في أولمبياد ملبورن 1956، كانت مباراة نصف نهائي منافسات كرة الماء بين المجر والاتحاد السوفيتي أكثر من مجرد حدث رياضي يهدف لتوحيد الشعوب وتحييد الخلافات جانبا، فهذه النسخة من دورة الألعاب الأولمبية انطلقت في أحد أكثر أعوام القرن العشرين اشتعالًا، عام قرعت فيه طبول حرب عالمية ثالثة كادت أن تندلع.
جرت هذه المباراة الحافلة بالدماء والتي أصبحت واحدة من الأحداث الرياضية سيئة السمعة في 6 كانون الأول/ ديسمبر 1956، وشهدت أحداثها تهديدات واضحة وأحداث عنف فعلية منذ الدقيقة الأولى، قبل أن تنتهي بفوضى عارمة بعد أن هاجم لاعبو الفريق السوفيتي اللاعب المجري إرفين زافدور، الذي خرج ينزف من حمام السباحة واتجه مباشرة إلى الغرفة الطبية لتلقي العلاج.
تمتد جذور هذا العنف المكثف الذي شهدته هذه المباراة إلى سبع سنوات خلت، تحديدًا مع سقوط المجر رسميًا تحت السيطرة السوفيتية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ولهذا، فإن كل حدث اجتمعت فيه الدولتان شابه التوتر دائمًا، وقد ظهر هذا التوتر في منافسات البولو المائية أكثر من أي شيء آخر، حيث كانت المجر هي القوة العظمى عالميًا في هذه اللعبة، بعد أن فازت بثلاث ميداليات ذهبية وفضية واحدة في آخر أربع منافسات أولمبية.
في دورة الألعاب الأولمبية السابقة، شاهد السوفيت أنفسهم يقبعون في المركز السابع بينما يتوّج المجريون بالذهب، فأصبح هدفهم الأساسي في نسخة 1956 هو العمل على تحسين فرصهم أمام بلد يحتلونه. توصل السوفيت لحل غير تقليدي من أجل تحسين هذه الفرص؛ فبما أنهم يمتلكون المجر كلها كدولة، فإنهم ببساطة سيرسلون فريقهم إلى هناك للاستفادة من نظام التدريب الفريد والناجح.
هذه القصة يحكيها فيكتور أجييف وهو أحد لاعبي الفريق الروسي، في الفيلم الوثائقي Freedom's Fury الذي أنتجه كوينتن تارانتينو ولوسي ليو عام 2006. ولكن رغم تدرّب لاعبي المنتخب الروسي في المجر، يقول أجييف "لقد فكرت حين وصلنا لمواجهة المجريين؛ يا إلهي كيف سنلعب ضد هذا الفريق الذي لا يقهر؟". أما اللاعب المجري إستيفان هيفي فيوضح "لقد سجلوا كل ما فعلناه. في اليوم التالي فعلوا مثلنا تمامًا. لقد نسخونا".
كانت تلك عادات السوفيت التي لا تنقطع، مختبرات رياضية تستهدف استنساخ التجارب الناجحة للآخرين ثم "سفيتتها" لتصبح صالحة للتطبيق في الاتحاد السوفيتي.
قبل عدة أشهر من الألعاب الأوليمبية، التقى الفريقان مرة أخرى بإكراه سوفيتي في مباراة ودية استضافتها موسكو. حقق الفريق المضيف فوزًا مثير للجدل استند بشكل كبير على سخاء الحكام. بعد المباراة خاض الجانبان عراكًا لا ينسى في غرفة الملابس. في مباراة ثانية جرت بإكراه مشابه ولكن في المجر هذه المرة، أدار المشجعون المجريون ظهورهم مع عزف النشيد الأحمر السوفيتي. لو لم يكن هناك أكثر مما حدث في هاتين المباراتين، لكنا اعتبرنا أن الأمر مجرد ديربي على صفيح ساخن. ولكن المنافسات الرسمية في الأولمبياد شهدت ما هو أكثر.
لا يمكن إدراك أبعاد ما حدث بعد ذلك دون ربطه بما حدث في الثورة المجرية التي اندلعت عام 1956، بعد إقالة رئيس الوزراء المجري الإصلاحي إمري ناجي عام 1955 بعد أن شجع بلاده على الحلم بمستقبل مشرق تتحرر فيه من سطوة السوفيت.
