كان المشهد الغنائي المصري في بداية السبعينات منقسمًا كضفتي نهر، الطرب التقليدي القديم يقضي أيامه الأخيرة في المشهد الغنائي على جانب، وعلى الجانب الآخر وبعيدًا عن القنوات الرسمية للدولة كانت تتشكل حياة فنية مختلفة على يد جيل جديد يحاول التمرد على الشكل التقليدي للأغنية.
بدأت أمارات التمرد على يد الراحل محمد نوح الذي أسس فرقة النهار التي تعتبر أول فرقة غنائية عربية تنتهج الشكل الجديد للأغنية والذي عُرف لاحقًا باسم الأغنية البديلة. نجاح الفرقة مهد الطريق لظهور فرق أخرى تغني باللهجة المصرية مثل الفور إم والجيتس وطيبة.
احتفظت كل فرقة بأسلوبها الموسيقي الخاص، وإن نجحوا جميعًا في إعادة تشكيل الثقافه السمعية للجمهور الذي كان يلتقط أنفاسه بعد سنوات الحروب في ظل مجتمع انفتاحي كان يستورد في كل لحظة ثقافة جديدة.
ولكن يظل الأثر الأكبر محفوظًا لفرقتين، هما المصريين التي أسسها الموسيقار هاني شنودة والأصدقاء التي أطلقها الموسيقار عمار الشريعي، وإن اختلفت طبيعة كل أثر تركته كل فرقة من الفرقتين.
انطلقت رحلة كل فرقة من معين مختلف تمامًا عن الأخر، فرقة المصريين كانت تدشن حركة موسيقية جديدة استمدت أصولها من الغرب وحاولت كسر جمود الأغنية الكلاسيكية التقليدية والثورة عليها، أما الأصدقاء فكانت بمثابة حائط صد لحماية الموسيقى الشرقية التقليدية بتجديدها بدلًا من الثورة عليها.
"المصريين".. ومشروع التمرد
يروي هاني شنودة في حوار تلفزيوني كيف أن لعب عبد الحليم حافظ والأديب الكبير نجيب محفوظ أدوارًا في تأسيس فرقة المصريين.
أغرت نجاحات فرقة ليه بتي شاه التي كانت تعيد تقديم الأغنيات الغربية للجمهور المصري؛ عبد الحليم بإعادة توزيع بعض أغنياته من جديد، فجلس مع شنودة عازف الكي بورد الرئيسي في الفرقة، وبدأ التعاون، الذي قرر خلاله شنودة تكوين فرقة أحيت حفلًا لعبد الحليم حافظ في نادي الجزيرة، وهو الحفل الذى ظل مجهولًا فترة طويلة إلى أن أفرج عنه منذ فترة قريبة على يويتوب.
بحسب شنودة؛ لم يخرج الحفل بالشكل الذي كان يتمناه، خصوصًا أن عبد الحليم خشي من إغضاب الفرقة الماسية فأصر على الاستعانة ببعض عازفيها بجانب شنودة وأصدقائه، ومن هنا لمعت في ذهن شنودة فكرة إطلاق فرقته الخاصة.
زوبعة في فنجان
في نفس الوقت وبينما كان الأديب نجيب محفوظ يجري حوارًا مع هاني شنودة بصفته المتحدث الرسمي لفرقة ليه بتي شاه، هاجم ما تقدمه الفرقة واصفًا التجربة كلها بأنها "مجرد زوبعة في فنجان". أثار ذلك حفيظة شنودة الذي رأى أنه لولا أهمية ما يقدمه لما كان جالسًا مع محفوظ من الأساس.
أثناء الحوار، عرض محفوظ فكرة تقديم أغنيات عربية فجاء رد شنودة صاعقًا بأنه يكره المقدمات الموسيقية الطويلة والتى توازي خمس أغنيات من أغانيهم الخاصة، بالإضافة إلى المحتوي الهجين المتخبط للأغنية العربية والتحولات في الإيقاعات الموسيقية دون رابط، ليقترح عليه محفوظ ألا يستبدل شهوة العمل بالكلام، وأنه إذا كان يرى أخطاءً في الأغنية العربية فليصنع أغنية جديدة بالشكل الصحيح.
