رسم كاريكاتيري بخطوط بسيطة وشبه بدائية في واحدة من الصحف الإسبانية الكبري: القارة الأوروبية والبحر المتوسط، في البحر قارب خشبي صغير وفقط، وفوق القارة الأوروبية يرفرف علم واحد، علم مطاعم ماكدونالدز.
لا أتذكر اسم الصحيفة، لكنني أذكر أنني شاهدت هذا الرسم منذ عشرين عامًا، في أواخر التسعينات عقب وصولي لإسبانيا.
بدأت أيامها وسائل الإعلام الأوروبية في تحذير المواطنين من أزمة هجرة، ومن إكتظاظ أوروبا المحتمل بمهاجرين فوق طاقتها. لكن المواطن الأوروبي لم يكن يلمس مباشرة هذه الأزمة. والخطابات العنصرية كانت محدودة الانتشار والتأثير، والمواجهات أو عمليات الاعتداء علي المهاجرين كانت تتم في إطار ضيق، كان من الممكن اعتبارها صدامات ثقافية أو دينية، أكثر من كونها تعبيرًا عن أزمة اجتماعية، أو رفض مجتمعي للمهاجرين.
ورغم ذلك كانت أبواب القارة ما تزال مفتوحة نسبيًا. فقطاعات اقتصادية عديدة كانت بحاجة للأيدي العاملة، بسبب نقص العمالة الأوروبية فيها، أو بسبب إحجام الأوروبيين عن العمل في هذه القطاعات أصلًا. علي سبيل المثال قطاعات النظافة والإعمار ومواسم جني المحاصيل.
حتي هذه اللحظة كان أغلب المهاجرين يصلون إلي أوروبا عبر البواخر الضخمة أو الطائرات بتأشيرات سياحية، ليكسروها فيما بعد، ويتم ترتيب أمور أغلبهم بعدها عبر إثبات بقائهم في القارة لعدد من السنوات، أو عبر عقود العمل أو الزواج.
حتي القطاع الآخر، الذي كان يشكل أقلية من المهاجرين، وهو القطاع الذي كان يصل إلى أوروبا عن طريق القوارب الصغيرة؛ وقتها كانت قوانين الهجرة تنظم آليات وطرق لاستيعابه، أو إعادته مرة أخرى إلى بلاده الأصلية إن كان هناك اتفاقيات تعاون في هذا المجال مع بلدان المنبع.
على الضفة الأخرى
كان علم ماكدونالدز المرسوم معبرًا عن الرغبة التي تجتاح هؤلاء الشباب في حياة أفضل، عمل بضمانات اجتماعية، مساعدة الأهل البعاد في البلد الأصلي، وتوفير بعض الأموال التي ستساهم في تحسين حياة المهاجر حين يعود إلي بلده بعد سنوات طالت أم قصرت.
لم يكن بالطبع هذا الكاريكاتير للتعبير عن رغبة المهاجر في تناول أطعمة ماكدونالدز السريعة. فالعولمة كانت قد فعلت فعلتها في بلداننا الأصلية بانتشار ماكدونالدز في كل المدن. أما الريفيون؛ فالبنادر لم تعد بعيدة عنهم كما كانت من قبل في الأفلام المصرية القديمة.
مع بدايات حقبة الألفين، ومع ظهور البشائر الأولى لحالة من حالات الكساد في دول شمال المتوسط، المعروفة بمجتعات الرفاهة؛ بدأ الاتحاد الأوروبي ودوله الجنوبية المحتكة أكثر بأزمة الهجرة إسبانيا وإيطاليا، بالضغط علي حكومات الجنوب، وعقد اتفاقات، وإعطائهم بعضًا من الحسنات علي هيئة معونات وبعض مشاريع التنمية، مقابل التشدد في مراقبة السواحل، ومكافحة مافيات تنظيم الهجرات غير القانونية، بالإضافة للجدار الذي بني حول مستعمرتين إسبانيتين في شمال المغرب "سوتا وميليا".
وهو ما ساهم تدريجيا في تحويل مسارات الهجرة، فلم تعد عن طريق الجزر التونسية القريبة من الجزر الإيطالية، أو إنطلاقا من شواطئ شمال المغرب التي تفصلها عن سواحل إسبانيا بضعة كيلومترات قليلة، بل حول المهاجرون مسارهم باتجاه الجزر الأبعد مثل كانارياس في المحيط الأطلنطي، وطوروا قواربهم لقوارب أكبر قليلًا، تحتمل الطريق الأطول والأكثر خطورة. قوارب سميت "كايوكو".
