كان عمري 19 عامًا عند أول لقاء لي مع القاهرة، سافرت إليها من الإسكندرية مع أبي وأمي لتقديم أوراقي إلى كلية الألسن في أغسطس/ آب من عام 2013، صدمني زحامها وجوها الحار وفكرت في التراجع عن قرار الالتحاق بالألسن خصوصًا أنها لم تكن الكلية التي أرغب في الالتحاق بها.
تمنيت الالتحاق بكلية الإعلام ولم تكن متوفرة سوى في جامعتي القاهرة وبني سويف، لذلك وقف مجموعي حائلًا بيني وبين التحاقي بها بفارق 1٪ لصالح كلية الألسن، ولم تكن الألسن موجودة هي الأخرى سوى في جامعة عين شمس بمحافظة القاهرة وجامعة المنيا بمحافظة المنيا.
لدينا في مصر 26 جامعة حكومية، وفقًا للمجلس الأعلى للجامعات، ويبلغ أعداد الطلبة الخريجين من الثانوية العامة سنويًا حوالي 500 ألف طالبًا وطالبة، وفقًا لموقع وزارة التربية والتعليم الذي نشر جدولًا يوضح أن عدد الناجحين في الثانوية العامة عام 2018 بلغ 413 ألف طالبًا وطالبة.
نتيجة لذلك، يبقى التنافس على الالتحاق بالكليات مرتبطًا بعدد الأماكن الشاغرة فيهم وليس على حساب رغبة الطلبة أو حاجة السوق، فيقف المجموع في تلك المسألة حاسمًا.
فيما بعد، وخلال الـ4 سنوات الماضية وصل عدد كليات الألسن في مصر إلى 8 كليات موزعة في الجامعات الحكومية الـ27، ولكون كلية الألسن من كليات القمة فقد فرح أهلي بالتحاقي بها رغم عدم رغبتي إليها وخوفي من المعيشة في العاصمة بعد أول لقاء بيني وبينها.
لم أكن الوحيدة في بيتنا التي اغتربت من أجل الالتحاق بكلية غير موجودة بمدينتنا، فبعد ثلاثة أعوام من التحاقي بالكلية طمحت أختي في الالتحاق بكلية العلاج الطبيعي، وضعتها رغبتها الأولى في أوراق التنسيق وجاءت لها في جامعة كفر الشيخ لأن جامعة الإسكندرية لم تكن تضم كلية العلاج الطبيعي، فتغربت أختي هي الأخرى.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن كلية العلاج الطبيعي لا توجد سوى في أربع جامعات فقط وهم القاهرة وكفر الشيخ وقنا وبني سويف.
رغم ذلك كنت وأختي أكثر حظًا من أصدقاء أخرين، كانت لي صديقة تعرفت عليها خلال دروس الثانوية العامة رغبت في الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولم تكن الكلية وقتها موجودة سوى في جامعة القاهرة، فقط، فرفض أهلها أن تلتحق بها حتى لا تعيش بعيدًا عنهم، والتحقت بكلية العلوم جامعة الإسكندرية.
بعدها بعام أصبحت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في 3 جامعات أخرى من بينهم جامعة الإسكندرية في 2014.
4 أعوام في معسكرات المدينة الجامعية
يسكن أغلب الطلبة المغتربين في المدينة الجامعية ولكل جامعة مدينتها، في عام 2018 التحق بجامعة القاهرة 14 ألف طالبًا وطالبة، وحوالي 5 آلاف و500 طالبًا بجامعة عين شمس، وهما أكبر جامعتين في مصر من حيث العدد بسبب وفرة كليات غير موجودة في المحافظات الأخرى مما يلحق الضغط بمدنهما الجامعية.
عندما سكنت في السنة الأولى من الكلية بالمدينة الجامعية لجامعة عين شمس كنت مع 12 طالبة في الحجرة الواحدة في دور مكون 10 حجرات، ولكل حجرتين حماماً، أي أن 120 فتاة يعشن في دور واحد ويستخدمن خمسة حمامات فقط.
كانت للمدينة الجامعية بجامعة عين شمس قواعد لابد من اتباعها إذا خالفتها طالبة أكثر من 9 مرات تُحرم من السكن في المدينة الجامعية العام التالي، فمثلًا أخر ميعاد لدخول السكن الجامعي للطالبات هو السابعة مساءًا وإذا تأخرت الطالبة تدون مخالفة في ملفها.
منعتنا تلك المواعيد من العمل بعد انتهاء اليوم الدراسي لأن الوقت لن يُسعفنا، حتى الاشتراك في الأنشطة المختلفة داخل الكلية كان أمرًا صعبًا لأن كل طالبة منا كانت ملزمة باستخراج تصريح مختوم من الكلية يقدم لإدارة المدينة حتى نستطيع التأخير عن السابعة.
