سقط جدار برلين عام 1989 لينهي وجود جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي تداولتها الألسنة باسم "ألمانيا الشرقية"، ويفتح الباب أمام تفكيك الكتلة الموالية للاتحاد السوفيتي في أوروبا، ولكن بقايا الحصون الشرقية في كرة القدم الألمانية لم تسقط بعد.
منذ عام 1989 لم يتغير نادي دينامو برلين، ترتيب المكاتب داخل مقره المكون من طابق واحد كما هو، الممرات داخل البناية لازالت ضيقة ومليئة بالرسومات عن الحقبة الشيوعية، وأبواب النادي لا ترحب بالرأسمالية، أهلا بك في رحلة تاريخية "لنادي دولة ألمانيا الشرقية سابقا"، الأكثر كراهية على الإطلاق.
في هذه الأيام يجاهد فريق دينامو برلين من أجل الارتقاء من بطولة الدرجة الرابعة لمسابقة كرة القدم بالبلاد، بعد سنوات كان اسمه يوضع بجانب كبار كرة القدم في ألمانيا مثل بايرن ميونخ، بل إنه في يوم ما زحفت جماهيره تجوب أوروبا لمشاهدة فريقها يواجه فرقًا بحجم ليفربول وروما في المسابقات الأوروبية.
تضم معظم البطولات الرياضية فريقًا يلعب دور الشيطان، يعاديه أي جمهور لا يشجعه. في لعبة البيسبول مثلا، ارتدى فريق نيويورك يانكيز القبعات السوداء بالمعنين الحرفي والمجازي، منذ السبعينيات منذ أن تولى جورج ستينبرينر قيادة الفريق في دوري كرة القدم الأمريكية، يتم مراجعة قوائم الأشرار الرياضيين باستمرار (بشكل رئيسي في الحانات التي تجمع المشجعين معا).
في ألمانيا الشرقية سيطر دينامو على دوري الدرجة الأولى (أوبرليجا) في ثمانينيات القرن الماضي، عندما فاز ببطولة الدوري عشر سنوات على التوالي منذ موسم 1978- 79 حتى موسم 1987-88. مثل هذا النجاح سيعزز الاستياء في أي مكان دون شك، ولكن ازدراء مشجعي كرة القدم في ألمانيا الشرقية لدينامو برلين لم يكن بسبب هيمنته المحلية فقط، ولكن أيضا لارتباطه الوثيق بالشرطة السرية الألمانية السرية (ستاسي).
بعد انهيار جدار برلين تكشفت فصول قصة دينامو برلين الذي تأسس عام 1953 وكان أشبه بمنظمة لموظفي وزارة أمن الدولة وشرطة الشعب في برلين الشرقية، على غرار نادي دينامو موسكو الرياضي الذي كانت له علاقات وثيقة مع الاستخبارات الروسية (كي جي بي).
نافس النادي في مجموعة متنوعة من الرياضات، بما في ذلك السباحة والكرة الطائرة والجمباز، وسرعان ما أصبح هو النادي الرئيسي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية وضم إلى صفوفه العديد من أفضل الرياضيين الذين كانوا عادة تحت ضغوط تلزمهم بأن يكونوا الأفضل على الإطلاق في البلاد، ولهذا لم يكن مستغربًا أن يشارك رياضيو دينامو برلين -وفي كثير من الأحيان دون علمهم- في برنامج المنشطات السري في ألمانيا الشرقية للرياضيين النخبة.
لعب بيرند بريلات مدافع الفريق الأسبق دورا في تاريخ النادي حيث بدأ معهم في عام 1966 حتى اعتزاله عام 1983. اصطف المدافع ضد نجوم أوروبية عدة مثل ميشيل بلاتيني، تريفور فرانسيس وكيفن كيجان، حيث قال في وقت سابق لشبكة سي إن إن "لن أنسى أبدا الركض على أرض الملعب في الأنفيلد لمباراة كأس الاتحاد الأوروبي ضد ليفربول في ديسمبر 1972".
وقال اللاعب البالغ من العمر 64 عاما التلفزيونية "كان من الطبيعي أن يعطينا الركض تلك الليلة في الأنفليد صلادة وجلدًا غير طبيعيين في مواجهة الانحدار الذي نعيشه الآن، بالأمس كنت أحد المؤسسين للفريق. والآن أقف أمام الجماهير كرئيس للنادي وأتحمل مسؤولية رفعه من هذا المستوى".
ومع ذلك، فإن العلامة الوحيدة لأمجاد الماضي في هذا المكان هي سلسلة الملصقات ذات الألوان السوداء والبيضاء التي تغطي الجدار الخارجي للمطعم الموجود داخل النادي، فلاش الكاميرات مصوب نحو لاعبين يبتسمون وهم يرفعون الكؤوس إلى السماء ودوى الجماهير كأنه مسموع الخلفية. ولكن الواقع الآن أن الجوائز ذهبت وتلاشت في الاضطرابات بعد سقوط الشيوعية.
