يُحكى أن فتاة جميلة قادتها خطواتها إلى غرفة رجل عجوز في فندق، فقالت "أنا آسفة، لا بد أني دخلت غرفة خاطئة"، ليجيب الرجل "لا، أنتِ في الغرفة الصحيحة، لكنك متأخرة 40 عامًا".
هل ترى الأمر مضحكًا؟ هل تعرف أسباب ذلك؟
ثمة أشخاص يمكن أن تميزهم بخفة ظلهم بين أقرانهم وأصدقائهم، بصمة ما، يمكن أن تكون ضحكته المميزة أو تعليقاته الساخرة دومًا. لكن إذا كان أحدهم يعتبره أصدقاؤه مضحكًا، فهل سيختلف هذا إذا ما قرر أن يُضحك الآلاف، أي أن يرتزق من أعماله "المضحكة"؟ سؤال آخر، بل عدة أسئلة أخرى؛ كيف يفهم غيرنا لماذا نضحك أساسًا؟ إذا حاولنا تفسير ضحكاتنا، فمن أين نبدأ؟ أي كوميديا في تلك الكلمات المتكررة أو عديمة المعنى؟
هل يمكن أن يصبح التحضير للإفيه (لفظ "إفيه" مأخوذ من "Effet" الفرنسية بمعنى "تأثير"، وحُرّف ليعبَّر عن أي تأثير كوميدي أو مضحك) ثم إلقائه في التوقيت المناسب عاملًا مصيريًّا في "سرقة" ضحكة، أم أن الموضوع يُوزّع بالتساوي بين المتلقي (ذهنه ونفسيته واستعداده)، والمُلقي وما لديه من "ثروة" وخيال جامح يمكّنه من اللعب في كل شيء؟
الرهان على الإفيه الجيد
ينقل الكاتب ميلفن هيليتزر وأستاذ الصحافة الأمريكي مارك شوارتز، في أسرار كتابة الكوميديا، قول الكاتب الساخر آرت جلاينر "نكون شبابًا مرة واحدة، لكن مع الضحك، لا نكبر أبدًا".
يُقال دائمًا إن من يكتبون أو يؤدون الضحك يظلون بعقل شاب مهما امتد بهم العُمر، وقد يكون هذا صحيح نسبيًا، فهم يتنازلون عن إدراكهم من أجل الضحك بأثر رجعي على أشياء معلومة. وكم مرة نجد أنفسنا نضحك على مسرحية أو مسلسل شاهدناه مرات عديدة من قبل ولم نمل منه.
لو كنا اخترعنا اللغة للتواصل، فقد اخترعنا الضحك لحاجتنا إلى الشكوى. الهدف من الكوميديا دفع البؤس والحزن بعيدًا، حتى لو كانت تلك المواساة مكررة ومعلومة سابقًا.
إلى جانب تلك النظريات، تتعدد ملاحظات كُتّاب الكوميديا باستمرار، ويضيف المفكرون والفلاسفة والكُتاب الذين لا يصنَّفون كوميديين شذراتهم وأفكارهم عن مفهوم الكوميديا.
الهدف من الضحك استئصال العداء تجاه الأشياء والأشخاص. وبالتالي، قبل أن يجد موضوع الضحك، عليه أن يختاره بجدية. أن يبتعد عن الاختيارات المضمونة التي تدور حول الجنس والعنصرية وتغيير الصوت. كاتب الكوميديا المحترف عليه أن يتمنى أن يشاهد مواقف غريبة يوميًّا. لو سارت الأمور بشكل طبيعي، فلا وجود لنكتة جيدة.
يفرِّق كُتاب الكوميديا بين الهزل والظُّرف. عندما تكتب النكات تدخل في نطاق الظرفاء، بينما عند كتابة مقال ساخر أو هزلي، تدخل في نطاق الإعلام والتعليم. ينقل الكتاب أيضًا قول إيدميكما هون "اكتب الخطبة بفمك"، وهو هنا يفسر الفارق بين أن تكتب خطبة كوميدية وأن تلقيها.
حاولتْ روايات عديدة التعرض لأفكار ومعتقدات لم يكن متوقعًا الكتابة عنها بسخرية، بطريقة مغايرة للسائد. في رواية العشاء مثلًا، يتناول الكاتب هيرمان كوخ، بحس كرنفالي كوميدي نوعًا ما، كل الكتب المقدسة وينتقدها. وقبله حاول دانتي في كتابه الشهير الكوميديا الإلهية.
