في السنوات الأخيرة، تنامت بشكل ظاهر في أوساط الطبقات الوسطى الحضرية في مصر حركة غذائية جديدة تدعم نظمًا غذائية صحية ونباتية، بعد عقود من سيطرة الأطعمة المجمدة والوجبات السريعة. ولتطوير حركات غذائية فاعلة كان لازمًا، مثلما حدث في نماذج أخرى حول العالم، أن يحدث تغييرًا في أنماط إنتاج الغذاء نفسها، أي أنماط الزراعة، وأيضًا طبيعة العلاقة الإنتاجية بين صغار الفلاحين والبائعين وصولًا إلى المستهلك، وهو ما لم يحدث في مصر.
هذه الظاهرة التي بدأت تنمو في مصر ليست معزولة عن مساعي الفئات الحضرية في أماكن كثيرة حول العالم لمواجهة النظام الغذائي الرأسمالي المعمم والمرتكز على الأغذية المعلبة والوجبات السريعة، والذي ترجم، لاحقًا، إلى حركة تضامنية بين الفلاحين والمستهلكين تستند على أساس المصالح المشتركة وإعادة تعريف العلاقة بين المنتج والمستهلك وإدماج الفلاحين في الحركة الغذائية الرامية إلى مواجهة النظام الغذائي الرأسمالي ودعم الإنتاج المحلي والدخل العادل للمنتجين الصغار.
في مصر، أسباب هذا التحول - الذي لم يكتمل بعد- معقدة، ولكنها ليست بعيدة عن الخوف من ارتفاع معدلات الوفاة بأمراض الغذاء وانتشار العبء المزدوج للجوع، بالإضافة إلى انتشار مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك الذي يستخدمه نحو 38 مليون مصري، هذه القنوات الإلكترونية الجديدة لعبت دورًا رئيسيًا في إنتاج جيل من الأشخاص الذين يشككون في نمط الغذاء القائم ويروجون لبدائل صحية أكثر.
اتخذ هذا الوعي الغذائي الجديد عدة أشكال؛ حركة الغذاء الصحي وانتشار عدد من قنوات اليوتيوب المروجة لطرق الإعداد الصحي للطعام، وحركة الغذاء البطئ وأسواق المنتجين التي تعقد في مقاهٍ ومطاعم مميزة مثل Slow Downtown الذي يعقد في مطعم عيش وملح بوسط القاهرة، وحركة تناول الطعام العضوي وانتشار سلسلة محلات لبيع المنتجات العضوية بالمناطق الراقية، إضافة إلى سلاسل المزارع الرأسمالية بالتحول لاجتذاب فئة تسويقية متميزة.
وإضافة إلى كل ما سبق هناك أيضًا حركة النباتيين التي تنشط عبر فيسبوك وأيضا البرنامج الجديد الذي يقدمه باسم يوسف في رمضان، وذلك كله على سبيل المثال لا الحصر.
هذا التغير المثير للاهتمام في عادات المستهلكين وضع احتكار الصناعات الغذائية والوجبات الغذائية في حالة تأهب، لتوسيع قواعدها ومنح عروض تسمح للفئات الأدنى من الطبقات الوسطى للدخول في دوائر مستهدفيها كما أنه فتح نقاشًا مجتمعيًا حول طبيعة ومستقبل النظام الغذائي القائم.
لكن يظل سؤالًا هامًا؛ كيف يمكن أن يساعد التغيير في الثقافة الغذائية منتجي الغذاء من الفلاحين، وأين يقع هؤلاء الفلاحين من هذه الحركة الغذائية التي ترتكز على العمليات الاستهلاكية وإعداد الطعام؟
يمثل صغار الفلاحين المنتجين الأساسيين للغذاء في مصر. ومع تنامي مشكلات آثار متبقيات المبيدات والأسمدة، نمت حركة دعم أنماط الزراعة العضوية وإنتاج السماد العضوي واستبدال المبيدات بحلول بيئية ومحلية لمكافحة المبيدات، إلا أن هذه الديناميات ما زالت تسير ببطء، كما أنها معزولة عن الحركة الغذائية الحضرية.
يفرض هذا السؤال نفسه لأن هذه الديناميكيات الاستهلاكية لا ترتبط بالضرورة بالفلاحين الصغار ولا تحاول خلق شبكات تضامنية بين الإنتاج والاستهلاك. ويعد سوق عيش وملح بوسط البلد أو الأسواق العضوية التي تعقد بالمناطق البرجوازية بالقاهرة أدلة على هذا الانفصال، فحتى منتجي الغذاء المنخرطين في هذه الشبكات ليسوا في معظمهم جزءًا من المجتمعات الفلاحية بالآف قرى الوادي والدلتا، وفي الحالات القليلة التي رأيتها يكون الترابط بين مزارعين جدد هم بالأصل حضريين انتقلوا للعمل في الزراعة العضوية وانخرطوا في دوائر الحركة الاستهلاكية الجديدة.
