ربما تعطي الصحفات الأولى لرواية سيدات القمر للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي انطباعًا بأننا أمام رواية تقليدية، فالصفحة الأولى تبدأ بمشهد تقليدي لامرأة تخيّط، وحكايا عن نساء في المجتمع العربي. إذن هي قصة حب أخرى؟ امرأة أخرى تحكي عن عذابات الحب في مجتمع عربي لا يأبه لرأي النساء؟
الرواية التي فازت منذ أيام بجائزة البوكر العالمية، صدرت في نسختها الأصلية باللغة العربية عام 2010 عن دار الآداب اللبنانية، وصدرت نسختها الانجليزية بترجمة مارلين بوث تحت اسم "Celestial Bodies" أو "أجرام سماوية" عام 2018. جعلت جوخة أول كاتبة خليجية تصل للقائمة الطويلة للجائزة، وأيضا أول كاتبة عربية تحظى بهذا اللقب على الإطلاق.
ظهرت جائزة البوكر العالمية عام 2005، كمعادل ونظير لجائزة المان بوكر البريطانية والتي تُمنح فقط للكتب المكتوبة أصلًا باللغة الإنجليزية. بينما قبلت البوكر الدولية هذا العام ترشيحات للأعمال الأدبية المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، والتي نُشرت من قِبَل دور نشر بريطانية في الفترة ما بين 1 مايو 2018 و 30 أبريل 2019.
أحداث سيدات القمر تدور متأرجحة بين أزمان متعددة، فتجري الأحداث أحيانًا في الزمن الحاضر في قرية "العوافي"، محل الأحداث، ثم تعود بالزمن للوراء للقص عن زمن ماضي في تاريخ شخصيات الرواية، وخاصة العبيد منهم قبل تجريم الرق وتجارته في عُمان في عام 1926.
ميا
تبدأ الصفحة الأولى بـ "ميا"، الفتاة السمراء الجالسة على ماكينة الخياطة، شاردة في قصة حبها التي لا تستطيع إليها سبيلًا، وفي دعاء مستمر لا يرغب في أكثر من رؤية الحبيب "والله العظيم يارب لا أريده أن يلتفت إلي، فقط أن أراه".
ولا تكاد تمر سطور معدودة حتى تصل أم ميا إلى المشهد مبشّرة بوصول عريس، سطور أخرى قليلة وتبدأ إجراءات الزواج التي لا تملك ميا فيها رأيًا ولا سلطة، لا تجيب سوى بدموعها، تضيع آمالها وتنقطع عن الصلاة.
حكاية سيدات القمر متعددة الأصوات، لكن يقصها راوي عليم على لسان أبطالها، ويتدخل أحيانًا معلقًا أو كاشفًا سرًا. وقد استطاعت جوخة بحرفية عالية أن تجعل لكل شخصية صوت مختلف، ولكل فصل رؤية وطريقة في الحكي ومعاناة يقصها صاحبها وتركت الحكم للقارئ.
فالمشهد السابق مثلًا لـ "ميا" المعذّبة، يروى مرة أخرى بزاوية عبد الله، العريس، الذي ظهر من العدم وحرم "ميا" من أمنيتها الغالية، وقع "عبد الله" في حبها منذ أن وقعت عيناه عليها، تمناها وجاهد أبيه للزواج منها وحسنت في عيونه عيوبها التي عددها أبيه؛ "تلك الضئيلة السمراء؟ أليس لك عينين؟ ثم إنها أكبر منك".
أحبها عبد الله وظل يحلم طوال الوقت حتى بعد زواجهما بأن تبادله الشعور، وميّا التي كانت قد اكتفت من تجربتها التي لم تبدأ أصلًا، سخرت منه حين سألها هل تحبه.
خولة
تصرّ "خولة" على انتظار ابن عمها الغائب في الغربة، وتراهن على اهتمامه وغيرته التي منعها بها من اللعب مع صبيان القرية بينما كانوا صغارًا. ترفض الخاطبين طويلًا وتنتظر عودته. تُمني أيامها ولا تضع لنفسها هدفًا في الحياة سوى انتظاره، فهل تكون دنياها رحيمة بما يكفي ليعود لها حبها البعيد الذي يعلم الجميع أنه لن يعود، أم تتخلى عن إيمان بأسطورة الأحبة الذين افترقوا في زمن غابر وانقسموا نصفين، يقضي كل منهما عمره يبحث عن الآخر.