كانت رغبة التغيير وإجلاء السوفيت الذين يحتلون المجر منذ عام 1949 ملحة بحلول عام 1956، خاصة بعد أن ألمح السكرتير العام للحزب الشيوعي الروسي نيكيتا خروشوف والذي أصبح الرجل الأقوى في البلاد بعد وفاة الرئيس جوزيف ستالين في 1953، في خطاب ألقاه مطلع العام، إلى إمكانية مغادرة بلاده للأراضي المجرية.
في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1956 وقبل شهر واحد من افتتاح أولمبياد ملبورن، ومع استمرار تمكن السوفيت من المجر، نظم آلاف الطلاب في بودابست مظاهرة اعتقلت الشرطة نحو عشرين ألف شخص ممن شاركوا فيها. لم تكن البلاد معتادةً حقًا على ممارسة حقوق كالتعبير والاحتجاج.
في النهاية فتحت السلطات نيرانها وهي تحاول تفريق الحشود، فاندلعت أعمال العنف، وعلى الرغم من عودة إمري ناجي كرئيس للوزراء في اليوم التالي لتخفيف حدة التوترات، فإن الاحتجاجات لم تتوقف.
في غضون ذلك، تم عزل الرياضيين المجريين بعيدًا عن بودابست، تحديدًا في تشيكوسلوفاكيا. في 30 أكتوبر أعلن ناجي أنهم سيسافرون إلى أستراليا، حيث سيمثلون المجر حرة بعيدا عن التدخل السوفيتي. لكن البلاد كانت تعتمد على الدعم الدولي لمنع السوفيت من قمع مطالبهم بالحرية.
في اليوم نفسه ولكن في مكان آخر بعيد، بدأت حرب السويس عندما أعلنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل حربها على مصر التي أممت منذ أشهر قناة السويس.
واصل ناجي قرارته الثورية يوم 1 نوفمبر/ تشرين الثاني بإعلان الانسحاب من حلف وارسو، وبدا أن البلاد مقبلة على ثورة ناجحة، في الوقت الذي كان الرياضيون المجريون في طريقهم إلى يوغسلافيا من أجل الإعداد للبطولة.
لم يسمع الرياضيون المزيد من الأخبار حتى وصولهم إلى ملبورن في 20 نوفمبر. مارتن ميكلوس كان اللاعب الوحيد في الفريق الذي يتحدث الإنجليزية، لهذا تجمّع زملاؤه التجمع حوله بينما يترجم لهم ما تذكره الصحف عن بلادهم.
لقد اكتشفوا الآن فقط مدى العنف الذي يمارسه السوفيت، فقط عندما وصلوا إلى أستراليا.
يتذكر إرفين زافدور هذه الأوقات "لقد قال (يقصد ميكلوس) إن الروس عادوا وقصفوا بودابست وإن الثورة قد انتهت والانتقام وكل شيء. وعندها قلت: حسنًا، أنا لن أعود إلى المنزل دون الميدالية الذهبية".
لقد غزا السوفيت المجر وسحقوا المقاومة وقتلوا أكثر من 3000 مجري. بعد يومين، في حفل افتتاح الأولمبياد، ألقت القوات السوفيتية القبض على ناجي الذي سيعدم بعد محاكمة جرت في الخفاء بتهمة الخيانة. قاطعت إسبانيا وسويسرا وهولندا الألعاب الأولمبية تمامًا احتجاجًا على الغزو السوفيتي للمجر، بينما بقيت مصر ولبنان والعراق بعيدين عن الحدث احتجاجًا على أزمة السويس والغزو الإسرائيلي لسيناء.
لم يكن قد مر سوى شهر تقريبًا منذ أن وطأت أقدام الفريق المجري قاع حمام السباحة من أجل لعب رياضتهم المفضلة، أثقل الابتعاد عن المشاركات والتوتر بسبب الأحداث الجارية كاهلهم، إلا أن قائد الفريق كالمان ماركوفيتش جمع زملاءه وقال جملة واحدة "علينا أن نخوض تلك المنافسات مثل الكلاب المسعورة، نبحث فقط عن السوفيت ونهشمهم دون رحمة".