خرج شنودة من الحوار ومعه فكرة إنشاء فرقة تقدم محتوى موسيقي غربي لكن بكلمات عربية .
https://www.youtube.com/embed/10HpfCIg5So?controls=0أفكار شنودة المتمردة جعلته يتجه لشعراء كان يري في أشعارهم مفاهيم جديدة ومفردات طازجة لم تدخل قاموس الأغنية العريبة وتماست مع تمرد الموسيقي، بدأ بالتعاون مع الشاعر شوقي حجاب ثم تعرف بعد ذلك على عبد الرحيم منصور والذى كان يريد أن يخطو بكلماته لمرحلة جديدة بعيدًا عن موسيقي بليغ حمدي، فصنعا سويًا أغنيات لنجاة، المحسوبة على الغناء الكلاسيكي، ولكن بشكل جديد، لاقي ذلك رواجًا لدى المستمع سرعان، ما بدأ في التعاون مع صلاح جاهين الذي كان بمثابة الأب الروحي للتجربة ككل، حتى تبلورت الفكرة وأنشأت الفرقة في أواخر عام 1977.
الأصدقاء.. التمرد المحسوب
يعتبر عمار امتدادًا للمدرسة الكلاسيكية في الموسيقى، زامل الجيل القديم كملحن واشتهر أكثر كعازف للأوكورديون في بعض الفرق، ولكن سرعان ما هجره لاّلة العود الّالة الشرقية الرصينة التي صارت أكثر الاّلات قربًا إلى قلبه فيما بعد.
https://www.youtube.com/embed/jaZvlwbX9CQ?controls=0 يحسب لعمار المحسوب على الجيل القديم أنه جنّب رأيه الشخصي فيما تقدمه الفرق الغنائية التي تقدم محتوى غربيًا لا يتسق مع أفكاره، وقرر أن يواجهها بإنشاء فرقة تقف كحائط صد لتلك الفرق وقرر أن يخوض مغامرة التنافس معهم وإثبات أنه قادر أن يقدم أغنيات بنفس الروح العصرية ولكن تحافظ على أصالة الغناء وتكون امتدادًا للتجارب الكلاسيكية ولكن بمفهوم العصر.
بحث عمار عن أصوات كثيرة لكي يقدمها من خلال الفرقة لكن لم يفلح في إقناع أحد، ويبدو أنه كان يبحث في المكان الخطأ، فقرر الذهاب إلى معهد الموسيقي العربية عله يجد ضالته هناك، حيث التقى بعلاء عبد الخالق فاختاره ليبدأ معه رحلة إنشاء الفرقة، ثم قرر إسناد مهمة ترشيح بقية أعضاء الفرقة له، فقدم له علاء فتاتين تدرسان معه في المعهد هما منى عبد الغني وحنان.
خلفية عمار الموسيقية المحافظة بعض الشيء أثرت على اختياراته للأغاني، فالأشعار التي صاغها سيد حجاب وعمر بطيشة لم تكن أفكارها تحمل شيئًا من التمرد ولم تقترب من الشباب بشكل كبير، بل كانت موجهة أكثر للأسرة ككل، فغلب عليها الطابع الاجتماعي المحافظ، ورصدت بشكل خجول التطورات الحاصلة في المجتمع المصري بعد الانفتاح، مثل أغنيتي الموضات ومطلوب موظف.
يمكن وصف عمار بأنه رمز التجديد المحافظ وامتداد حركات موسيقية تقليدية سابقة، وإن كان يمارس تمرده ولكن بحساب، فاستطاع أن يحافظ على هوية موسيقاه الشرقية وقدمها فى شكل جديد معاصر وبتكنولوجيا كان أول من يهتم بأقتنائها فى مصر .
"المصريين".. وتحطيم الأصنام
على الرغم من الهجوم الحاد من الجيل القديم على تلك الموجة الجديدة من الغناء، إلا أن تأثيرها الإيجابي على الأغنية لا يمكن إنكاره، أهم تلك التأثيرات تنوع المضامين الشعرية في الأغاني، فالأغنية المصرية ظلت عقودًا طويلة لم تتحرك خارج إطار الأغنية العاطفية، ولكن هذه الموجة الجديدة استطاعت تحريرها من قوالبها التقليدية وبدأت تنطلق إلى آفاق أبعد وأعمق مما كان.
