ثمة شيء في الصوت الغليظ يغرينا في مصر بتصنيفه دائمًا صوتًا شعبيًا، لعله إيحاء بأن صاحب هذا الصوت بائع خضار ينادي على بضاعته، أو تَبَّاع لا يتوقف عن الإعلان عن وجهة ميكروباصه، أو مجرد أب ينادي أهل بيته من الشارع ليقذفوا إليه شيئًا من البلكونة، والنتيجة الحتمية لرفع الصوت باستمرار في هذه الأمثلة هي غِلَظُ الصوت، كصوت محمود الجندي.
هذا الأخير، الذي رحل عن عالمنا قبل نحو أسبوعين، تستطيع أن تستمتع بصوته الغليظ المدوزن في فواصل المواويل القصيرة التي غناها خلال عروضه المسرحية ومسلسلاته، بصوت أقرب في خامته إلى صوت الراحل الآخر، حسن الأسمر.
دخل محمود الجندي الفن من بوابة التمثيل بعد أن تخرج من المعهد العالي للسينما. وقد تراوحت مقاطعه الغنائية المذكورة بين خدمة الدور من ناحية –حيث تكون منسوجة ضمن البناء الدرامي للعمل- والاستطرادات التي لو تم حذفها لن تؤثر كثيرًا أو قليلًا على سياق الدراما من ناحية أخرى.
والملاحظة التي لا تكاد تُفلِتنا هي مجيء أغلب ما نتذكره من تلك المقاطع المسرحية ضمن النوع الثاني، الاستطرادات، على العكس من مقاطعه الغنائية في ثنايا الدراما التلفزيونية مثلًا، حيث كانَت أكثر إخلاصا للنسيج الكلي للعمل.
وفي تقديري أن مرد ذلك إلى أن السينما والتلفزيون -بطبيعة إخراج أعمالهما الدرامية التي تتطلب حضورًا كثيفًا للمخرج وإعادة للمشاهد مرات عدة حتى تنضبط وفقًا لرؤيته– لا يسمحان بقدر كبير من الاستطراد والخروج عن النص، بخلاف المسرح الذي ينتهي فيه دور المخرج وهيئته قبل العرض الفعلي، فيكون الممثل أكثر قابلية للخضوع لإغراء التفاعل المباشر مع الجمهور، وقدح زناد قريحته في محاولة لتعظيم بصمته في المسرحية.
كذلك نجد في حقيقة الاحتكاك المباشر بين الممثل والجمهور في المسرح صدى لطبيعة اختيارات الجندي الغنائية التي تندرج بالكلية في اللون الشعبي، فهو الأقرب إلى تحريك مشاعر الجمهور دون مشقة التأمل المتأني.
نجد مثل تلك المقاطع الموظفة لخدمة الدراما مثَلاً في أغنيته المشمشية عسل في مسلسل أبو العلا البشري، حيث يجسد دور عمرو صديق محسن المطرب الشاب، ويزوره في الملهى الليلي الذي يعمل فيه ويغني هذه الأغنية على النسق الشعبي، ملتزمًا في بدايتها بالموال الذي يتغنى بقوة الزمن وضعف البشر رغم ما يبدو من تماسكهم.
ثم تمضي الأغنية العابثة "المشمشية عسل.. والأماظية عسل.. وأنا بابيع الهنا.. رايق وشارب عسل" في مقام الراست -نفس مقام الموال- كأنها تحاول أن تمحو خطوات الموال وتسوق النسيان إلى الحاضرين.
ثم يشفعها بموال يهاجم فيه رجلًا طفيليًا نصابًا يظهر بين الحاضرين.
كذلك قرب نهاية الحلقة قبل الأخيرة من مسلسل في المشمش، يشارك فردوس عبد الحميد في أغنية النسخة البلدي في موقف شديد التعقيد وهما موثقان في فيلا مهجورة للضغط عليهما كي يتراجعا عن موقفهما من قضية فساد كبيرة.
هنا انطلق صوتان عفيان في كلماتٍ تتغنى بجمال الوطن وفرادته، في لحن على مقام العجم، فأكسبا الموقف بعدًا ملحميًّا رائعًا لا يكاد الجمهور المصريُّ ينساه.
بشكل شخصي أحب تمثيل محمود الجندي الذي تناولته مقالات عديدة بالتحليل بعد وفاته، كما أحب صوته ويطربني في مواويله. وأعتقد أنه كان واعدًا بذلك الفنان الشامل الذي أزعم أن الكلمة الإنجليزية Entertainer تعبر عن طبيعة ما يقدمه بصدق، فهو يتنقل بنا من التمثيل إلى الغناء وربما غيرها من فنون الأداء في سلاسة تجعله عن حق مسليًا تمامًا، بمعنى أنه يأخذ بأيدينا بعيدًا عن ضغط الواقع اليومي إلى حيث نسلوه بالكامل أو نكاد، وهو المطلوب الأول من الفن.
