"لا معنى للحياة".. ألقتها في وجهي صديقتي المحررة، التي تقف على أعتاب الثلاثينات. تتحدث صديقتي ذات التخصص اللامع في اللغة الفرنسية كثيرًا عن الاشتراكية، والفلسفة، والإعلام، والنظام. ورغم اهتمامها الذي يتطاير في كل تلك الاتجاهات؛ كان هذا ردها عندما سألتها؛ "ما معنى الحياة بالنسبة لك؟"
بعد يومين، اتصلت فجأة صديقة أخرى، 29 عامًا إعلامية، وبعد حوار قصير أفضت إليّ بالاكتشاف الكبير "الحياة لا معنى لها، كل طموحاتنا لا شيء، نحن كبشر لا شيء".
لعلّنا ونحن نصارع من أجل طموحنا، وامتثالنا لقناعاتنا وأفكارنا؛ نشعر في أعماقنا، بعدم جدوى الصراع والسعي. وهذا ما اكتشفه أو استنتجه الفيلسوف الهندي الراحل يوجي كريشنا مورتي، وهو يحاول الوصول إلى الاستنارة عبر ممارسات التأمل المنضبطة، لينتهي به الأمر ليس فقط بالاعتقاد في استحالة الوصول إلى "النيرفانا"، هذا الفردوس الأعلى للبوذيين، ولكن بزيف كل الأفكار والثقافات والحضارات، فما نحن في النهاية إلى نبضات دمائنا، جوع، وعطش، ورغبة جنسية.
رحلة الإنسان من الإيمان للشك
على عكس المقولة الشائعة، وعنوان الكتاب الرائج لمصطفى محمود؛ فإن رحلة الإنسانية للتنوير تبدأ عند نقطة اليقين وتمضي في سبيل الاستنارة مع تبنيها للشك. لقد بدأت ثقة الإنسان في أنه محور الكون وغاية الخلق تهتزّ منذ أن اكتشف كوبر نيكوس "1473-1543" أنّ أرضنا ليست محور الكون، وأنها تشبه كل الكواكب والأجرام السماوية.
ولكن كاتبنا يوجي كريشنا مورتي يذهب إلى مدى بعيد، أبعد مما قد يتخيّله عقلنا عن عبثية وضآلة وجودنا، ممّا يجعل مجرد التعرف على أفكاره تجربة عقلية وعاطفية مليئة بالتحديات، والمخاطرة، والخوف.
سأل أحد الحاضرين في ندوات مورتي الغزيرة التي تحفل بها وسائل الإعلام الاجتماعي، "من أنت؟" فأجابه "هذا سؤال غير حقيقي، يصعب عليّ أن أخلق صورة عن نفسي وأقول (هذا أنا)، عندما أفعل ذلك؛ حينها أكف عن الوجود [لأصبح هذه الصورة]".
يدخل رجل على مورتي، وعقله مضطرب بأفكاره، اضطرابًا جعله يلقي على الكاتب والفيلسوف الهندي تساؤلا من كلمة واحدة: "عبث؟"، يجيبه مورتي منفعلًا "اخرج!، اذهب لأي مكان، افعل ما يحلو لك، لا تُضيّع وقتك هنا، لن تحصل على أيّ شيء، لماذا تزعجون أنفسكم معي؟!، لا شيء يمكن أن تحصلوا عليه هنا".
ينظر يوجي كريشنا مورتي إلى السائل، ويتحدث معه منفعلًا، يحاول تفكيك عالم السائل الباحث عن المعنى، والذي يرى في مورتي شخصًا مختلفًا، لكن الفيلسوف يصر أن يقول عن نفسه إنه لا يختلف عن أي شخص آخر، فكرة أنه مختلف لم تخطر على باله من قبل، "لا أعتقد أنك شيء مختلفٌ عنّي، ولكن عندما تسأل هذا السؤال أُدركُ أنّك وأنا نفكر بطريقة مختلفة، أحاول أن أفهم إذا ما كانت هناك مشكلة، ولكنّي لا أرى أيّ مشكلة، وأنت مهتم بالإجابات، وعندما تلقي عليّ بالأسئلة أرى أنّ هناك إجابات هي بالأساس عندك، بدون هذه الإجابات لن يكون هناك أسئلة، أنا ليس لدي أسئلة لأيّ شيء، وأنت لديك إجابة تبحث عنها في سؤالك".