منهجية الكوميديا ما قبل "مرَّة واحد..."
ينقل كتاب أسرار كتابة الكوميديا قول الصحفي الساخر آرت بوشوالد أنه لا أحد يستطيع تعليمك سر كتابة الكوميديا، فهي تنتقل من جيل لجيل يليه "لن أحكي لأحد عن سر الكوميديا سوى ابني".
بينما يعارضه الكاتب الكوميدي سول ساكس قائلًا "بعد أن أصبحت كاتبًا راسخًا في الكوميديا على مدى 15 عامًا، رُحت أحملق بيأس كل صباح في الآلة الكاتبة، أتلمَّس طريقي على غير هدى بحثًا عن شيء مضحك. ذلك الخوف المألوف من أني قد لا أستطيع [كتابة] ذلك، وأني في تلك المرة كنت أنأى بعيدًا، وأن أمري سينكشف في النهاية، أني غير كوميدي، وربما كان ذلك بمثابة الدمار المؤلم الذي يمر به السواد الأعظم من كتاب الكوميديا".
ربما علينا أولًا التعرف إلى الأفكار والنظريات الأساسية التي يعتمد عليها كُتاب وصناع الإفيهات من أجل قولبة نصوصهم وأحاديثهم في إطار يمكنه خلق إبتسامة من العدم.
"لو أثارت الكلمة ضحكة فهي طريفة، أبقِ عليها". يُطلق كُتاب الكوميديا على هذا "استنفاد الضحكة"، أي الاستفادة من الإفيه حتى يمله الجمهور، وتلك هي الوسيلة الأضمن قبل أن تكون الأسهل بين وسائل الإضحاك، ومن هنا يمكن أن ننطلق أكثر نحو بدايات الكوميديا وأصلها.
يُدرج الكاتبان كذلك آراء بعضٍ من كُتاب وصُناع الضحك، ويقسمان الأشياء التي يمكن تحويلها لكوميديا إلى ثماني نظريات ثابتة.
1. نظرية المفاجأة
تلك التي نحاول من خلالها أن نستر حرجنا بعد أن نقول كلامًا أو نؤدي أفعالًا حمقاء، أو بعد أن يخدعنا الآخرون. لو اعتبرنا النكتة قصة، فإن المفاجأة هي فصلها النهائي.
لفظ المفاجأة يعني الآن بشكلٍ كبير "قلشة" أو "قفشة". وإذا كان "الإيجاز روح الفكاهة" كما اعتقد شكسبير، فإن ذلك ينطبق كثيرًا على القلشة أو "القفشة"، إذ كان يُقال "فلان تناول الطعام قفشًا"، أي بنهم، و"قفش الناقة" أي أسرع حلبها. وتشير الكلمتان إلى النكتة السريعة الموجزة، التي تتلاعب بالكلمات ويمكن فهمها بصعوبة، وعادة ما يجهلها بعض الناس، وهو ما يُشعرهم (قائلها وسامعها) بالغربة تجاه أحدهما الآخر.
تحتاج تلك القلشات والقفشات إلى متابعات سابقة للوضع العام، وسرعة بديهة غير مكتسبة، وتركيز شديد مع ما يُقال، ومن حسن الحظ أنها لا تحتاج جواز سفر سارٍ.
2. نظرية الترفُّع
بمعنى أننا بحاجة مستمرة إلى اعتبار أنفسنا "رقم واحد". يقول الكاتب آلان دندس "الإضحاك رد فعل للمأساة، لأن النكتة تكون على حساب شخص آخر". نضحك على وقوع طفل من على الدرج. في الضحك، نسخر من الآخر أو من أنفسنا، نهزأ من ذواتنا والآخرين، سواء كانوا أقل ذكاءً وقدرةً أو ذوي سلطة ومنصب وثراء يجعلنا نتلهف على إذاعة نقائصهم وعيوبهم.
3. نظرية الحيوية، الضحك بدلًا من الاقتحام
نطلق نكتة عندما نريد سحق أحدهم، ننفس بالضحك عن عدائنا أو افتقادنا لشيء، أي أنه أمر فطري أحيانًا يعبّر عن عداء وأخرى عن تمنّي.
