تضرب معضلة خلق ظهير شبابي مؤيد للحكم في مصر بجذورها إلى ما قبل اعتلاء الضباط لحكم مصر عام 1952، عندما استلهم حزب مصر الفتاة عندما كان مؤيدًا للملك في نهاية الثلاثينات تجربة القمصان السوداء في إيطاليا الفاشية مع تغيير لونها إلى الأخضر، وهو ذاته ما فعله حزب الوفد الذي أسس كتائبه الشبابية وسماها القمصان الزرقاء. لاحقًا، أسس النظام الناصري في الخمسينات التنظيم الطليعي لشباب الثورة، والذي أصبح لاحقًا نواة منظمة الشباب الاشتراكي.
ورغم أن أغلب محاولات لاستمالة الشباب نحو النظام كانت بلا أثر يُذكر، فقد استمرت هذه المحاولات مع تعاقب الأنظمة التي حكمت مصر على اختلاف أسماء من حكموا؛ تحييد الشباب عن ممارسة السياسة واجتذاب قطاع منهم للمشاركة في مؤتمرات تتحدث عن التنمية والمشروعات الكبرى والاستثمار الاقتصادي دون الاقتراب من أي ملف سياسي، ثم إعداد المتميزين منهم لتقلد المناصب الحكومية لاحقًا ورسم صورة وردية لنظام سياسي يستوعب الشباب ويتيح لهم الفرص.
مطلع هذه الألفية شهد محاولة مهمة لتدجين الشباب مع تأسيس أمين لجنة السياسات بالحزب الوطني المنحل جمال مبارك جمعية جيل المستقبل، والتي انحلت بعد ثورة 25 يناير بسبب مخالفات تتعلق بتسخير موارد حكومية لصالحها. استهدفت هذه الجمعية بالأساس شباب الجامعات في محاولتها خلق فصيل شبابي يؤيد خطة توريث القصر الجمهوري من مبارك الأب إلى ابنه.
عمل جمال مبارك، إلى جانب عدد من رجال الأعمال على رأسهم أحمد عز وهشام طلعت مصطفى ومحمد أبو العنين مالك قنوات صدى البلد، على تقديم ما سُمّي وقتها بـ "الفلسفة الجديدة" للتواصل مع الشباب، وترافق مع الإصلاحات السياسية الشكلية التي جرت بدءًا من عام 2004.
الآن، وبعد سقوط نظام مبارك وحل جميعة شباب المستقبل، فإن الفكرة ذاتها لم تمُت، بل استمرت تحت اسم جديد وببعض الوجوه القديمة، حيث يعود المؤتمر الوطني للشباب إلى واجهة المشهد مجددًا في نسخته السابعة بالعاصمة الإدارية الجديدة يومي 30 و31 يوليو/ تموز الجاري برعاية وحضور رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، بعد سلسلة مؤتمرات شبابية كان آخرها مؤتمرين بنكهة عالمية، الأول هو منتدى شباب العالم في شرم الشيخ والآخر منتدى الشباب العربي الأفريقي في أسوان، بينما ألغي مؤتمر الشباب المصري - السوداني والذي كان مقررًا في مارس/ آذار الماضي بعد الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير.
بين مؤتمرات شباب جمال مبارك في مطلع الألفية ومؤتمرات السيسي في نهاية عقدها الثاني أمور متشابهة، بدءًا من فلسفة التعامل ذاتها بالسعي إلى خلق ظهير شبابي للنظام الحاكم، لا يتعاطى مع السياسة ولا يمارسها، من خلال مؤتمرات حاشدة، إلى التغطية الإعلامية المتشابهة، انتهاءً برجال أعمال حضروا التجربتين مثل محمد أبو العنين وهشام طلعت مصطفى الذي ظهر في مؤتمر الشباب الوطني السادس، وبقيت الاختلافات تفصيلية تتعلق بجداول أعمال هذه المؤتمرات التي تغيّرت بتغيّر السياق الزمني، وبحسب طبيعة المشروعات التي ينبغي الترويج لها.
برامج مختلفة لأهداف مختلفة
تختلف جداول أعمال مؤتمرات جمال مبارك عن نظيرتها في عهد السيسي باختلاف السياق، فبينما كان الأول يسعى إلى تمرير مشروع التوريث فإن الثاني يسعى إلى الترويج لمشروعات قومية كبرى يشكك خبراء اقتصاديون في جدواها الحقيقية.
ويأتي اختيار العاصمة الإدارية الجديدة لعقد المؤتمر بحسب عبد الرحيم علي عضو مجلس النواب ورئيس مركز دراسات الشرق الاوسط بباريس وحشد آخر من السياسيين ورجال البرلمان، إلى "تعرف العالم كله على هذه العاصمة الجديدة التي انجزها المصريون في وقت قياسي غير مسبوق"، مع التأكيد مرارًا على أن ميزانية الدولة لم تتحمل مليمًا واحدًا "في أسلوب جديد غير تقليدي لتمويل مثل هذه المشروعات القومية الكبرى التي تتكلف مئات المليارات".