أسماء
أما "أسماء"، الأخت الأخيرة، فتختار ارتباطًا تقليديا، أسماء التي تحارب اضطهادًا آخر يمارسه الجهل/العادات، فزوجة المؤذن ترفض مشاركة "ميا" الطعام بعد ولادتها طفلتها الأولى؛ تصر زوجة المؤذن أن "ميا" نفساء، والدين لا يسمح بتناول الطعام مع المرأة غير الطاهرة.
تُصر أسماء، في سرها، على مغالطة الاتهام ولا تهدأ حتى تجد نص الحديث؛ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة ناوليني الثوب، قالت إني حائضة، قال إن حيضتك ليست في يدك". صاحت أسماء: كنت متأكدة.. كنت متأكدة، وأخذت تردد الحديث حتى حفظته".
رجال مقهورون.. أيضا
نعود إلى عبد الله، الذي يعاني من قهر يمارسه عليه أبوه، ومن قلة اهتمام وسخرية لم يجد لها ملجأ إلا عند الأمة "ظريفة"، التي احتوت مشاكل شبابه وانهياراته واستمعت لطول شكاواه فكانت له ظل الأم على الأرض، ورفضت الهروب مع زوجها بعد صدور قانون تحرير العبيد.
تبدو شخصية عبد الله في الرواية نموذج لإحدى صور القهر الذي تتعدد وتتباين في حياة مجتمع الرواية، فحتى وإن عانت النساء على طول النص من قهر المجتمع الذكوري الحاكم والممسك بتقاليد الأمور، وعانى العبيد من قسوة الأسياد وتصرفهم في مصائرهم، يظل عبد الله مقهورًا فقط باعتباره إنسانًا.
تتخبط كلماته وأفكاره في الفصول المحكية بصوته ولا تستقر على شكوى بعينها، فنراه يسترجع ذكريات اضطهاد أبيه له، ثم يشتكي ولعه بـ "ميا" في الجملة التالية، وشكواه من كونها لا تبادله حبًا بحب، ثم يعود ليتذكّر مشاكل عمله الذي يفرض عليه تعلّم اللغة الانجليزية فيبدأ في تجريب عدة جُمل إنجليزية بصوت عال؛ "قلت له "يا أبي أريد ريالًا.."، فضحك. "ريال كامل لجربوع مثلك". كتبت اسمها على جذع النخلة. ميا ميا ميا. كان أجمل اسم في العالم. أريد شايًا. نعم تي. مور تي بليز. لماذا يطن رأسي؟ هرب حبيب. قالت ظريفة إنه يهذي كثيرًا".
كائنات ضعيفة
تحكي جوخة في مجمل الرواية عن القهر بصنوفه المتعددة، قهر المرأة والرجل وقهر العبيد رجالًا ونساء، القهر الذي جعل جد الأمة ظريفة يمنح ابنته اسم "عنكبوتة"، بعد أن حُرّم عليه استخدام أسماء السادة في تسميتها، فما وجد اختيارًا أفضل.
القهر الذي جعل سنجر ابن الأمَة ظريفة يفرّ خارج البلاد بحثًا عن رزق في بلاد لا يراه فيها الناس. عبد ولد أمة، على الرغم من قانون تحريم الرق الصادر منذ زمن بعيد.
يهرب "سنجر" كما والده، هاجرًا ظريفة "نحن أحرار بموحب القانون، أحرار يا ظريفة، افتحي عيونك، الدنيا تغيّرت". أما ظريفة فرفضت الرحيل كونها ما عادت ترى في الرق عيبًا، فقد ارتبطت بولد سيدها كما لو كان ابنها واعتادت خدمتهم.
القاريء.. خصم وحكم
لا يُطلق راوي سيدات القمر أحكامًا مُلزمة للقاريء، ولا يشير بطرف خفي لمَن البريء، ومَن الجلّاد، وإنما القارئ هو الخصم الذي قد يطلق أحكامًا على الشخصيات في فصولها الأولى، وهو أيضًا الحكم الذي تتفتح له نوافذ الحقيقة مع تتوالي الفصول، فتتكشّف له حقيقة أن لكل فعل داع ولكل رد فعل حدث سبّبه، وربما برّره.