على سبيل المثال، أُضيف مؤخرًا إلى قائمة سخرية المصريين غير المنتهية إفيهات تتعلّق بأسعار الملابس والبنزين مع رفع الدعم بينما كثيرًا ما نجد السعوديون مثلًا يسخرون من الزواج والعلاقات العاطفية بين الرجال والنساء التي قلّما تحدث في هذا المجتمع الذي يمكن وصفه بالمحافظ.
4. نظرية التعارض والتضاد
عندما يتصرف أحدهم بطريقة جافة تتعارض فجأة مع منطق المناسبة، ينتج سيناريو ساخر ومضحك من خلال التعارض، كما يحدث في برامج الكاميرا الخفية.
لو قلت مثلًا "حبيبي، إنهم يعزفون أغنيتنا المفضلة"، هذه جملة عادية تمامًا، لكنها يمكن أن تصبح إفيهًا إذا وضعتها تحت صورة لرجل وسيدة بدينين في سفينة، بحيث تكون "الأغنية المفضلة" هي جرس العشاء يُقرَع، أو تحت صورة لاثنين من فنيي السيارات وفي الخلفية اصطدام سيارتين.
يعتقد كثيرون أنه يمكن للتفسير الحرفي لبعض الجمل والكلمات أن يُنتج ضحكًا. المثال الأبرز هنا صفحة بديهيات.
5. نظرية تكافؤ الضدين
تعتمد على خبرتين غير متماثلتين، وتستر على إحساسنا بالذنب.
يتساءل الكاتب إيمو فيليبس "ماذا حدث لتلك الأيام الخوالي الحلوة، عندما كان الأطفال يعملون في المصانع؟". أو أن تقول أم لابنتها "إنني أتطلع إلى ذلك اليوم الذي سأرى فيه صورتك على علبة من علب الحليب الورقية".
المثالان السابقان يُفسّرا النظرية نوعًا ما؛ في النهاية المتوقع عند الحديث عن الأطفال تذكّر لهوهم ومرحهم ليس "عملهم" الذي يتضارب مع خبرتهم القليلة في الحياة، وكذلك أيضًا يمكن تفسير ما قالته الأم لإبنتها، إذ أنه في العادة نسمع أمنيات الأمهات المستمرة برؤية صور بناتهن ليلة الزفاف مع زوجها ليس على علب العلب، بالتالي يخلق هذا التعارض بين المٌعتاد وتحويره إلى إيفيهًا.
6. نظرية الخلاص
بعد يوم عمل شاق نبحث على التلفزيون أو الإنترنت عن فيلم "كوميدي"، فقليل من الضحك يخلصنا من روتين اليوم. نضحك عندما يكتشف الناس أسرارنا البريئة، ونضحك من أخطائنا التي تقع أمامهم دون قصد، أو بقصد في بعض الأوقات.
تركز تلك النظرية على أن الضحك ما هو إلا حادث مخطط له. تقول الكاتبة ليلى توملن "يتعين علينا أن نعمل من أجل بقاء الظريف سريع البديهة وليس بقاء الأصلح، وبهذا يمكن أن نموت جميعًا من الضحك".
ثَمة رسالة واضحة وراء تلك النظرية؛ يمكنها التنفيس عن أوجاع الجماهير التي تشاهدك وهي مهيأة للضحك، وهو ما يمكن أن يتوافق مع رأي فرويد، الذي اعتقد أن أنسب ظرف للإمتاع الكوميدي هو الميل إلى الضحك، فنحن نضحك من توقعنا للضحك، كما نضحك عندما نتذكر أننا ضحكنا.
7. نظرية المظهر النسبي
يقول إيمو فيليبس "تعلمتُ الجنس بالطريقة الصعبة، تعلمته من الكتب". يعكس المثال بنية أو شكل الجملة المتوقع قولها، إذ من المنطقي أن يكون تعلُّم الجنس عن طريق ممارسته أصعب من القراءة عنه فقط، لكن المضحك هنا أن الإفيه يحوّل هذا المظهر النسبي أو المنطقية التي ينبغي قولها إلى العكس ليحاول أن يخلق ضحكة.
يأتي الضحك في بعض الحالات عندما نحل لغزًا، أو نبصر شيئًا لم نكن نراه أو نفهمه.
جوهر الإضحاك يجب أن يكون غير متوقع ويُخرجنا من تأثير العقل علينا. السخرية تعطي الأشياء قيمتها الحقيقية.