تظل تجربة المصريين إحدى التجارب التي خرجت بالأغنية من فخ الأغنية العاطفية، حتى عندما تناولت أمورًا عاطفية، فقد جاء التناول مختلفًا تمامًا وخرج بعدة أفكار أكثر عمقا تسير جنبًا إلى جانب العاطفة.
تعتبر لما كان البحر أزرق درة أغنيات فرقة المصريين حيث أثبتت من خلالها أن الأغاني العاطفية يمكن لها أن تخرج بعدة أفكار أخرى أكثر عمقًا وأكثر تركيبًا.
الأمر هنا يتجاوز الفكرة البسيطة عن فراق حبيبين، بل يفتح بابًا كبيرًا لمواضيع كإيجاد الهوية المفقودة تحت ظل الآخر والبحث عن الذات وتكوين الخبرات الشخصية الذاتية، حوار داخل فتاة تحكي أسباب تركها لحبيبها بحثًا عن هويتها المفقودة معه، رافضة أن تكون ظلًا باهتًا تسير خلفه في فكرة شديدة الصعوبة والصياغة الشعرية لم يطرقها الغناء الأنثوي من قبل بسرد شعري حطم الشكل التقليدي للأغاني بتناول عميق يتحدى الأفكار والاستنتاجات المعدة سلفًا، وأنه لا شيء بديهي ولا مسلم به، وأن الخبرات المعلبة المنقولة للآخر تظل كلامًا مرسلًا لا معنى له طالما لم تكوّن تجربتك الذاتية الشخصية.
https://w.soundcloud.com/player/?url=https%3A//api.soundcloud.com/tracks/78349899&color=%23ff5500&auto_play=false&hide_related=false&show_comments=true&show_user=true&show_reposts=false&show_teaser=trueأما لو بحثنا عن أكثر الأغنيات التي تعبر عن الفرقة فلن نجد أفضل من هزني، فهي تشبه ما فعلته هذه الفرقة من هزة في عالم الأغنية المصرية.
فكرة الأغنية صدامية جدًا تتحدث عن جيل يبحث عن ذاته ويريد التعبير عن نفسه جيل يرفض أن يكون تابع لأجيال أخرى تمارس رقابة متزمتة على مشاعره وأفكاره.
الأغنية التي تقف في أقصى جوانب التمرد الفني على الإطلاق، تحمل أفكارًا تقدمية لم يجرؤ أحد على غنائها من قبل، تتحدث بصدق عن الجيل الجديد الذى يحاول الخروج من الشرنقة المظلمة من العادات والتقاليد البالية دون شعارات حنجورية طنانة.
أغنية تفضح المجتمعات المنغلقة التي تولد أجيالًا مشوهة فكريًا ونفسيًا، تأتي كصرخة قوية ضد الكبت والقمع اللذين ينتجان في النهاية تطرفًا فكريًا.
الأصدقاء.. وإرشادات كتاب الوزارة للغناء
على العكس تمامًا من المصريين أثرت خلفية عمار الشريعي المحافظة بشكل كبير على المواضيع التي تناولتها فرقة الأصدقاء، كانت أقل جرأة في التناول الذي جاء أغلبه تقليديًا دون تجديد، وركزت على مغازلة الطبقة المحافظة التي ترى أن المجتمع بدأ ينسلخ تدريجيا عن هويته الأصلية دون أن تتصادم مع فئة فيه، بل وتناولت بعض المواضيع الإجتماعية متبنية وجهة النظر شبه رسمية كما في أغنيتي الانضباط وعندي صاحب.
في السبعينيات كانت الهجرة الخارجية على أشدها، وظهرت عدة تجارب غنائية توثق تلك الحقبة بأغنيات تتمحور حول فكرة الحنين إلى الوطن وآلام الغربة بعضها كانت تجارب شخصية عاشها صناعها .