الفقرفوبيا
تأتي الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم الشمالي أواخر 2008، وبعدها ثورات جنوب المتوسط، كلحظتين حاسمتين في إغلاق الأبواب الأوروبية أمام المهاجرين. أما أصحاب السلطة في أوروبا، من رجال أعمال وسياسيين، المسؤولون عن هذه الأزمة الاقتصادية، والمساهمون في إجهاض ثورات الجنوب، ورغم معرفتهم بأن تدفق المهاجرين واللاجئين سيستمر وسيتزايد مع انتشار إحتقانات وحروب ومجاعات ما بعد هزيمة الثورات وحركات التغيير، وأنه ليس هناك حاليا حلول واقعية وحقيقية تمنع هذا التدفق، هؤلاء استخدموا الحيلة التقليدية لإدارة الجموع، هذه الأداة القديمة: صناعة الخوف، وإعادة تدويره وإنتاجه من جديد. فهم يعلمون أن الخوف هو الأداة الأنجح لتطويع جماهيرهم وتحويلهم إلي قطعان وديعة.
الخوف هذه المرة من اللاجئ أو المهاجر الفقير. فالفقر وباء معدي. وأحيانًا يصيب الآخر لينجو منه صاحبه. واللاجئ لم يعد مصدر غني ثقافي ومعرفي مثلما كان قبلًا في أوروبا الستينات والسبعينات، هو الآن إرهابي، أو شخص سيسرق عملك. وهو الخطاب الأساسي الذي تجتمع عليه كل القوي السياسية الأوروبية التقليدية من أقصى اليمين، وصولًا إلى الاشتراكيون الديمقراطيون، بإستثناء بعض المجموعات اليسارية والقوى المدافعة عن البيئة.
وبناء علي قواعد التسويق المعروفة، عليك أن تطور خطاب الخوف، كي لا يصدأ، فلم يعد مناسبا مثلما حدث مع بداية اندلاع أزمة اللاجئين السوريين في أعوام 2012 2013 أن ترحب أوروبا بالبعض القليل منهم، وتتفاوض مع تركيا على بقاء الآخرين هناك. ولم تعد المسألة هي أن يخرجوا من بلدانهم أم لا، وفي أية ظروف يعيشون، بل أصبحت ألا يتمكنوا أصلا من عبور البحر الفاصل بين العالمين، عالم الصراع وعالم الاستقرار الشمالي.. فهم هناك، في وسط البحر، في قوارب ستُغرِق أوروبا باللاجئين.
في عرض البحر
في هذه اللحظة تحديدًا، وفي ظل عجز القوي السياسية اليسارية البديلة، التي نتجت عن الحركات الاجتماعية عام 2011، في الفوز بالسلطة الفعلية في بلدانها، تظهر مجموعات جديدة، شبابية في أغلبها، تنفصل عن هذه القوى وتوظف طاقاتها وامكانياتها في عمليات الانقاذ، فيما هو عاجل، عبر منظمات معروفة وقديمة مثل "أطباء بلا حدود"، أو منظمات جديدة مثل "الأذرع المفتوحة". مستخدمين قوارب متوسطة الحجم، تشبه قوارب الصيد الأوروبية المجهزة، ليجوبوا البحر المتوسط، وبشكل أخص بالقرب من السواحل الليبية، في محاولة انقاذ مايمكن انقاذه قبل الغرق.
وهذه المجموعات والمنظمات التي تتم مقاضاتها وتعطيلها، وأحيانا القبض على طواقمها ومحاكمتهم عندما ترسو قواربهم في أحد الموانئ الأوروبية، هي التي تلعب الدور الأساسي في التقليل من الموتى، رغم افتقادها للتجهيزات التي تملكها الأنظمة الأوروبية وتحجم عن استخدامها في حالة اللاجئين. واحد من هذه القوارب، قبل أسبوعين تقريبًا، أنقذ 300 لاجئ، خلال أربعة ليال في عرض البحر. أي في المتوسط 75 لاجئ يوميا. فلك أن تتخيل أعداد الموتي حين يتم تعطيله واحتجازه في ميناء أوروبي بالشهور.