لم أكن أحتاج للعمل لكني كنت مشتركة في فريق المسرح وكان يلزمني ذلك حضور البروفات وعروض الفرقة التي كانت تبدأ أغلبها بعد السابعة مساءً، طلبت تصريح من الموظفة المختصة في الكلية التي لا تعطيني ختمها إلا بعد اقتناع تام منها أن ذلك الوقت سأقضيه في مسرح الكلية، وبالفعل كانت لا تعطيني هذا التصريح إلا إذا رافقني إليها زميلي إبراهيم الذي كان على علاقة طيبة بها، وكانت في بعض الأحيان تأتي لحضور البروفات لتتأكد من وجودي وباقي الطالبات.
في إحدى المرات كان لدي عرضًا ينتهي في السابعة والنصف مما يعني إنني سأصل إلى المدينة في حوالي الثامنة، وقبل ميعاد العرض أبلغت مشرفة المبنى بالأمر حتى لا يُحسب لي تأخير فوافقت، على أن أصل إلى المدينة في تمام الساعة الثامنة بالضبط، في هذا اليوم وصلت إلى المدينة متأخرة عن الساعة الثامنة بخمس دقائق، فقط؛ بسبب الازدحام المروري، فحسبت المشرفة لي هذا تأخير ووضعته مخالفة في ملفي.
في العام الثاني ارتفعت مصاريف المدينة من 65 جنيهًا إلى 165 جنيهًا شهريًا بدعوى تطوير المباني، على الرغم من ذلك وجدنا أن حمامات المبنى لم تكن جاهزة في يومنا الأول، سأل والدي مشرفة المبنى "أمال أما يحبوا يدخلوا الحمام يعملوا إيه؟"، ولمدة أسبوعين كنا نستخدم حمامات الكلية أو حمامات المباني الأخرى.
استمرت حياتنا في المدينة أنا وجميع زميلاتي مقننة بهذا الأسلوب، نُمنع من كل شئ؛ التأخير ولو دقائق عن ميعاد دخولنا، من الضحك بصوتٍ عالٍ لأن هذا عيب.
في عامي الثاني أيضًا أصيبنا بحالة تسمم غذائي بعد تناولنا وجبة غداء في المدينة، وفي صباح اليوم التالي أثناء حضور المحاضرات ظهرت أعراض التسمم علينا مثل القئ والسخونية ورعشة الجسد وآلام المعدة، انتقلنا إلى المستشفى الجامعي ووجدنا الأسرة غير مجهزة لاستقبال الحالات، وليس هناك أغطية نظيفة تحمينا من برد فبراير، شخص الطبيب حالتنا على أنها نزلة معوية حادة نتيجة تناول طعام فاسد، هذا ما قاله لنا لكن لم يكن هذا ما كتبه في تقاريره الطبية خوفًا على سمعة المدينة الجامعية.
أبلغنا المسؤولين في المدينة عما حدث لنا وما كان منهم إلا أن حاولوا إبعاد التهمة عن أنفسهم وإلصاقها بالوجبات السريعة في الكلية.
عدنا إلى المدينة في صباح اليوم التالي ومعنا تقارير مذكور فيها إننا أُصيبنا بنزلة معوية دون ذكر سببها، وبعد اطلاع المشرفات على التقارير شعروا بالانتصار علينا، وشعرنا نحن بالهزيمة وضياع حقنا، مع العلم إننا عندما عدنا وقابلنا معظم زميلاتنا في حجراتهم المختلفة أفادونا إنهم شعروا بمثل هذه الأعراض التي ظهرت علينا لكنهم لم يفكروا للحظة إنها نتيجة طعام المدينة الفاسد وفضلوا التغلب عليها بالأدوية المطهرة للمعدة.
من المدينة الجامعية إلى دور المغتربات
في عامي الثالث بالكلية قررت ترك المدينة الجامعية والانتقال مع مجموعة من زميلاتي إلى السكن في دار للمغتربات، وكما كان للمدينة قواعد كان للدار قواعدها لكنها كانت أكثر مرونة، فآخر موعد لدخول الدار في التاسعة مساءً، وبفضل هاتين الساعتين تمكن البعض منا من تجربة العمل للمرة الأولى أثناء الدراسة.
وضعت الدار تكلفة سكن للطالبات غير العاملات تختلف عن تكلفة العاملات، فإذا كنتِ تعملين فلتدفعي أكثر ولا تقيمين في حجرات الطالبات، عندما أنهت إحدى زميلاتي دراستها وقدمت على الماجستير وكان لابد أن تعمل حتى تتحمل تكاليف الماجيستير التي زادت الضعف وقتها، كانت تخفي عنهم إنها تعمل حتى لا تدفع تكاليف أكثر لا تقدر عليها.