في أغنية الحدود والتي تعتبر أشهر أغنية للفرقة على الإطلاق، جاءت كلماتها بنفس الصورة النمطية للوطن الجميل اللطيف بنفس الكليشيهات التقليدية من نيل وشوارع وحارات في اهتمام واضح بالمكان على حساب البشر الذين اضطرتهم ظروف الوطن لتركه، دون أي تناول جدي لأسباب هذا الترك، بل صياغة مباشرة جدًا تشبه الأغاني التي تغني في الأحتفالات الرسمية التي تقيمها الدولة في أي مناسبة وطنية، لم تتصادم الأغنية مع الوطن بقدر ما احتفت به كقيمة مطلقة مع بعض المبالغة، لتعطي انطباعًا عن تجربة فرقة لا تريد صدامًا مع الرقابة.
أما ثاني أشهر أغنيات الفرقة، وهي أغنية الموضات، فتسخر بشكل اجتماعي يغلب عليه طابع الحنين إلى الماضي والترحم عليه، من الفن إلى الشارع إلى أساليب التعامل الحياتي "الإتيكيت" والملبس وقصات الشعر "المنفوش فوق الودنين"، الأغنية تقف ضد كل ما هو جديد بحجة أنه ردة عما سبق ولم تستوعب كلمات الأغنية التطور السريع الحادث في العالم كله، بل تشعر أنها خارجة على لسان رجل كهل يبكي الماضي ويترحم عليه، لا على لسان شباب المفترض انهم أول من يجب أن يحب هذه الموضة، دون أن يفوت الشاعر عمر بطيشة السخرية من موجة الغناء الجديدة كذلك.
الغناء الجماعي وأزمة الإستمرارية
تظل "المصريين" كأنجح الفرق الغنائية المصرية وأكثرها استمرارًا، فعلى مدار 11 سنة أصدرت الفرقة ستة ألبومات غنائية بدءًا من بحبك لا عام 1977 انتهاءً بحظ العدالة"1988. حافظت الفرقة على استقرارها طيلة تلك السنوات فلم تتأثر بانفصال أي من أعضائها بداية من محمد جوهر والذي غنى أول أغنياتهم بحبك لا ثم رحل سريعًا ليصنع تجربته الخاصة تحت اسم عمر فتحي، ثم إيمان يونس التي بدأت مع الفرقة ثم رحلت في آخر ألبومين لتستكمل مشوارها الأكاديمي، وتحل محلها المطربة منى عزيز.
لكن يظل السبب الحقيقي لبقاء المصريين نابعًا من أفكارها الغنائية الجديدة وموسيقاها المختلفة المتمردة، ويحسب ذلك لشخصين صاغا فلسفة الفرقة هما صلاح جاهين الأب الروحي، والذي رسم لها الطريق الذي سارت عليه بمواضيع ومفردات حررت الأغنية المصرية من مفرداتها الكلاسيكية، وصنع لهم أشهر أغنياتهم حتى الأن. الشخص الثاني الذي يحسب له نجاح فرقة المصريين هو هاني شنودة الذي قرر خوض مغامرة موسيقية مختلفة عن السائد واستطاع التعبير عن نفسه جيدًا غير عابئ بأي هجوم. حرر شنودة الأغنية من مقدماتها الطويلة وكان أول من يصنع أغنية بخلفيات هارمونية غير مستنسخة من اللحن الاصلي وصار صوت "كي بورده" بصمة مميزة لا تخطئها الأذن، بل إن موسيقاه أصبحت العلامة المميزة لفترة الثمانينات.
على العكس من المصريين لم يدم بقاء الأصدقاء طويلًا وانحصرت التجربة في ثلاثة ألبومات فقط. يمكن اعتبار الفرقة هي مشروع عمار الشريعي الهامشي الذي كان يبحث عن دور أكبر وأهم في التأليف الموسيقي بعيدًا عن قيود الأغنية، فلم يعطِ اهتمامًا لتجديد دماء الفرقة بعد رفض حنان السفر وانشغال منى عبد الغني بمشروع زواجها، فانحلت الفرقة سريعًا رغم العروض الكثيرة التي تلقتها الفرقة لإقامة حفلات خارج مصر.
ظل الغناء العربي يسير تحت سطوة المغني الفرد، حتي ظهرت الفرق الغنائية واستطاعت انتزاع اعتراف رسمي بنجاح العمل الجماعي، لكنه لم يكن نجاحًا طويلًا فتفككت معظمها وخرج أعضاؤها ليصنع كل منهم تجربته الخاصة.