8. النظرية النفسية
بعض الأطباء النفسيين يعتقدون أن المرء يمكنه أن يعرف الكثير عن نفسه إذا أجاب عن تساؤل؛ لماذا أضحك على هذه النكتة ولا أضحك على سواها؟ بعض كُتاب الكوميديا يُحيل ضحكاتنا في تلك الحالة إلى العقل الجمعي، الذي يجعلنا نقبل النكتة إذا قبلها الجمهور.
السفينة الأم.. أم الدنيا
في كتابه أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية، يقرّ ميخائيل باختين أن الكاتب فرانسوا رابليه، الذي ارتبط بالأدب الشعبي والثقافة الجماهيرية، كان نابغة عصره في القرن السادس عشر لأنه توغل كثيرًا في أعماق الضحك الشعبي وأشكاله، الذي قلما دُرس ولوحظ من قبل.
خلْق الإفيه يبدأ من الإيمان بجدواه وتأثيره وحكمته. يختتم ميلان كونديرا روايته حفلة التفاهة بنصيحة؛ "استنشق هذه التفاهة المحيطة بنا، فهي روح الحكمة". وقبله بآلاف السنوات، تحدّث قدماء المصريون عن إله الضحك الذي يُدعى "بِس".
المصريون ضيوف دائمون في أي حديث عن الضحك، الضحك هو "مشروع المصريون القومي الوحيد"، بحسب ما يورده المخرج أحمد شلبي في فيلمه الوثائقي لماذا يضحك المصريون، والضحك سمة ثابتة تميزهم على مدار السنين.
يعتقد المونتير السينمائي المصري وائل فرج أن الضحك أساسًا مرتبط بالمجتمع؛ ضحك فئة معينة على أخرى، ضحك على أشياء مرتبطة بالموروث الثقافي، وأخرى مرتبطة بنوستالجيا خاصة بجيل معين. كل ذلك يتطلب التعامل بشكل يختلف عن الآخر، وبآلية قد تتسع أو تضيف مرونتها حسب توقُّع تقبُّل المجتمع لها. يجب كذلك المحافظة على إيقاع الإفيه من حيث سرعته وبطأه.
يحكي فرج لـ المنصة أن النكتة الأولى في القصة هي الأهم، فهي التي تجعل الجمهور يرتاح لما بعد ذلك، أما لو فشلت النكتة الأولى "فلن يكون الأمر في صالحك".
"لا بد أن يكون لديك إحساس بالكوميديا، وهذا لا يتطلب أن تكون كوميديًّا في حد ذاتك. الإحساس العالي بالكوميديا ليس له علاقة بصناعة الكوميديا. الكوميديا الحقيقية شعور بالضحك، وطريقة تفكير في القدرة على صناعة ضحكة. لا بد أن يكون لديك تقدير شخصي لما هو مضحك من غيره، متى يمكنك حذف إفيه ضعيف على حساب آخر أقوى".
يعتقد وائل فرج أن الكوميديا فيها جانب من الفطرية غير المكتسبة، بخلاف الأنماط والقوالب الأخرى من الفن التي يمكن تعلمها؛ "العمل الكوميدي غير مُكتسب لأنه مرتبط أكثر بسرعة إيقاعك، وهو الأمر الذي يمكن الإحساس به وليس تعلمه. لكل مجتمع إيقاعه الخاص مع الضحك، الذي لا يمكن تعلمه بقدر الانخراط داخله والإحساس به".
يشرح فرج أنه في فيلم طلق صناعي، الذي عمل على المونتاج الخاص به، نال أحد مشاهد الفيلم شهرة على مواقع التواصل. هذا المشهد يدَّعي فيه أحد الأبطال أنه مسيحي بينما هو مسلم. يقول "عملت على تقطيع المشاهد على ردود أفعال الأشخاص خلال الدعاء، الفواصل الصغيرة ولحظات الصمت والكلام هي التي راهنت عليها في ضحكات الجمهور، فهناك أمر فاصل في التوقيت قد يخلق الضحك في المشهد".
رغم المحاولات التي تُمنطق ضحكاتنا في أُطر نظرية بعينها، تبقى العديد من الأفعال والمواقف تضحكنا وغيرنا دون مفهوم أو منطق، ما يجعل استقبالك للحكاية المذكورة في بداية الموضوع، سواء اعتبرتها مضحكة أو سخيفة، لا يرجع إلى أسباب يمكن معرفتها، وبالتالي لا يمكنك اعتبار كاتبها ثقيل الظل لأن ذلك يُحزنه.