متلازمة دينامو-ستاسي
على الرغم من الشعبية الجارفة التي حظي بها النادي، إلا أنه كان العدو الأول دون شك لمعارضي سياسات الدولة وأغلب عامة الشعب في الستينيات لأنه كان مدعوما من الشرطة السرية -ستاسي/ Stasi- المكلفة بالقضاء على المعارضة طبقا لتوجيهات نظام شيوعي يحبس المنشقين عنه دون محاكمة ويعذب ويقتل بالرصاص كل من تسول له نفسه الفرار صوب الغرب.
ولكن مؤسسة دينامو برلين استطاعت لاحقًا إثبات نفسها كرمز لكرة القدم في ألمانيا الشرقية، كان دعمها متواضعًا نسبيًا وشكل موظفو الأجهزة الأمنية التابعة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية (شرطة الشعب وستاسي والجمارك) القوام الأساسي لفريقها. مع توالي النجاحات أواخر السبعينيات، بدأ الفريق في جذب المشجعين الأصغر سنًا، خاصة من الأحياء المركزية في برينزلاور، إلى المباريات في ملعب جان لودوفيج الرياضي القريب من جدار برلين مباشرة.
في برلين، كان من الواضح أن نادي إف سي يونيون هو الفريق صاحب الشعبية، حيث اجتذب حشودًا تقترب من مئتي ألف شخص يرسلون منهم ثلاثين ألفًا إلى مباريات الفريق في الملعب، ولكن سرعان ما اصطدم هؤلاء المشجعون بمشجعي دينامو برلين من القبضايا في ديربياتهم المستحدثة، التي عادة ما كانت تنتهي بمطاردة مشجعي دينامو برلين خصومهم إلى محطة قطار برلين في الشوارع المغلقة أمام حركة المرور، تحت أعين رجال الشرطة الذين راقبوا الفوضى من بعيد.
أصبحت تلك المواجهات بين جماعتي المشجعين مألوفة في برلين حتى منتصف الثمانينيات، حيث اكتسب مشجعو دينامو سمعة وحشية بسبب عنفهم أثناء المباريات.
كان رئيس جهاز ستاسي إريك ميلكه، أحد الذين أدينوا وسجنوا لأعوام عدة بعد انهيار ألمانيا الشرقية، رئيسا فخريا لهذا النادي وأول المتقدمين لحضور مبارياته بملعب لودفيج يان ويتصدر الجرائد دوما مع كل احتفال بلاعبيه في فندق مينا بلاست الأفخم بالبلاد كلما فازوا ببطولة الدوري، قبل أن يهمس كالعادة دوما للمصورين قبل التقاط الصور "هؤلاء اللاعبين أولادي".
في سوق الانتقالات هناك لاعبون كان يتم إبلاغهم بأنهم سيلعبون إجباريًا في دينامو برلين، كان الشغل الشاغل لميلكه هو الحصول على أعظم مواهب الجمهورية، مع توفير أفضل المعدات ومرافق التدريب والمديرين الفنيين، من أجل تعزيز الثقة بالنفس في ألمانيا الشرقية وخلق سمعة كروية عالمية من خلال نادٍ قوي يخوض المسابقات الأوروبية.
ولكن مهلا.. وسط كل ذلك، هل يحتاج دينامو للحكام والمنشطات أيضا؟
غضب الجماهير الأول من دينامو برلين لم يكن فقط بسبب ارتباطه بستاسي، ولكن أيضًا بسبب وجود مؤشرات قوية على أن الحكام الفريق ساعده الحكام دون شك وأن بعض اللاعبين تلقوا منشطات زادت من عافيتهم البدنية.
يقول مؤرخ كرة القدم الألمانية الشهير هانز ليكسي لشبكة سي إن إن في تغطيتها للاحتفال بمرور 50 عاما على إنشاء النادي، إن "الحكام احتسبوا أهداف التسلل بشكل صارخ تلك الفترة، بل وأشهروا البطاقات الصفراء للاعبي المنافسين الرئيسيين (لدينامو برلين) في المباريات السابقة لضمان حرمانهم اللعب أمام دينامو، كان موسم 1984-1985 فجا للغاية، لدرجة اضطر الحزب الحاكم مناقشته في البرلمان من كثرة فضائحه، ومنذ ذلك الموسم، كانت الجماهير المنافسة ترفع دوما لافتات "مرحبا بدينامو برلين وحكامه".