الأذرع المفتوحة
أزمة سياسية في إسبانيا وإيطاليا ملخصها "حكومات أقلية"، أحزاب لم يفز أي منها بالأغلبية الكافية، تحتاج للتفاوض وللدخول في إئتلافات مع قوى متنوعة كي يتم تشكل الحكومات غير المستقرة أصلا.
وفي هذه اللحظة تحديدًا يطرق قارب "الأذرع المفتوحة" الأبواب بحمولة جديدة، 150 من النساء والأطفال والشباب العرب والأفارقة، تم إنقاذهم قبل أن تغرق قواربهم المطاطية في المياه الدولية، بالقرب من المياه الإقليمية الإيطالية، وحالة الكثيرين منهم حرجة نفسيًا وجسديًا.
وعلي ظهر القارب هناك بعض الصحفيين الذين لم يتوقفوا عن التغطية لحظة واحدة. لتخرج كل قصص الدمار الإنساني التي نعرفها جيدًا في بؤر الجحيم الأفريقية والعربية، من مصر لسوريا للسودان لتشاد لوسط أفريقيا وصولا إلى ليبيا، حيث يتم اختطاف اللاجئين وبيعهم كعبيد في المزادات العلنية التي تنظمها الميليشيات المتصارعة.
لكن وزير الداخلية الإيطالي "سالفيني"، وفي ظل صراع انتخابي مرتقب، لا يسمح لهم بأن يرسوا في ميناء إيطالي. وتتطور الأزمة ليتدخل بها أيضا واحد من المشاهير، الممثل "ريتشارد جير"، بدعمه للاجئين وطاقم القارب بأطعمة، والصعود إليه فيما بعد. فيتم السماح للقارب، بأمر من قاض إيطالي، بأن يدخل للمياه الإقليمية الإيطالية، أمام جزيرة "لامبدوسا"، وعلي بعد 800 متر منها.
لكن الوجود أمام الجزيرة يزيد التوتر والأزمة، واللاجئون في حالة خطر حقيقي نفسيًا وصحيًا، يشاهدون المصطافين الأوروبيين علي جزيرة لامبدوسا، لكنهم محبوسون في قفص محاط بالماء، لا يستطيعون أن يلمسوا أرضًا صلبة لا تتحرك تحت أقدامهم.
وعلى الأرض الأوروبية هناك مفاوضات، ومعارك إعلامية، وأحكام قضائية متعارضة. وعلي القارب هناك إصرار علي التمسك بالحق في اللجوء، والحق في الحياة، أو إنهائها غرقا إن اقتضى الأمر. وكل ساعة تمر؛ تزداد معاناة اللاجئين والطاقم، التي يتم بثها علي الهواء مباشرة، وتزداد الانهيارات النفسية ومحاولات الانتحار بالقفز من علي القارب المخطوف. (تعبير القارب المخطوف ليس تعبيري، هو تعبير النائب العام الإيطالي الذي تكفل بإنهاء المآساة، فصعد على ظهر القارب، وحقق في وضعه، واعتبره واعتبر ركابه مختطفون كرهائن لدى وزير الداخلية الإيطالي، وأمر بإنزالهم).
الحرب على صوت الناخب
قارب يأتي في لحظة صراعات انتخابية، كجمرة لهب، من يجرؤ على إلتقاطها والترحيب بمن هم غير مرغوب فيهم أصلا؟ الترحيب بمن تم تصويرهم كحاملي رعب الفقر؟ والناخب يشاهد تلفزيونيًا المسلسل المشوق، مَن سيُخضِع مَن بين القوى السياسية؟ من سيكون الطرف الأكثر ليونة؟ من سيكون أقل ذكاء في صراعات سياسية أصبحت مجرد صراعات ميكروفونية إعلامية علي من يقول الكلمة الأكثر جاذبية رغم عدم اختلاف مضمون الخطابات فيما بين المتصارعون؟ والناخب المشاهد يدرك أن صبغات الألوان أصبحت باهتة، لم تعد هناك فروق كبيرة تميز ما بين الأحمر والأزرق.
