناشئة المنافسة، حيث قالت وكالة بلومبرج في مايو الماضي إن العائد على أذون الخزانة بأجل عام يفوق ثلاثة أضعاف متوسط ديون الأسواق الناشئة بالعملة المحلية.
لذا رجح محللين الصيف الماضي أن استثمارات الديون الساخنة ستتراجع مع اتجاه البنك المركزي لخفض الفائدة، لأن ذلك سيقلل من عائد استثماراتهم في الديون.
كما رأى البعض أن قوة الجنيه نابعة من ضعف الطلب على العملة خلال الصيف وليس من تدفقات دولارية قوية من الخارج.
في هذا السياق كان العديد من الخبراء يرددون مقولات مثل تعليق أحد الاقتصاديين للأهرام ويكلي في مايو الماضي بأن "انخفاض الدولار أمام الجنيه قد لا يستمر بنفس الوتيرة مثلما جرى الأسابيع الماضية".
لكن الجنيه استمر في الارتفاع بعد مايو، واعتبر البعض أنه لا يوجد تفسير عقلاني لما يجري في سوق الصرف، مثال على ذلك هذا التعليق لخبير استثماري متحدثا لـ أراب ويكلي في يونيو الماضي أن "انخفاض سعر الدولار ليس منطقيًا. فمعدل الصادرات والاستثمارات الأجنبية، والتي عادة ما تنتج تدفقات العملة الأجنبية، لم تنمو بشكل ملحوظ. وأسعار السلع والخدمات في الأسواق المحلية مستمرة في الصعود".
ربما عزز من موقف الجنيه عدة عوامل تجعل من صعوده شيئًا منطقيًا، منها هدوء وتيرة التضخم، وهو ما يحافظ على القيمة الحقيقية للعوائد التي يحققها الأجانب في مصر بدرجة كبيرة.
كما أن المركزي لم يخفض بعد أسعار الفائدة إلى مستويات ما قبل التعويم، فقد زادت 7% وانخفضت إلى الآن 5.5% فقط.
هذا علاوة على أن المركزي الأمريكي هدأ من وتيرة زيادة الفائدة في 2019، بل وقام بخفضها في يوليو الماضي بعد أن تعرض لانتقادات خاصة من الرئيس الأمريكي لاستعجاله في زيادة العائد بشكل رأى البعض أنه يقلل من فرص الاقتصاد الأمريكي في النمو اقتصاديًا.
فكلما زادت الفائدة زادت تكلفة القروض، ولا يزال اقتصاد أمريكا في مرحلة التعافي ويحتاج للنمو خاصة وأن رئيس البلاد يخوض حربًا تجارية شرسة مع الصين لها تأثير سلبي على قدرة الولايات المتحدة على التوسع في الإنتاج.
مضى الجنيه في طريقه إذن، واستمر في فرد عضلاته حتى أصبح يتداول خلال سبتمبر حول مستوى 16.30، وتصاعدت الآمال لدرجة توقع البعض أن ينخفض الدولار بنهاية العام عن مستوى 16 جنيه، لكن مسألة ضمان استمرار قوته لاتزال غير مضمونة.
لازال الكثير من الخبراء يحذرون من أن الجنيه مدعومًا بالأساس باستثمارات الديون الساخنة، مثل تعليق الخبير الاقتصادي، هاني توفيق، في الصورة التالية على ارتفاع عملتنا المحلية خلال سبتمبر.
وكما يظهر من التعليق فإن العديد من مؤشرات الاقتصاد الحقيقية لا تظهر تعافيًا كافيًا لتبرير قوة الجنيه الحالية (باستثناء السياحة التي حققت طفرة ملحوظة).
وقد صدر تقريرًا صادمًا للبنك الدولي هذا العام جاء فيه أن قطاع الصادرات البترولية لم ينمو بالشكل الكافي في الفترة الأخيرة، قياسا للفرصة التي أتاحتها له عملية تعويم الجنيه.
ويعكس تعليق البنك الدولي كيف كان الاقتصاد عاجزًا لحد كبير عن الاستفادة من انخفاض العملة المحلية، الأمر الذي يُصعب قبول فكرة أن صعود الجنيه الحالي يأتي انعكاسًا لنجاح محقق في الاقتصاد الحقيقي.
هناك فكرة كلاسيكية عن أن صادرات أي بلد تزيد عندما تنخفض العملة المحلية لهذا البلد، لأن الصادرات يتم انتاجها بتكاليف مقومة بالعملة المحلية، ويتم بيعها في الخارج بهذه التكلفة، لذا عندما تنخفض العملة المحلية أمام العملات الأجنبية يتراجع السعر النهائي للمنتج المصدر في الأسواق الخارجية، فتزيد تنافسيته وترتفع مبيعاته وبالتالي تزيد قيمة الصادرات.
لكن مصر لا تقدر بالضرورة على تحقيق هذه المعادلة الكلاسيكية، لسبب بسيط وهو أننا نعتمد بكثافة على استيراد مدخلات ومكونات الإنتاج من الخارج، وبالتالي ما نحققه من خفض في بعض تكاليف الإنتاج نهدره في تكاليف أخرى للمدخلات المستوردة.
يظل إذن هاجس عودة الجنيه للضعف من جديد حاضر في خلفية مشهد صعوده المبهر أمام الدولار، خاصة وأن المركزي المصري ماض في مخططاته لخفض أسعار الفائدة.
وهناك من يرى أن صعود الجنيه وصل لذروته وأن سيتجه مجددًا للهبوط ولكن ليس بمعدلات قوية حيث تذهب الترجيحات إلى أن يصل سعر الدولار لـ 16.70 بنهاية العام.
لا شك أن الحكومة تحاول تقليل مخاطر تأثر العملة بالاستثمارات الساخنة في الديون قصيرة الأجل، وذلك من خلال التحول للاعتماد بشكل أكبر على الديون طويلة الأجل.
لكن ارتباط سعر الصرف بالتدفقات الساخنة يجعل من مستقبله أمرًا غامضًا في أنظار المحللين، فهناك العديد من العوامل الدولية التي قد تساهم في أي وقت في تحول اتجاهات المستثمرين عن سوق الديون المصري، وتغير معها من مسار الجنيه.