ما هذا العالم الذي نعيش فيه يا كريشنا مورتي؟
في أدبيات العلوم الحديثة، بلغت ذروة "الشك الوجودي" حول قيمة حياتنا كبشر ومعنى هذه الحياة في معضلة "الماتريكس"، التي تجاهد لتثبت أننا نعيش في عالم خاص اخترعته خلايانا العصبية، مدفوعة ببرنامج مشفر في جيناتنا الغرض منه فقط؛ أن نستمر في الحياة وتناسخ الجينات "الإنجاب".
لا يوجد عالم مرئي ثلاثي الأبعاد، لا توجد أجسام صلبة وسائلة وغازية، العالم خارجنا يشبه "لغوشات" القنوات التلفزيونية التي انقضى إرسالها، وهذه الفانتازيا التي نعيشها: طموحنا ومعتقداتنا وممارساتنا، هي مُصمَّمة فقط لتستمر اللعبة، حتى نتناسخ، ثم تأخذ الطبيعة أجسادنا وتعيد تدويرها من جديد.
في هذا السياق يَبرُز لنا مورتي، يصيغ فلسفة واضحة متكاملة لهذا العبث، وانعدام الإجابات، ويدعونا إلى أن نتصالح معه، حيث لا توجد حقيقة، أو معنى، فقط طبيعة صماء عمياء.
يرفض يوجي كريشنا مورتي عالم الأفكار والثقافة والاجتماع، وينتصر للمادة (البيئة العضوية). يقول إننا نعيش في عالمين؛ العالم الطبيعي حيث الكائنات العضوية بما لديها من ذكاء هائل خاص، يجعلها لا تحتاج إلى تعلّم أيّ شيء لتعيش، وعالم الإنسان الذي يعيش "لسوء الحظ" في عالم خلقته الثقافة، نعيش في عالم من الأفكار والتجارب. ويحاول المجتمع أن يُعلّمك لتتلاءم مع الإطار الذي وضعه. يضع أمامك "التورتة"، ويقول لك: إذا أردت أن تأخذ نصيبك يجب أن تكافح من أجلها، كلّما كافحتَ أكثر حصلتَ على نصيب أكبر، لذا تضطر إلى التعليم، ولا يوجد طريقة لنظلّ أحياء سوى الكفاح من أجل نصيبنا.
نعم يوجد واقع، نحن لا نعيش في عالم وهمي أو ماتريكس، ولكن لا سبيل إلى معرفته.
ينفي كريشنا مورتي وجود طريقة لإدراك الواقع الخارجي، ويشرح ذلك بأنك لا تدرك الواقع الخارجي إلا بالمعرفة، هذه أريكة، وتلك كاميرا، تمامًا مثلما تقول هذه سعادة، وتلك تعاسة، والمعرفة بنتها الذاكرة، إدراكك هو مجرد ذاكرة تعمل، "أنت حتى لا تستمع إليّ، ولا تنظر إليّ، إلّا بآلية عقلية تفسّر ما تشعر به الحواس، تترجمه لـ(لغة) يدركها عقلك الذي يشبه ذاكرة مدربة. لا يوجد إدراك ذاتي إذن؛ وإنما معرفة موروثة مُعمّمة.
نعم يوجد واقع، نحن لا نعيش في عالم وهمي أو ماتريكس، ولكن لا سبيل إلى معرفته. ويعود ليؤكد أنّ القيم الإنسانية هي المسؤولة عن مآسي البشرية، لأنها كلها مزيفة، وما تفعله "خلقٌ للتعاسة".