يحضر مؤتمر الشباب السابع نحو 1500 مدعو من شباب الجامعات والأحزاب والبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة، وعدد من الشخصيات العامة والإعلاميين ورجال الدولة والأعمال وسفراء دول الاتحاد الإفريقي وممثلين عن مؤسسات كبرى ومنظمات دولية.
وبحسب جريدة الأهرام الحكومية، ستناقش أجندة المؤتمر إجراءات الإصلاح الاقتصادي، وموازنة الدولة 2019-2020، والإصلاحات الإدارية الهادفة لتحسين مؤشرات الاقتصاد الكلية مثل التحول الرقمي، وبرنامج التسويق الحكومي، واستعراض المشروعات القومية المُنجزة وأثرها على الاقتصاد وحياة المواطن بصفة عامة. وسيشهد المؤتمر حفل تخريج الدفعة الأولى من برنامج الرئاسة لتأهيل الشباب الإفريقي، والذي يعد أحد توصيات منتدى شباب العالم الأخير.
كما سيتم عرض مبادرة "حياة كريمة"، وسيشكل مؤتمر الشباب المؤتمر الأول للمبادرة، وسيتم مناقشة سبل هذه المبادرة لتوفير حياة كريمة لكل مواطن، بالإضافة إلى شرح أبعاد المبادرة وإتاحة الفرصة للشباب لعرض أفكارهم ورؤاهم الخاصة لتنفيذها، وسيتم خلال المؤتمر إعلان سفراء "حياة كريمة" المكونين من شخصيات عامة وفنانين.
الجدل القديم-الجديد
لم يحب جمال مبارك ورجال أعماله الحديث عن الملف الحقوقي في مصر ولم يلتفتوا له في جمعيتهم، بل تعامل جمال مبارك باستعلاء مع أي طرح يتعلق بالعملية السياسية أو تداول حقيقي للسلطة، ويرتبط ذلك بالظرف التاريخي وقتها والذي عزز تصورات لجنة سياسات الحزب الوطني بأنها قادرة على الانفراد في الحكم في ظل جهاز أمن الدولة وسطوة وزير الداخلية آنذاك حبيب العادلي.
النظام الحالي يجد نفسه أمام الأسئلة ذاتها والتي تتعلق بالعملية السياسية وإمكانية تداول السلطة، مع الجدل الذي لا ينتهي حول الملف الحقوقي المترتب على القضاء على إمكانية ممارسة السياسة في مصر بعد ثورة يناير. لذا أستبق مؤتمر الشباب بتصريحات كريم السقا، عضو لجنة العفو الرئاسية بهذا الشأن والتي أعلن فيها أن مؤتمرات الشباب وصلت إلى مرحلة أكثر نضجًا وإبداعًا، وأصبحت مثالًا لممارسة الديمقراطية الحقيقية.
بالتزامن مع أمثلة السقا عن ممارسة الديمقراطية الحقيقية، جددت نيابة أمن الدولة قبل عدة أيام حبس المحامي زياد العليمي والصحفيين هشام فؤاد وحسام مؤنس والناشط حسن البربري وسبعة آخرين لمدة 15 يومًا على ذمة التحقيقات في القضية رقم 930 المقيدة برقم 35 لسنة 2019 المعروفة إعلاميًا بـ "تحالف الأمل".
وقبل يومين قررت محكمة جنايات جنوب القاهرة قبول استئناف نيابة أمن الدولة العليا، على قرار إخلاء سبيل شادي الغزالي حرب، المتهم بـ"نشر أخبار كاذبة من شأنها التأثير على الأمن القومي للبلاد والانضمام لجماعة أسست خلافا لأحكام القانون والدستور"، بتدابير احترازية، وقررت استمرار حبسه 45 يوما احتياطيا على ذمة التحقيقات في القضية.
صداع المعارضة
لا تحب أنظمة الحكم المصرية أحاديث السياسة ولا ترتاح لقوى المعارضة. في عام 2009، رفض جمال مبارك خلال ندوة مفتوحة مع شباب خريجي جمعية جيل المستقبل، أن يتحدث طلبة الجامعة في السياسة ورأى أنه سلوك غير مقبول من طلاب العلم أن يتحولوا إلى طلاب سلطة أو طلاب تغيير سلطة، وأكد أن طلبة العلم لا يجب أن يمارسوا السياسة.