قال الحكم الألماني السابق بيرند هينمان خلال مؤتمر صحفي في سبتمبر/ أيلول 2015 إنه عانى بسبب هزيمة دينامو برلين في مباراة كان هو حكمها؛ "تم استدعاء جميع الحكام" وأخبروهم أن "شيئًا كهذا لا يجب أن يحدث بعد الآن". من الصعب أن نشهد تدخلاً للحكم لا يدع مجالًا للشك في لعبة كرة القدم، لكن لاعبًا سابقًا اعترف بأن المسؤولين عن لجنة التحكيم قد قدموا للنادي بالفعل يد المساعدة في بعض الأحيان.
أيضًا فالكو جوتز المهاجم الذي لعب لفريق دينامو من عام 1979 وحتى 1983 قال لسي إن إن "يمكنني أن أتخيل أن هناك تلاعب تحكيمي بسبب الضغط الهائل من الحكومة وستاسي. كان من الممكن أن يثير ذلك بعض الحكام القلق، لكننا كنا أقوى فريق في ذلك الوقت. لم نكن بحاجة لمساعدتهم".
انشق جوتز وزميله ديرك شليجل إلى الغرب في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 1983 قبل مباراة في كأس الاتحاد الأوروبي في بلجراد في يوغوسلافيا وطلبا اللجوء في سفارة ألمانيا الغربية هناك.
حتى الاتحاد الألماني لكرة القدم (DFB) يعترف بأن دينامو كان مفضلا، إذ جاء في موقعه على الإنترنت في فصل تاريخ كرة القدم في ألمانيا الشرقية "ظهر بعد الانتقال السياسي وهدم الجدار أن دينامو بصفته النادي المفضل لرئيس منظمة ستاسي إيركي ميلكه، حصل على العديد من المزايا وفي بعض الحالات تم تطبيق ضغط خفيف لصالحه".
اتهم النادي كذلك لاتهامات بتعاطي المنشطات، وقال جوتز الذي لعب لأندية كبرى مثل باير ليفركوزن وكولونيا وجالاطة سراي قبل اعتزاله عام 1997 إنه "تلقى عقارًا منشطًا دون علمه أثناء وجوده في دينامو برلين".
وأضاف "إنها حقيقة هناك اتهامات مثبتة لي بعد مباراة في كأس الاتحاد الأوروبي حيث أدرجت في القائمة التي أثبتت إيجابية العينة المأخوذة من أجل اختبار المنشطات، لم أكن على علم بأنني قد أخذت أي شيء، لكن الأمر كان حتمًا. تم تسليم هذه المنشطات إلينا في مشروبات، بالتأكيد لم نفعل ذلك بوعي".
لا يمكن وصف دينامو سوى بأنه نادٍ عسكري تولاه بعض المسؤولين بهدف فك الضغط قليلا عن رتبهم بل واستدعاء اللاعبين بانتظام للحصول على محاضرات سياسية. كانت النغمة السائدة بالداخل خشنة تجعل لاعبي الفريق متوترين خشية ضياع أي فوز
كان اللاعبون دون شك محط رقابة مكثفة من قبل ضباط متخفيين في رحلات كأس الاتحاد الأوروبي، خوفا من أن يصاب أحدهم بزكام رأسمالي ينثره على بقية الفريق، أو أن يظهر صوت مناف للاشتراكية المتبعة داخل النادي، فكانت الرحلة تتم بطائرة ميلكي الرسمية. أما ضباط ستاسي لم يسافروا مع الفريق كمشجعين، بل عندما تكون في الطابق الرابع من الفندق ليلة المباراة ستجد شخصين جالسين أمام الغرفة طوال الليل، تعرف من المؤكد أنهم ليس من المشجعين كما قال لهم مسؤولي النادي قبل الخلود إلى النوم.
هذا جانب واحد من قصة دينامو برلين. ولكن بالطبع هناك جانب آخر، يحكيه لاعبون سابقون ما زالوا متورطين مع النادي، الذي يعتز بالأيام الماضية لأنهم أحبوا كرة القدم، النجاح، الرفقة والامتيازات. لم يكونوا مهتمين قط بالسياسة - عكس نظرائهم في الغرب- وهم يرفضون الإشارة إلى تلاعب الحكام وتعاطي المنشطات كسمة العصر الأسود لفريق برلين الشرقية.
قال فالديمار كسينزيك لاعب الفريق بين أعوام 1984 و1991 يقول لسي إن إن "لم يكن لدي أي انطباع بأننا حصلنا على أي مزايا في قرارات الحكم. ولم أكن على علم بأي منشطات".
