ربما يرى البعض أن لجزيرة الوراق موقع فريد وسط نيل القاهرة، ومن الممكن للدولة تطويرها، وبيعها للمستثمرين والمطورين العقارين، ولكن المشكلة -من وجة نظرهم- تكمن في وجود أهالي على الجزيرة من طبقة تتعارض مع الطبقة المستهدف جذبها للجزيرة بعد التطوير، ومن ثم يجب إخلاء الجزيرة من سكانها الأصليين.
هكذا ينظرون للجزيرة، باعتبارها سلعة ثمينة من الممكن أن تدر مليارات.
لكن أهالي الجزيرة ينظرون إلى أراضيهم ومساكنهم بشوارعها غير المنظمة، وحواريها الضيقة، ومبانيها البسيطة باعتبارها وطنًا وتاريخًا وذكريات، وجميعها أشياء غير قابلة للتسليع، فضلًا عن شعورهم بالغبن والظلم من التفكير في إمكانية إهدار حقهم بالتواجد والاستمرار على أراضيهم، وشعورهم بالمرارة من إمكانية إجبارهم على تركها وإخلائها.
وهناك من يرى -شأن أمثالي- أنه ليس هناك ما يمنع الدولة من تطوير الجزيرة واستثمارها دون أن يتأثر الأهالي سلبيًا بما تخطط له الدولة، بأن يشملهم التطوير، فيصبحون جزءًا من هذه المخططات، بعد عرضها عليهم، ومناقشتها معهم.
فالأهالي ليسوا هم العقبة، ولكن العقبة في من يتبنى فكرة إخلاء الجزيرة من سكانها الأصليين قسرًا، سواء تم ذلك بقرارات حكومية لنزع الملكية، أو ستار مزيف للرضائية عبر إجبارهم على البيع من خلال عدد من الممارسات الممنهجة التي تدفع السكان لهذه النتيجة.
وأعتقد أن على الدولة إن كانت لا تسعى لإخلاء الجزيرة من سكانها الأصليين أن تبني جسور ثقة حقيقة معهم، ويجب ألا يختلف خطاب الدولة الإعلامي (لن يضار سكان الجزيرة من التطوير)، عن خطابها مع الأهالي في الغرف المغلقة، وعما تمارسه وتطبقه من سياسات وإجراءات في أرض الواقع وعلى مسطح الجزيرة.
ربما نجح أهالي الوراق خلال العامين الماضيين في لفت إنتباه الرأى العام لمعاناتهم، وعدالة قضيتهم، وقد لعب شباب وشيوخ الجزيرة ( نساء ورجال) دور كبير لتحقيق هذه النتيجة.
لكنني أكتب اليوم عن رفاق مهنتي، عن المحاماة في أروع صورها، عن جنود مجهولين يخوضون معركة كبرى دفاعًا عن أهلهم، وعن حقوقهم وحقوق أبنائهم، في عدم التعدي على أراضيهم أو مساكنهم، عن محامي جزيرة الوراق الذين أكدوا في كل مرافعاتهم وأوراقهم القضائية أنهم ليسوا ضد التطوير، وليسوا ضد أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، وأنهم يقدروا القوات المسلحة ودورها، لكنهم في كل القضايا التي خاضوها يدافعون عن حقوقهم الدستورية وحقوق أهالي الجزيرة في العيش الكريم، وفي الأمان الاجتماعي والاستقرار الأسري، وضد ممارسات وسياسات التهجير القسري التي تُمارس ضد الأهالي لإجبارهم على ترك الجزيرة وبيع أراضيهم ومنازلهم.
لم يقف محامو الجزيرة دفاعًا عنها في هذه الأحداث الأخيرة وفقط، بل هم الذين دافعوا عنها أيضا في 2001 وحصلوا على حكم ضد قرار سابق لرئيس الوزراء حينها الدكتور عاطف عبيد، بتقرير الجزيرة للمنفعة العامة. واستمروا حتى اليوم في إتخاذ كل الإجراءات القانونية الممكنة للدفاع عن الأهالي الذين قبض عليهم بسبب الاحتجاجات، مرورًا برفع دعوى تطالب بإنشاء محطة صرف صحي بالجزيرة، أو دعاوى إنشاء تفريعة (طالعة ونازلة) تربط الجزيرة بالطريق الدائري حتى يمكن الوصول للجزيرة من خلال طريق بري، وليس من خلال معديات النيل العتيقة كما هو حالها حتى الآن، انتهاءً بالطعن على قرار إنشاء مجتمع عمراني على مسطح الجزيرة، وكذلك الطعن على ما صاحب القرار الأخير من قرارات استيلاء ونزع ملكية.
وقد قدم محامو الجزيرة -وجميعهم من أبنائها وسكانها- خلال كل تلك القضايا مرافعات كبرى، وأداءً مهنيًا رفيعًا، حتى تم حجز قضيتهم الرئيسيّة للحكم فيها بمحكمة القضاء الإدارى يوم السبت 23 مارس 2019.
لكن منذ رفع المحامون هذه القضية بمجلس الدولة لم يسلموا من محاولات اغتيالهم معنويًا أو كسر إراداتهم، بل ملاحقة بعضهم مهنيًا، لقد تعاملت الدولة معهم وكأنهم منظمات حقوقية مصرية.
ولعل أبرز هذه التجليات هو تحريك بلاغ ضدهم بزعم التظاهر دون ترخيص، فقد قام المحامون برفع دعواهم في مجلس الدولة يوم 9 يوليو/ تموز 2018، وبعد يومين فقط من رفع الدعوى السالفة صدر في 11 يوليو 2018 أمر بإحالة 22 مواطنًا للمحاكمة، بينهم سيدة هي زينب عبد الستار كامل، وخمسة محامين بين المحاكم الإبتدائية والنقض والاستئناف.
فضلًا عن 16 من مشايخ وكبار العائلات، أعضاء مجلس عائلات الجزيرة، الذي يقود عملية التفاوض مع الدولة، وجاء بأمر الإحالة أنهم فى يوم 15 يونيو/ حزيران 2018 تظاهروا في مكان عام دون الحصول على ترخيص من الجهة الإدارية المختصة على النحو المبين بالتحقيقات، بالرغم أن الدستور المصري وقانون التظاهر جعلا ممارسة حق التظاهر بالإخطار فقط، وأنه غير معلق على ترخيص أو إذن من أي جهة، لكن أمر الإحالة جاء على هذا النحو السالف ذكره.
يحاكم المتهمون جميعًا أمام محكمة جنح الوراق أمن دولة طوارئ، وتم تداولها بالجلسات، وبجلسة 9 مارس 2019، والمحكمة قررت تأجيل نظر الجنحة ليوم 23 مارس 2019، وهو نفس اليوم المقرر للحكم فى القضية بمجلس الدولة.
هناك معارك مشرفة يخوضها الألاف من أبناء شعبنا دفاعًا عن حقوقهم، ربما لا يشعر بهم أحد، ولا تكتب عنهم وسائل الإعلام، ويدفعون فى سبيل ذلك أثمانًا غالية، ومن بينهم محامو جزيرة الوراق.
فيَا كل رفاق مهنتي، يا من تجعلون مهنة المحاماة ملاذًا للمقهورين والمستضعفين، وصوتًا للحق والعدل والحرية والانصاف، أنتم تقدمون المحاماة في أروع صورها، دمتم لها، ودامت بأمثالكم عنوانًا لكل ما هو خير وجميل فى هذا الوطن.