نماذج حول العالم
في فرنسا، تأسست عام 2001 جمعية صيانه الزراعة الفلاحية وهي تنمو وتنشر الآن حول العالم. وصل عدد الجمعيات إلى أكثر من 1600 جمعية تنخرط بها نحو 66 ألف أسرة وحوالي 270 ألف مستهلك. ويطرح نموذج جمعيات صيانة الزراعة الفلاحي إمكانات نمو حركة غذائية داعمة للزراعة الفلاحي.
تهدف هذه الجمعيات إلى الحفاظ على الزراعة المحلية وتوليد شكل من أشكال التضامن بين الحضر والريف. وهي وسيلة لتسويق المنتجات الغذائية (الفواكه والخضروات بشكل أساسي) بناءً على مبدأ التعاون بين المنتجين والمستهلكين. يلتزم المستهلكون مقدمًا باستهلاك سلة من الخضروات أسبوعيًا لمدة 6 أشهر على الأقل.
تولد هذه الجمعيات عادة في اجتماع للمستهلكين والفلاحين الذين يبدون استعدادًا لدخول هذه العملية، يضع هؤلاء فيما بينهم عقدًا واحدًا لتنظيم طريقة الحصول على سلة الخضر والفاكهة التي سيتم الاتفاق عليها، ويتفق كذلك على يوم التسليم وحجم سلة الغذاء وأيضا مكان التسليم.
لا يقتصر الأمر على ذلك فقط، فالاتفاق يتضمن أيضًا على الأساليب الزراعية التي يجب استخدامها ويتم عادة توضيح شروط للإنتاج العضوي والتخلي عن المبيدات واستبدال الأسمدة الكيمائية بالأسمدة العضوية.
يكون نتاج هذا التفاهم، الحصول على الأطعمة الصحية التي يتم إنتاجها مع احترام الفلاحين والتنوع البيولوجي وإيقاع الطبيعة. أيضا يتم تحديد سعر السلة بطريقة منصفة، فهو يسمح للمزارع بتغطية تكاليف الإنتاج والحصول على دخل لائق، بينما يكون المستهلك في متناول الجميع.
هذه الشراكة الوثيقة بين المزارعين والمستهلكين تعزز الحوار الاجتماعي بين المدينة والريف، وتدمج الفلاحين في الحركة الغذائية وتوسع من آثارها الاجتماعية والبيئية.
أين نجد الحلقة المفقودة؟
في مقال مهم نشرته صحيفة الشروق المصرية، يناقش نبيل الهادي أهمية الجزر النيلية كرئات لمدينة القاهرة التي تعاني من مشكلات تلوث الهواء وضآلة المساحات الخضراء؛ بحكم طبيعتها الاستثنائية كبؤر زراعية قائمة على الزراعة الفلاحية في قلب العاصمة، يمكن لجزر النيل الموجودة بالقاهرة أن تكون نواة لهذا الشكل من الشراكات التي تربط بين المستهلكين الحضريين والمنتجين الزراعيين وتأسيس أول جمعية لصيانة الزراعة الفلاحية في مصر، ومنها تنطلق إلى التخوم المحيطة بالعاصمة وربما لكافة مناطق البلاد كوسيلة لدعم التحول الايكولوجي والزراعة الفلاحية في الوقت نفسه، عبر نسج شراكات جديدة بين المستهلكين والمنتجين في ظل غياب سياسات زراعية أو غذائية داعمة لهذا التحول المأمول.
يمكن تأسيس هذه الجمعيات عبر أطر غير رسمية، من خلال اتفاقات مباشرة بين مجموعة من السكان الحضريين والفلاحين. لكن يمكن أيضًا أن تتخذ هذه الشراكات شكلًا من أشكال الزراعة التعاقدية والتي تعرف بأنها اتفاق بين مزارعين من جهة ومؤسسات أو شركات محلية أو تعاونيات استهلاكية من جهة أخرى بهدف توريد منتجات زراعية بموجب اتفاق مسبق بين الطرفين، خاصة وأن الدولة ترعى الزراعة التعاقدية.
نص القرار الجمهوري الذي حمل رقم 14 لسنة 2015، على إنشاء مركز الزراعات التعاقدية لتطوير هذا التوجه. رغم أن هدف الدولة من الزراعة التعاقدية هو دعم الزراعة التصديرية، إلا أنه يمكن استخدام هذه المظلة القانونية لتنظيم العلاقة بين المستهلكين الحضريين والفلاحين، كما أن هناك مبادرة محلية لدعم التعاونيات يمكن أن تلعب دورًا أساسيًا في تطوير هذه الأشكال من الشراكات.