مثله يورنت لينز، لاعب وسط الميدان السابق في الفريق ومديره الفني الحالي، إذ يقول "ربما كان لدينا ميزة صغيرة في الضغط على عقل الحكام، من حيث اتخاذ القرارات المشبوهة لصالحنا بطريقة أكثر استرخاء في بعض المواقف ممن لو كانوا يحكمون في مكان آخر، لكن لا يمكن للمرء أن يقول أنه تم التلاعب بكل المواقف التحكيمية".
"لا يمكنك التلاعب بعشرة ألقاب في الدوري. لقد كان لدينا أفضل فريق من حيث المهارات واللياقة والعقلية. كان لدينا لاعبين اشتراكيين استثنائيين".
تمكن اللاعبون طيلة فترة المجد بالثمانينيات من القفز على قائمة قرض الـ 10 سنوات لشراء السيارات الفارهة، وتم دفع رواتبهم بشكل جيد بحيث يمكنهم في بعض الحالات إلى امتلاك عربة لادا روسية الصنع، التي كانت تعد ترفًا في ذلك الوقت، كما تم تخصيص أماكن إقامة أفضل لهم وسمح لهم بالسفر إلى الخارج. حتى إنهم قد حصلوا على الفاكهة، التي كانت نادرة في جمهورية ألمانيا الشرقية.
وقال المؤرخ ليسكي "واجه اللاعبون في بعض الأحيان هتافاتٍ معادية عندما كانوا يصلون إلى المباريات مع الفرق المتنافسة بينما مدربهم يجلس على دكة البدلاء ويأكل الموز الذي لم يكن الحصول عليه سهلًا في جمهورية ألمانيا الشرقية".
فريق خنازير ستاسي
في الثمانينيات عندما بدأ الضغط الشعبي للإصلاحات السياسية في ألمانيا الشرقية، تصاعد العداء تجاه دينامو، لقد كان رمزا أمام الشعب في جمهورية ألمانيا الديمقراطية للفساد ومثالا لإفراغ الغضب والإحباط، وتعرض الفريق لسوء المعاملة وبصقت الجماهير على اللاعبين وأسموهم "خنازير ستاسي".
كان المشجعون المعارضون يهتفون "خنازير ستاسي" أو "خنازير ميلكه"، على الرغم من أن مثل هذا السلوك يمكن في بعض الأحيان أن يؤدي إلى اعتقالهم.
بعد سقوط الجدار ، فقد دينامو برلين اتزانه. ألقي القبض على ميلكه وتفكك ستاسي مع اقتحام المتظاهرين الغاضبين مكاتبها في جميع أنحاء البلاد، فاستقطبت أندية البوندسليجا أفضل اللاعبين من دينامو، بما في ذلك أندرياس ثوم وتوماس دول فأضعف ذلك النادي مع فقدان الموهبة والخبرة، ليذهب شيئًا فشيئًا مع الريح.
حاول المسؤولون بعد الوحدة كسر ماضيه الأليم وغيروا اسم النادي إلى "إف سي برلين" ، لكنهم فشلوا في التأهل حتى إلى الدرجة الثانية في البوندسليجا الألمانية الموحدة. أعاد النادي تسمية دينامو برلين في عام 1999. وقد هبط من القسم الرابع إلى الخامس في عام 2000.
تصدر مشجعو دينامو برلين عناوين الأخبار مجددًا في عام 2011 عندما هاجم المئات منهم مشجعي فريق كايزرسلاوترن خلال مباراة في كأس ألمانيا. بعض المشجعين هم من اليمين المتطرف، مما تسبب في المزيد من الضرر لسمعة النادي. لقد مر النادي بأوقات عصيبة، لكنه تحسّن بشكل تدريجي في السنوات الثلاث الأخيرة. أراد الوصول إلى المستوى التالي في العام أو العامين القادمين. سيكون الدوري الألماني الثالث مناسبًا له نظرا لوجود عدد من الأندية التقليدية مثل ماجدبورج التي ستجذب الجماهير.
في هذه الأيام، يتجاهل اللاعبون والأنصار شعار نادي ستاسي. إذا كان أي شيء، فإن تاريخها يضيف إلى جاذبيته الجريئة. كان الطلب على تذاكر بقيمة 50 يورو لحفل الذكرى السنوية الخمسين أمرًا رائعًا ومفاجئا للأنصار لدرجة أن النادي اضطر إلى نقله نحو مكان أكبر.
حضر حوالي 900 شخص ، بما في ذلك العديد من اللاعبين السابقين. لم يكن إريك ميلكه موجوداً هناك - لقد مات في عام 2000. لكن الاحتفال قد يعيد إلى الأذهان ذكريات الأحزاب كل تلك السنوات، في أيام مجد النادي عندما رفع ميلكه كأسه من النبيذ الفوار وقال "من نخب ألمانيا الشرقية إلى نخب أبنائي فليدم لنا الدوري والكأس".