كان المجريون بالفعل على قدر ما التزموا به، هزموا الولايات المتحدة في المباراة الأولى 6-2، وسحقوا ألمانيا ثم إيطاليا على التوالي 4-0، حتى أوقعت القرعة لاعبي الاتحاد السوفيتي معهم داخل حوض واحد في نصف نهائي الدورة. لاعب الفريق المجري مارك هيفسي اعتبر هذه المباراة فرصة للانتقام بقوله "هم من بدأوا إطلاق النيران علينا هؤلاء الأوغاد، ونحن سنبدأ بإطلاق الأهداف واللكمات في آن واحد".
بدأت المباراة ولاعبو المنتخب المجري لا يفكرون سوى في الانتقام. أثناء عزف النشيد الأحمر بدا التجهم واضحًا على وجوههم وهم يقفون على حافة حوض السباحة الذي سيتحول بعد قليل إلى بركة تتناثر فيها الدماء. كان هناك حريق يشتعل في قلب كل لاعب مجري، حريق سيحول المباراة إلى معركة حربية صغيرة.
استقطبت هذه المناسبة حشدًا كبيرًا من الناس، حيث تجمع أغلب أعضاء الجالية المجرية في ملبورن في جو محفوف بالتوتر منذ اللحظة الأولى. "شعرنا أننا كنا نلعب لأجل رد كرامة المجر فحسب"حسبما قال زافدور لصحيفة سبورتنج ويتنس التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي في صيف 2011.
يتابع زافدور "لقد واجهنا اتهامات هناك في كل أحداث العنف والكراهية التي وقعت ضد الرياضيين والمشجعين السوفيت في تلك الدورة، كان هناك عداء شديد لكل ما ارتكبوه في بلادنا منذ عام 1945، حتى هؤلاء الأشخاص الذين ذهبوا إلى أستراليا، آخر بلد ف العالم، ما زالت قلوبهم مشتعلة".
وفقا لما قاله زافدور للإذاعة البريطانية، قرر المجريون تجنب المعارك التي تبعد تركيزهم عن المواجهة والتي يفضلها السوفيت ذوي الدم البارد، والتركيز من أجل إنهاء المباراة بهزيمة قوية لخصومهم مع الاكتفاء بإثارتهم لفظيًا بعض الشيء. بالنسبة للمجريين الذين تعلموا في الاتحاد السوفيتي، لم يكن استخدام اللغة الروسية في سياقات غير مهذبة أمرًا صعبًا.
يوضح زافدور أكثر "منذ سن العاشرة، درست اللغة الروسية أكثر من المجرية. لذلك يمكنك أن تتخيل، عندما كان عمري 21 عامًا، ولديّ ما يكفي من اللغة الروسية لقول أي شيء، لقد كان الأمر شفهيًا من ناحيتنا، على أمل أن يكون رد فعلهم جسديًا".
طوال المباراة لم ينقطع الركل واللكم من كلا الجانبين وخرج السوفيت بالفعل عن تركيزهم طيلة اللقاء. يوضح زافدور "لقد توقعنا إذا كانوا سيغضبون، سيبدأون القتال، وبمجرد قتالهم لن يلعبوا جيدًا، وإذا لم يلعبوا جيدًا، سنهزمهم".
بدأ تنفيذ الخطة بالفعل، واستغرق الأمر أقل من دقيقة حتى سقط أول لاعب سوفيتي في الفخ، عندما حاصره لاعبو الفريق المجري قرب منطقة جزائه وتابعه لاعبان مجريان آخران حتى قطعت الكرة منه واستقرت في الشباك السوفيتية لتتقدم المجر بهدف نظيف.
ديزو جورماتي عزز تقدم فريقه من رمية جزاء، وتعاظم إحباط السوفيت عندما أحرزت المجر الهدفين الثالث ثم الرابع، بينما هم غير قادرين على كسر دفاعات المجر، يكافحون في ظل استفزاز مستمر إذ لم يتوقف المجريون عن الصراخ "أيها الأوغاد القذرين".
يتذكر زافدور ما صاح به في وجه قائد الفريق السوفيتي "لقد أتيت وقصفت بلدنا أيها الكلب، كانوا ينادوننا في الملعب بالخونة. كان هناك قتال فوق الماء وقتال تحت الماء".