تبدو فكرة السعادة بعيدة عن كونها بدائية مثل الحواديت البسيطة، فقد تباينت النهايات ما بين سعيدة وحزينة، بحسب التصنيف المعتاد، فمن حاز السعادة حقًا ومن لفظته وسخرت منه آماله العريضة.. سؤال يستحق أن تكمل الرواية كي تشتبك معه.
عالم ينفتح على العالم
عندما أُعلن عن وصول سيدات القمر للقائمة القصيرة لبوكر مان العالمية، صرّحت جوخة الحارثي لموقع الجائزة بكونها ترى ترشيحها "فرصة رائعة لمشاركة عالمها الداخلي المحلي مع العالم"، ويُمكن القول أن جوخة استطاعت عبر روايتها إطلاع العالم على عالم عُمان وتاريخه الخاص.
انحازت جوخة لمحلّيتها وملأت روايتها بعامية عُمان وتراثها، ولكن لم تترك القارئ في حيرة بين لهجات ربما تكون بعيدة عنه، وإنما اهتمت بتفسير ما ظنته سيستغلق على قارئ عربي من بلاد أخرى في الهوامش، وفي الوقت نفسه، فإن كانت تفسّر أحيانًا معاني الكلمات، فهي لا تشرح أبدًا الغرض من كل جملة، وتترك الأفكار تتداعى بحرية على لسان الشخصيات.
وقد نجحت جوخة في خلق عالم يخصها وحدها، تزينه بحكايات عن العادات والأساطير، وإطلالات على تراث العرب الأدبي، وترجمات كليلة ودمنة، وطوق الحمامة لإمام المذهب الظاهري ابن حزم الأندلسي، ومسند الإمام الربيع بن حبيب، وغيرهم.
الترجمة شريك النجاح
صدرت النسخة الإنجليزية من الرواية العام الماضي 2018، بترجمة مارلين بوث، المترجمة والباحثة في الأدب العربي، والتي صدرت لها عدة ترجمات لروايات عربية من قبل، منها لصوص متقاعدون لحمدي أبو جليل، وأهل الهوى لهدى بركات، وكان من أهم أبحاثها عن الأدب العربي، كتاب أرض الحبايب بعيدة- رحلة نقدية في حياة وأعمال بيرم التونسي، والذي صدر عام 2015 عن الهيئة العامة للكتاب بترجمة سحر توفيق.
تمنح الجائزة في الأصل مناصفة بين الكاتب والمترجم، وعليه فقد فازت مارلين بوث بالجائزة أيضًا مناصفة مع جوخة الحارثي.
من إطلاعنا على النسخة الإنجليزية؛ نرى أن بوث احتفظت بالروح العربية التي رسمتها الحارثي في الرواية، حتى إنها لم تذهب لترجمة الأمثال الشعبية العمانية المذكورة في الرواية بما يقابلها في الثقافة الانجليزية، بل ترجمت محتواها ليصل المعنى للقارئ الغربي تمامًا كما قصدته جوخة ولتطلعه على محتوى التراث الشعبي العماني، وهو في الغالب ما آثار إعجابهم: المحتوى، التاريخ والحكاية.
مناوشات عربية
مستوى الترجمة، دفع البعض للقول أن الترجمة هي السبب في وصول الرواية للجائزة، خاصة وإنها صدرت منذ أعوام، ولم تصل إلى أي من القوائم الخاصة بالجوائز العربية، وحول هذه النقطة تحديدًا، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تساؤلات في الفترة الأخيرة عن أحقية الرواية في الفوز بالجائزة، وعن محتواها، وعن عاديتها أو إبداعها.
ووصل الأمر أحيانًا إلى اتهامات طالت هيئة تحكيم الجائزة بالانحياز لـ"الخليج"، دون تحليل موضوعي لمحتوى الرواية، أو قراءة فنية لها.
بينما دافعت أقلام أخرى عن الكاتبة وروايتها، مؤكدين أن تلك الاتهامات متسرعة، وأن عدم شهرة الأدب العُماني لا يمكن احتسابه كمعيار تقييم لأحقية جوخة في الجائزة، وإنما المحتوى هو الفيصل والحكم.