السيسي من جانبه رد ساخرًا على أحد حضور المؤتمر الوطني الخامس للشباب عندما تحدث عن أهمية وجود المعارضة، إذ قال "مين اللى جاب المعارضة هنا؟". والأمر هنا تجاوز كونه دعابة ساخرة، إذ دائمًا ما تتجاهل مؤتمرات الشباب التي تؤكد الحكومة أن بابها مفتوح للجميع، شباب المعارضة، مثل النواب الشباب من أعضاء تكتل 25-30 البرلماني وعلى رأسهم خالد شعبان وهيثم الحريري.
قوائم المُشاركين في مؤتمرات الشباب تخضع لإشراف المكتب الإعلامي للرئيس، أو اللواء عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة ومدير مكتب السيسي السابق. وقد ظهر مدى التنسيق بين اللواء وبعض الأحزاب في برقية عزاء وجهها من يسمون أنفسهم "شباب الأحزاب" إلى اللواء كامل عندما توفيت والدته.
لم يقتصر الأمر هنا على تقديم واجب العزاء، فقد أشار هؤلاء الشباب إلى "الحضور الدائم" للواء قبل مؤتمرات الشباب، وهذا منذ توليه إدارة مكتب الرئيس. ومن غير المعروف إن كان احتفظ بهذا الملف بعد انتقاله إلى المخابرات أم لا، وهل هناك أجهزة أمنية مستقلة تعمل على الاختيار أم أن الأمر يقتصر على أفرادها القائمين بالأعمال داخل مؤسسة الرئاسة.
حول الدولة والشباب
بعد أن أخرج النظام الحالي كل من لا يسير حسب القواعد المرسومة عن المشهد، أين أصبح الشباب المدعو دائمًا لحضور المؤتمرات إلى جانب الرئيس؟
في الغالب ينتمي هذا الشباب إلى برنامج الرئيس، وهو برنامج تعليمي مدته ثمانية أشهر هدفه المُعلن "توسيع قاعدة المشاركة الشبابية فى إدارة الدولة وتهيئة الشباب لتولى مناصب قيادية ورفع مستويات الوعي السياسي والثقافي من خلال إعطاء صورة شاملة عن النظم السياسية والحكومية ونظم إدارة المؤسسات، وتوفير مساحة التواصل المباشر بين الدولة بمؤسساتها والشباب بشكل مباشر وبدون وسطاء". ويحصل المتخرجون من البرنامج على شهادة أكاديمية احترافية من خلال أكاديمية ناصر العسكرية العليا.
صحيفة الفجر أشارت إلى اختيار عدد من شباب الدورة الأولى لتولي مناصب في وزارات التجارة والصناعة والري والزراعة ومجلس الوزراء ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار والجهاز المركزى للمحاسبات، بالإضافة لتولى مناصب مستشارين بالمحافظات ومعاونين للوزراء والمحافظين، بجانب ترشيح عدد آخر منهم فى وظائف الإدارات المحلية التابعة لوزارة التنمية المحلية، مع حصولهم على دراسات أعلى فى مؤسسات أكاديمية عالمية، بالإضافة لحصولهم على فرص العمل الأولى مع الشركات الراعية للبرنامج، وفى معارض التوظيف والتأهيل المستمر والاستمرار فى الحصول على المزايا والمنح.
وهنا نتوقف لنتساءل، هل يقع هذا الدور، المتعلق بإعداد الشباب وتأهيلهم وإكسابهم الخبرات اللازمة لتولي مناصب قيادية في أروقة السلطة التنفيذية، على عاتق الدولة؟ يجدد هذا السؤال تساؤل آخر حول الدور المفترض لمؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب السياسية والنقابات وغيرها، والتي تفرز، في المجتمعات الديمقراطية، أجيالًا من الشباب يشقون طريقهم إلى المواقع القيادية هذه من أسفل السلم عبر ممارسات سياسية تتيح للجميع فرصًا متكافئة للمنافسة على مقاعد البرلمان والمناصب التنفيذية.
هل يمكن أن نعزز الديمقراطية، وهو الهدف المعلن لهذه المؤتمرات، بممارسات سلطوية عندما تتولى الدولة ما ينبغي أن تقوم به مؤسسات مستقلة عنها؟
تتعدد الأسئلة بتعدد المحاولات المستمرة لخلق ظهير شبابي للنظام، والتي أثبتت جميعها في السابق فشلًا ذريعًا، بدءًا من شباب الاتحاد الاشتراكي وانتهاءً بشباب جمال مبارك. واليوم، لا يبدو أن الحافلات المجانية لنقل الشباب المُشارك إلى مقر انعقاد المؤتمر، ولا الإقامة المجانية في فنادق العاصمة الإدارية الجديدة خلال فترة انعقاد المؤتمر، أو البوفيه المفتوح، هي أمور كافية لإعداد شباب قادرين على تولي المسؤولية في منظومة ديمقراطية حقيقية.