سجل زافدور هدفين، ولكن في آخر دقيقتين من اللعب قبل نهاية المباراة، طُلب من زافدور أن يراقب النجم السوفييتي فالنتين بروكوبوف. يتذكر اللاعب المجري "قلت لا مشكلة. يمكنني التعامل معه، سأقول له إنه خاسر وأمه خاسرة وكل شيء آخر. سأخبره أن اللعبة انتهت وأنه مجرد خاسر دون أسف".
ربما كان بروكوبوف أفضل لاعب في بلده في الخمسينيات ، لكنه أعطى زافدور ما سيتذكره إلى الأبد بعد ذلك. يتذكر هذا الأخير "صافرة الحكم (بنهاية المباراة) انطلقت. نظرت إلى الحكم، قلت: ما هي الصافرة؟ وفي اللحظة التي فعلت ذلك، كنت أعلم أنني ارتكبت خطأً فظيعًا". هنا خرج فالنتين من الماء وضرب زافدور ضربة قوية على وجهه.
يشبه زافدور الضربة التي تلقاها بأنها "لكمة من ريشة طاحونة هوائية، رأيت هذا الذراع يجثو على وجهي، وفجأة رأيت 48 نجمًا قطبيًا في السماء والدماء تنزف بغزارة من وجهي، لقد قلت على الفور يا إلهي، لن أكون قادرًا على لعب المباراة التالية".
انسكب الدم بكميات هائلة من زافدور أثناء سحبه من الحوض. وقفز أعضاء الفريق المجري وطاقم التدريب مع بعض من الجماهير التي كانت على بعد بضعة ياردات من جانب حمام السباحة فوق الحواجز وحاولوا الانتقام من السوفيت. وهنا بدأت أحداث درامية استلزمت تدخل الشرطة التي كانت متأهبة قبل المواجهة لبوادر عنف محتمل من المدرجات، ولكنه جاء من حوض السباحة.
وصف إرفين زافدور لما حدث ظل خالدًا "رجعت إلى الوراء إثر الضربة حين صفعني على وجهي. شعرت بدم دافئ يسيل. شعرنا أننا نلعب ليس فقط من أجل أنفسنا ولكن من أجل بلدنا كله. كنا نصرخ في وجوههم؛ أيها الأوغاد القذرون أتيتم وقصفتم بلدنا، لقد كانوا ينادوننا بالخونة. كان هناك قتال فوق الماء وقتال تحت الماء، وقتالنا في النهاية انتصر من أجل حريتنا، كان نصر مباراة البولو المائي رمزًا للمقاومة المجرية للاتحاد السوفيتي".
عندما صرخ الجمهور بهتاف "هاجرا مجياروك" (تحيا المجر)، وألقوا بالصواريخ على اللاعبين الروس، قرر الحكم السويدي أن يفجر صفارة النهاية هربًا من الدماء المتناثرة.
أجبرت الإصابة زافدور على الغياب عن النهائي ضد يوغوسلافيا في اليوم التالي، ولكنه حصل على ميدالية ذهبية رغم ذلك إذ فازت المجر بهدفين مقابل هدف واحد. بكى زافدور هو وأغلب أعضاء الفريق أثناء تسليم الميداليات على بلدهم الذي احترق، بلدهم الذي تركوه وراءهم للأبد ربما.
لم يستطع زافدور مغالبة دموعه أثناء تسلمّه الذهب؛ "أردت ألا أبكي ولكني لم أستطع. بعد خمس سنوات من التدريب، كنت بحاجة لتحقيق هذا الهدف، وأخيرًا فعلت رغم هذه الظروف الغريبة، لم أستطع لعب المباراة الأخيرة، وكنت على المنصة بملابس مدنية. لقد كان ذلك عاطفيًا جدًا".
بعد البطولة طلب هو ونحو نصف زملائه في الفريق اللجوء إلى الولايات المتحدة بدلًا من العودة للعيش في ظل مستقبل غامض على الرغم من أن أصحاب الميداليات الذهبية المجيدة، كان مستقبلهم الفردي آمنًا.
في الولايات المتحدة تخلى زافدور عن لعبة البولو المائي عديمة الشعبية هناك وأصبح مدربًا للسباحة حتى بلغ عمره 76 سنةً. هناك، درّب مراهقًا موهوبًا اسمه مارك سبيتز، جلب لبلاده في مشاركتين أوليمبيتين فقط تسع ميداليات ذهبية وميدالية فضية وأخرى من البرونز.