اكتشفت مع الدار تحديات جديدة وتُحمل مسؤوليات أصعب لا طاقة لي بها، مثل زيادة المصروفات الخاصة بسكن الطالبات، مما يقف أمام رغبتي في عمل دراسات عليا، وهذا ما يحفز الطلبة على التفكير في السفر للخارج، واستكمال مسيرتهم الدراسية هناك.
نعيم الدراسة في الخارج
بعكس الأوضاع في مصر، تضم جامعة أمستردام بهولندا على سبيل المثال حوالي 30 ألف طالبًا فقط، وجامعة ليدن المصنفة 102 عالميًا تضم أيضًا 30 ألف طالبًا من أكثر من 105 دولة، يحصل هؤلاء الطلبة على سكن في الحرم الجامعي مقابل 300 يورو، ويتمتع الطلبة هناك بخصومات في السينما والمطاعم والمتاحف ورحلات السفر والتسوق كما تقدم معظم الجامعات وجبات الطعام للطلبة أو يمكنهم إيجاد الوجبات بأسعار جيدة.
وفي لندن جامعة مثل كينجستون يلتحق بها سنويًا حوالي 23 ألف طالبًا مما يوفر لهم سكن جامعي جيد يتراوح من 180 إلى 260 جنيهًا استرليني في الأسبوع على حسب المقدرة المالية لكل طالب، كذلك هناك جامعة هامبورج في ألمانيا، وهي أكبر جامعة في مدينة هامبورج، وواحدة من أكبر الجامعات على مستوى ألمانيا فيلتحق بها سنويًا 41 ألف و200 طالبًا فقط.
وجود جميع التخصصات في كل جامعة وعدم تمركز تخصصات بعينها في جامعات قليلة ببلد بعينها يساعد على توفير كافة الخدمات للطلبة من سكن جامعي آدمي وتأمين صحي يليق بالأطباء قبل المرضى، كذلك يخفف الضغط على الطلبة ويوفر بطبيعة الحال طبيعة خاصة لكل مدينة.
نداهة القاهرة
لم تنفتح الحياة أمامنا سوى عندما انتقلنا للعيش في شقة خاصة تؤجر للطلبات، أصبحنا بعد التخرج مسؤولات عن أنفسنا لا سلطة لأحد علينا، فتيات عاملات يستكملن دراستهن العليا ويصرفن على أنفسهن.
زاد طموحنا من مجرد فتيات أتين للدراسة إلى التعود على القاهرة وعدم القدرة على الاستغناء عنها من أجل تحقيق أهداف جديدة ونتيجة إدراكنا أن تحقيق أهدافنا لن يتم إذا عدنا من حيث أتينا.
كنت أسأل أصدقائي الذين تعرفت عليهم خلال إقامتي في القاهرة لماذا ظلوا بها بعد التخرج؟، محمود الذي جاء من طنطا للالتحاق بكلية الألسن ثم تركها ليدرس النقد والدراما في كلية الآداب بعدما أحب المسرح، يريد أن يصبح مخرجًا، وهو شئ لن يتمكن منه إذا عاد إلى طنطا"، زينب التي حصلت على ليسانس ألسن من المنوفية، والتحقت بالعمل في إحدى شركات الدعاية في القاهرة بعد التخرج "تريد أن يكون لديها حرية الاختيار وبالتالي لن يحدث هذا سوى باستقلالها الاقتصادي".
أن تتحمل مسئولية نفسك بشكل كامل هو أمر جيد للغاية لكن أن تشعر أنك وحدك تمامًا في كل شىء هو ما يجعلنا نفكر آلاف المرات هل وجودنا هنا هو الأصح أم أن هناك بديل لا نراه؟
أسأل نفسي تلك الأسئلة عندما أفكر في المغتربين المحرومين من الاحتواء النفسي الذي يجده آخرون ممن يعيشون وسط أهلهم، حتى ولو من بينهم من يستقل بحياته في سكن منفصل عن أسرته، إلا أنه في بادئ الأمر أو أخره حين يقرر العودة سيعود بمنتهى السهولة دون أن يتعارض هذا مع استكمال دراسته أو حياته العملية.
هذا الفارق الجوهري بين الرغبة في الاستقلال وبين الاغتراب، الاغتراب هو الحل الوحيد الذي لا ثاني له في فترة من الفترات، كأن يختار لك مكتب تنسيق الثانوية العامة كليتك في مدينة أخرى، ثم تصل إلى مرحلة أخرى بعد قضاء سنوات الجامعة بأن الحياة في القاهرة تختلف في كل شئ عن حياة مدينتك، فتبقى في القاهرة وتهجر مدينتك.