ملحوظة لونية توضيحية وعابرة: الأحمر هو لون الأطياف اليسارية عامة. رغم التفرقة ما بين البمبي والأحمر الفاقع، في ألوان الطيف اليساري. الأزرق هو لون القوي اليمينية تقليديًا، مابين الأزرق الغامق، وما نسميه نحن باللبني، وضف عليهم إن إردت اللون البرتقالي لقوي اليمين الجديدة المتخفية تحت أزياء نيوليبرالية، واللون البنفسجي لقوي اليسار الجديد والبديل. أما الأخضر فهو إخواني( إن كنت من أبناء العرب، وهو بيئوي إن كنت أوروبيًا).
وتستمر الأزمة/الصراع طيلة عشرين يوما، بين طرفين لهما سلطتين، ومفترض أنهما على النقيض أيديولوجيا: "رابطة الشمال" الإيطالية الواقفة على طرف اليمين العنصري المشارك في بعض السلطة داخل أوروبا. والاشتراكيين الديمقراطيين الإسبان، الواقفين عند الطرف الأيسر من بين هذه القوي.
حرب وديّة بين السياسيين
خلال العشرين يومًا يتبادل "سالفيني"، وزير الداخلية الإيطالي من "رابطة الشمال"، و"كارمن كالبو"، نائبة رئيس الوزراء الإسباني من الاشتراكيين الديمقراطيين، الاتهامات والتصريحات العنيفة. لكنها كانت حربًا إعلامية دون صراع حقيقي، فالإثنان، ورغم التناقض الأيديولوجي المفترض، كانا متفقان تمامًا على جوهر الموقف من الأزمة.
أنه في النهاية ستضطر أوروبا أن تقبل الـ 150 لاجئًا، لكن دون أن يتم التصريح بذلك، وأن يتم إيقاف عمل منظمة "الأذرع المفتوحة" وغيرها من المنظمات التي تعمل على إنقاذ اللاجئين والمهاجرين في المتوسط، كي لا نرى مزيدًا من "الأزمات". ولتنتهي هذه "الأزمات" في قاع البحر قبل أن تحتل شاشات التلفزيونات.
كان الخلاف الوحيد بينهما على من يتخذ هذه الخطوة: إيطاليا بحكم وجود المركب علي بعد 800 متر من سواحلها؟ أم إسبانيا التي يحمل قارب الإنقاذ علمها؟
ظلت نفس الجملة تتردد ما بين الطرفين الشعبويين "مَن منح هذه المنظمة الحق في الإنقاذ؟".. الحق في إنقاذ الضحايا.
و"كارمن كالبو" التي تنتمي إلى بعض المجموعات النسوية التقليدية منذ شبابها، نسيت في ظل حربها الإعلامية الموجهة للطرفين، سالفيني ومتطوعي الانقاذ ، أن على ظهر القارب هناك نساء تعرضن للاغتصاب الجماعي في ليبيا، وهن بحاجة إلي الانقاذ.
الحق في الانقاذ.
الحق في أن تفعل ما هو صحيحًا، وما تتفق عليه كل الديانات والمنظومات الأخلاقية والأيديولوجية. وهو أن تنقذ الآخر إن احتاج إليك، ولننس بالمرة كل المواثيق الدولية الخاصة باللجوء والحماية وحقوق الانسان. وأن الحل العملي، الواضح حاليا لدى حكومات أغلبها حكومات أقلية، هو ألا نرى المشكلة، ألا تترحل إلينا. وبما أن هؤلاء اللاجئين سيخرجون في كل الأحوال من بلدانهم، هربا من كوارثهم المحلية ومجاعاتهم وحروبهم ومجازرهم، فليتكفل الطريق بهم، فالبحر المتوسط يتسع للكثيرين.
عن إغواء الصورة
أن يكون مركب الإنقاذ المحمل باللاجئين مرئيًا وبوضوح من المصطافين علي شاطئ أوروبي، في تناقض عنيف بين واقع طرفين يفصلهما 800 متر. المتعة والاستجمام والراحة على ناحية، وعلى الناحية الأخرى المعاناة والإحساس بأنك سجين وغير مرغوب بك، وكل طرف يراقب الآخر. هي مفارقة مدهشة بالطبع، لكنها ليست جديدة.
في أوائل الألفين انتشر عدد من الفيديوهات تم تصويرها من قبل هواة، أو عابرون بالصدفة، للحظة وصول قوارب الموت إلى بعض شواطئ أوروبا، سواء في ساحل المتوسط، أو جزر الكانارياس، أثناء وجود مصطافين أو مستجمين.