يسأل أحد الحاضرين: ما أهمية الحياة إذن؟، فيجيب إجابته الشهيرة مبتسما بسخرية "هيا، اخرج وتمشّى قليلاً، وافعل شيئًا أكثر أهمية".
مورتي.. لماذا نستمع لأفكارك؟
المنعطفات التي مر بها فكر كريشنا مورتي، جعلت البعض يراه أغرب فيلسوف وكاتب. ومع اقتراب فلسفته من العدمية Nihilism؛ إلا أنه يختلف عنها جوهريًا في كونه لا يهتم برفض الأفكار والمعتقدات والأديان والمبادئ، بل لا يكترث لها على الإطلاق، فكل هذا بالنسبة له "محض عبث".
"هذا الكلب ينبح" عنوان سلسلة مصورة هزلية، تحاكي حوارات مورتي وأعدّها نيكولاس سي جراي، وجيمس فارلي، ونشرها موقع "سكرول".
اهتم نيكولاس سي جراي بحوارات مورتي إنطلاقًا من الغرابة التي غلفت حياته وفكره. يقول الموقع إنّ حياة يوجي هي الأكثر غرابة بين الفلاسفة والمعلمين. حيث قام مورتي بعدة محاولات لتحقيق التنوير، وأعلن في النهاية أنّ السعي إلى الاستنارة مستحيل. ولم يتوقف عند ذلك، بل كانت رسالته أن العقل خرافة، ومن الأفضل النظر إلى الحياة من الناحية المادية فقط، ونفي كل شكل روحاني أو ديني، ونبذ التعليم بشكل خاص.
إذن لماذا يذهب الناس إلى مورتي، ويواصلون سؤاله؟!
يقول صاحب حساب مانجو ناثا على "كورا"، أنّه رغم كونه متدينًا متحمسًا، ذهب بعد تردّد لمقابلة مورتي في بنجالور الهندية، وقضى يومًا بأكمله يسمعه، وكان هناك بعضًا من منتجي السينما. شيء واحد تأكد منه مانجو ناثا، وهو أنّ كريشنا مورتي "صادق تمامًا مع نفسه، وما قاله صحيح. ولكن عقلنا المتكيّف لا يسمح لنا بقبول أفكاره، ولا تواتينا الشجاعة كي ننكرها. إنه روح عظيمة، لا يمكن قبوله أو رفضه".
على العكس من ناثا، ينتقد نيخيل شريفاستافا، على كورا أيضًا، حوارات مورتي وفكره، ويبدي استغرابه متسائلًا "لماذا تستمعون أصلًا ليوجي كريشنا مورتي؟ إنّه ببساطة لا شيء. حالة ميؤوس منها. فشل في كل جانب من جوانب النمو الروحي. ليس له مكان قرب أوشو وجدو كريشنا مورتي، هو تحت مستوى الإنسان العادي. كريشنا مورتي حانق بلا سبب، ليس لديه أي منطق، الإنكار لا قيمة له عندما لا يكون لديك شيئا تعرضه، هو فقط شخص يعيش في حالة إنكار، ومحبط لحياته الفاشلة".
ما معنى حياتنا إذن؟
يقول لك مورتي؛ "أنت تبحث عن معنى ما، غرض ما، والأديان تقدم كل الإجابات عن ذلك، ولكنك لا تزال تبحث عن معنى، دائمًا تتطلّع لشيء يثير اهتمامك، والأكثر أهمية بالنسبة إليّ هو المزيد من المعنى والهدف لأفعل، وهذا ما أفعله في هذه اللحظة، إن لم يكن هناك ما يهمّني سأشغِّل التلفزيون وأُسلّي نفسي، لماذا يجب أن تسلي نفسك، لمَ لا؟! كلّ الأشياء هي مُسلّية بالأساس".