وفي رأيي أن هذا التنوع في الموهبة كان يمكن أن يثمر أكثر مما أثمره بالفعل، لولا ما أخمّن أنه شعر به من ضيق بالقوالب الموسيقية الآلية التي ربما يكون قد أحس بأنها تسجن صوته المنطلق في إيقاعاتها وتطلبها التزام المطرب بطبقة ألحانها الأصلية.
ندرك هذا على الفور حين نقارن بين اتزان صوته في مواويله في مسرحيات البرنسيسة وإنها حقًا عائلة محترمة وعلشان خاطر عيونك، ودويتو النسخة البلدي من مسلسل أنا وإنت وبابا في المشمش من ناحية، وتلك النشازات القليلة التي شابت أداءه حين غنى على خلفية موسيقية آلية وإيقاع منضبط كما في أغنية المشمشية عسل.
ذلك الانضباط الطبيعي الذي يبرز في أداء الجندي للمواويل يختل مع الخلفية الآلية، مثلًا حين يضطر إلى النزول إلى القرارات المنخفضة. في تقديري أن هذا يرجِع جزئيا على الأقل إلى أن الموال بطبيعته أقرب إلى التحرر من الضبط الإيقاعي والالتزام النغمي، فكأنه أد ليب Ad Lib عريض لا تحده آلات الإيقاع والنغم.
لذا، كان الجندي على حريته أكثر مع الموال، يتبع إيقاعه الخاص ويتراقص صوته صاعدًا هابطًا كما يشاء.
فنان فقير
يمكننا أن نرجع إلى الألبوم الغنائي الوحيد فنان فقير الذي قدمه خلال مسيرته الفنية عام 1990، لنتأكد من مزاعمنا بخصوص تفضيله الموال على الأغنية الرسمية المضبوطة الإيقاع المحدودة بالخلفية الآلية.
في هذا الألبوم اعتمد الجندي كليًا على شعر فؤاد حداد وألحان محمد الشيخ. لا أدري إن كان الاختيار اختياره أم لا، وإن كنت أرجح ذلك، اعتمادًا على انحيازه للموال الشعبي في مسرحياته. وما لا شك فيه أن شعر حداد بتلخيصه الروح الشعبية المصرية –حتى في تفاصحه العَرَضي الذي يميزه– يعد مناسبًا تمامًا لهذا الاختيار.
ففي أغنية البني آدم مثلًا، مقدمة الكلمات عبارة عن نكتة يلقيها الجندي على خلفية الموسيقى، بالضبط كما لو كان في فرح شعبي، لينتقل منها إلى قصيدة إبليس غرمان من ديوانه رقص ومغنى، التي يسخر فيها من حماقة النوع الإنساني بكلمات بسيطة على غرار "عايز يرجع صبي تلميذ.. يمشي يهزر مع مزاميز.. يلبس شجري ويركب مجري.. عقله الحجري غوى التقميز".
حاول الملحن محمد الشيخ أن يواكب الجو الشعبي المهيمن على كلمات حداد وأن يوفر للجندي بيئة التطريب بسماتها الشعبية التي يحب، فقدم في أغنية البني آدم مثلًا، لحنًا يروح ويجيء بين المقامات والإيقاعات ليكرس هذه الحالة من التطريب.
https://www.youtube.com/embed/1XikY-9m9U4أما في أغنية فنان فقير التي تحمل عنوان الألبوم فيقول "صحتني ليه يا شاويش يا شاويش؟ دانا كنت سارح في الملكوت.. لما بانام باحلم وباعيش.. لما بافوق ما بافُقش باموت" ضمن قصيدة تكرس الصورة التي أحبها الجندي للفنان الذي ينتمي إلى جموع الناس لا يفرقه عنهم شيء.
كذلك في فنان فقير وضع الشيخ لحنه في مقام الهزام، ناطقًا بلوعة الفنان وشظف عيشه، مع تعريج بسيط على مقام الصبا في "صحتني ليه يا شاويش يا شاويش؟ دانا كنت سارح في الملكوت.. لما بانام باحلم وباعيش.. لما بافوق ما بافُقش باموت"، وكل هذا على إيقاع متراوح بين المقسوم والمصمودي الراقصين رغم مرارة الكلمات، وهو ما يدفع الأغنية دفعًا إلى وجهة الأغنية الشعبية المصرية الحزينة التي لا نبالغ إذا قلنا إن من تقاليدِها أن ترسم صورة الذبيح الذي يرقص من الألم.
قال محمود الجندي ذات مرة إنه لم يحب استكمال تجربة الغناء بعد ألبومه هذا. في تقديري أنه كان على وعي بهذا القيد الذي فرضه الشكل الموسيقي الآلي على صوته، وأنه أحس أنه عصفور طليق لا يطيق قفص اللحن الرسمي، وأنه ينتمي بالتالي إلى هواء الموال الحر. وربما كان الأمر يحتاج المزيد من التدريب والتأني ليخرج الألبوم بشكل أكثر احترافية.
يبدو أن محمود الجندي لم يبخل علينا بما اِعتقَد أنه كل ما في جعبة مواهبه، وإن كنت أعتقد أنه كان يمتلك أكثر، وكان ينتظر فقط مزيدًا من الصقل والصبر، ليصبح موجودًا بالفعل!