تصل مجموعة من الشباب الأفارقة والعرب، يخترقون الشاطئ بملابسهم المهلهلة وأكياس النايلون، ركضًا باتجاه الطرق القريبة، للهرب قبل وصول الشرطة، وسط دهشة المصطافين. وأحيانًا وبسبب حالة الإعياء التي يعانون منها، لا تحملهم أقدامهم، فتجد المصطافين العراة يحاولون إنقاذهم، ومنحهم المياه وبعض الأطعمة، وتميز المصطافين والمهاجرين فقط بلون البشرة.
أنقذوا بعضهم فقط
الجديد هو انقلاب الصورة، وتحولها لعادية. أنت تتنزه، ولن تسأل عن هؤلاء السجناء في قارب إنقاذ أوروبي، وسيمر اليوم عاديًا. لكن عليك الاحتفاظ بصورة السيلفي التي توثق أنك كنت حاضرًا بالقرب من هذا القارب الأزمة، الذي يشغل نشرات الأخبار. لن تتساءل مثلما كان الحال منذ عقدين عن بواقي الأحذية والهلاهيل التي تنتمي إلى أشخاص غرقوا في البحر خلال محاولاتهم العبور إلى الشمال، والبحر تقيئها علي بلاچات الاستجمام.
والمفارقات في صورة الهجرة موجودة دائما وإن لم تكن موثقة، وأحيانا ليست فوتوغرافية.
في أواخر التسعينات كان المهاجرون والمتضامنون معهم يناضلون تحت شعار "أوراق للجميع"، و"لا يوجد إنسان غير شرعي". الآن تراجع الشعار لمجرد "من فضلكم أنقذوا بعضهم قبل الغرق".
منذ عشرة أعوام كان المطلب إغلاق مراكز احتجاز المهاجرين، وبالذات المراهقين منهم، وتقنين إقاماتهم. المطلب الآن هو حماية هذه المراكز من هجمات القوى العنصرية والنازية والفاشية الجديدة، التي وصلت في هجماتها إلى أبواب مراكز الاحتجاج ومحاولة حرقها.
أن تكون لاجئًا معاديًا للجوء
خلال حقبة التسعينات، وصولا لمنتصف الألفين، كان المهاجر يصل إلي المدينة الأوروبية "الكوزموبوليتان" ليسأل عن حي المهاجرين. ففي تلك المدن الكبري كان هناك، غالبا، حي في وسط المدينة يشغله مهاجرون من عشرات الجنسيات، في اختلاط مع "السكان الأصليين"، المنتمين في أغلبهم للشرائح الأدنى من الطبقة الوسطى. وحين يصل المهاجر إلى الحي، يلتقط من الشوارع أو المقاهي أبناء بلده، الذين سيوفرون له طرف الخيط الأول، الذي سيقوده إلى عمل مؤقت ومسكن مؤقت، وبعدها ستتوالى الأعمال والمساكن، لتتحسن حياته تدريجيا.
لكن السياسة الأوروبية مع بداية الألفية الجديدة إلتقطت الخيط العكسي، فبدأت مشاريع ممولة من الاتحاد الأوروبي لتطوير هذه الأحياء على مستوي الخدمات والمرافق، وتجديد المنازل. فاستطاعت أن تزين مراكز المدن، وأن تجعلها واجهة سياحية. والواجهات السياحية غالية، ولا تناسب السكان الأصليين من محدودي الدخل، ناهيك عن المهاجرين.
خلال سنوات قليلة إختفي هذا المزيج الثقافي والإثني في العديد من الأحياء في مدن أوروبية مختلفة. وبقليل من التجاوز نستطيع أن نقول أنه تم إجبار فقراء المهاجرين علي الرحيل إلى الضواحي البعيدة عن الأضواء، والأشبه بجيتوهات. وبقيت في المراكز بعض المشاريع الأثنية للزينة: مطاعم ومقاهٍ متعددة الثقافات لاستهلاك السياح.
فقامت كل مجموعة إثنية باستيطان شارع أو شارعين من ضواحي المدن. هذا التطور الديموغرافي أثر بوضوح وبشكل حاسم على قوة تلاحم مجموعات المهاجرين ونقاباتهم وجمعياتهم التي كانت تلعب دورًا أساسيًا في إدارة حياتهم المشتركة، مثل حل النزاعات، توفير فرص عمل، والأهم التفاوض وإدارة الصراع مع الحكومات المحلية، والصراع مع هذا العملاق الهلامي الموجود دائما، لكنك لن تراه أبدا، وهو "أوروبا الموحدة".
أنت الخطر
وتدريجيا وتحت تأثير الأزمة الاقتصادية، وخسارة كثير من المهاجرين لأعمالهم، وعودة الآخرين لبلدانهم الأصلية، لم يعد المهاجر الفرد، في حالات كثيرة، قادرا على مجرد المشاركة في الأنشطة والمناسبات مع أبناء جاليته. لم يجد أمامه سوى غرفته الضيقة أمام شاشة التلفزيون التي لا تتوقف لحظة عن أن تؤكد له "أنتم الخطر".
ولن تتوقف حتي تقنع قطاع من المهاجرين فعلا بأنهم الخطر، وبأنهم أدنى، وبأنهم سبب كل الأزمات والبلاوي. وإن كنت تريد الاستمرار هنا فعليك بالالتزام ببضع شروط. أولا: أن تقبل أي عمل دون تفاوض ودون "برطمة". ثانيا: انسَ عاداتك الأصلية وانسحق في عادات المجتمع الذي قَبِل بك، (وكأن المجتمع الحاضن له أصلا ثقافة وعادات موحدة). ثالثا: لا تشجع أبناء بلدك على المجئ. إن أتوا سينافسونك وستخسر القليل الذي تملكه، وسيقلبون المجتمع ضدك.
صلاتي في المسجد وصوتي لليمين
في عملية غسيل الأدمغة المستمرة، ليس غريبا أن تجد مهاجرين منسحقين تماما مع خطابات أيديولوجية هي في الأساس معادية لهم وبوضوح. أن تجد على سبيل المثال مهاجر مسلم، يتردد على المسجد كل يوم جمعة، ليصلي مع غيره من المسلمين، لكنه ينتخب السياسي اليميني الذي يقول له أن الإسلام هو دين الإرهاب.
والعنصرية والإسلاموفوبيا ليست تعبيرات قادرة على تفسير كثير من الممارسات والسياسات الأوروبية. القادر علي التفسير أكثر هو "الفقرفوبيا".
الخوف من الفقر والفقراء. وبما أن الفقر هو العدو، فعليّ أن أتجنب، وبشكل فردي تمامًا، أن أكون من هؤلاء الفقراء أو أنتمي إليهم. وتتمكن منك تدريجيا قناعة أسطورية مفادها أنني من الفئة الناجية التي لن تُمسّ حين يسيطر هذا اليمين العنصري على السلطة، على كل السلطة.
لكن اللاجئ أو المهاجر الذي نسي أو تناسى أنه أيضا لاجئ أو مهاجر، ليس فقط هو الشخص العربي أو الأفريقي المعادي حاليًا للهجرة وللجوء، بل هو أيضا الأوروبي الذي نسي أن بلاده في تاريخها القريب أغرقت العالم بملايين المهاجرين واللاجئين. ولن نتحدث هنا عن المستعمرات والمستوطنات في أمريكا اللاتينية وغيرها.
تجنب الفقر والبطالة، ومحاولة توفير حياة أفضل لنفسك ولعائلتك، كانت الدوافع الغالبة المعروفة سابقا للهجرة المتوسطية. لكنها تراجعت لصالح دوافع أكبر وأكثر إلحاحا: مجرد النجاة بالحياة، ولو عن طريق قارب موت، فأنت في الحالتين مشروع ميت.. ربما تنجيك المغامرة.
لم يعد الوصول إلي علم ماكدونالدز المرفرف هدفًا، فهو لم يعد مرفرفًا في أعين عشرات الآلاف من اللاجئين الهاربين من حروب ومذابح وأنظمة عسكرية ودينية ومجاعات، هم يفضلون البقاء في بلدانهم كما كانت قبل أعوام قليلة. لكن البلدان تغيرت، والعلم الذي يرفرف الآن هناك، عند الضفة الشمالية من المتوسط، هو علم أن تعيش بعضا من الأمان.. مجرد أن تحيا.