يسأله أحد المتابعين "أنت تمتلك دافعًا بداخلك، وهذا ما يدفعك للتحدث معنا"، فيرد عليه "اذهب إلى الجحيم، اذهب هذا ما أقوله".
ينفعل كعادته ويقول أنا لا أقول هذه الأشياء لغرض أن أتحدث عن هذه الأشياء، لماذا تتحدث بشكل عبثي لتسأل هذا السؤال، لماذا خطر هذا على بالك؟ أنت الشخص المسؤول عن كل هذا الحديث، إذا انصرفت ستكون نهاية القصة المسلية.
ينفي مورتي عن نفسه "تهمة" التحقق عبر صياغة هذه الرؤى وطرحها على الناس، لا يوجد تحقق نفسي واجتماعي بالنسبة له، "أنا أعيش مأساتي الخاصة"، ويرجو من السائل ألا يُسقط هذه "الصورة" عليه، إنه ليس شخصًا متحققًا؛ وإنما "إنسان يعيش مثل البشر مأساته الخاصة في وجود عبثي".
وينتقد مورتي فكرة التغيير واصمًا إياها بأنّها "مُدخَل ثقافي"، يقول مورتي "تقول لنفسك لا بد أن تصبح شخصًا آخر غير ما أنت عليه، لتتولّد حركة في اتجاه هذا الشخص الآخر، ويصف تلك العملية بالمشكلة. تقول لنفسك (هذا أنا، أريد أن أكون شيئًا مثل ذلك). ولا يهمّ إذا كان الهدف ماديا كأن تصبح مليونيرًا، أو روحانيًا كأن تصبح رجلًا صالحًا. كلاهما نفس الشيء، كلاهما يدفعك لأن تكون آخر غيرك، وهنا تبدأ المشاكل".
وبعد أن ينتقده أحد الحاضرين، يقول مورتي منفعلًا "لماذا تأتي إليّ، أنت تخسر فرصة ثمينة لحل مشاكلك بنفسك، لا يوجد شخص خارجك يمكن أن يساعدك، لا يوجد مكان يمكن أن تتحرر فيه".
ولكن كيف نعيش في عالم لا نعرفه؟
إن كان كريشنا مورتي يرفض المعرفة والتعليم، ويرى أنها تعمل على قولبة الإنسان وصياغته ليصبح واحدًا من ملايين الوحدات المتشابهة التي تدرك العالم وتدرك نفسها بنفس الطريقة كالباقين؛ فما هي إجابة التساؤل المحيِّر: ماذا علينا أن نفعل كبشر حيال هذا؟ هل يوجد خلاص؟
كعادته؛ إجابة كريشنا مورتي صادمة "لا توجد فرصة، هذا هو العالم، تعيش في مأساة، وتموت في مأساة، ولا يوجد مَخرَج، عدا أن تأخذ عقاقير مهدئة وتخلد إلى النوم بعض الوقت، وستضطر إلى أن تستيقظ مرة أخرى، علّموا أنفسكم النوم لصالحكم".
يسأله أحدهم ما العلاقة بيننا وبين العالم الذي نعيش فيه، يجيب مورتي "مُطلَقًا لا توجد علاقة. لا يوجد شيء عدا العالم الذي تختبره، وهذا العالم أنت الذي خلقته، وتحاول أن تسقطه على العالم".يعتقد مورتي أنّ التساؤل في حد ذاته مرتبط بالموت، هما وجهان لعملة واحدة، وإن وُجِد حكيم على وجه الأرض قرر تقديم إجابة لتساؤل، فسيختفي التساؤل. لكن الحقيقة هي أن التساؤلات لا تختفي؛ بل تتكرر بتكرار حيرة البشر، وهذا يعني أنه لا توجد إجابات.
أما كريشنا مورتي فيقول عن نفسه "ليس لدي أوهام لأمنحها لكم. الطبيعة لا تستخدم الثقافة، الطبيعة لا تعني بقيمنا وآلهتنا، الطبيعة تريد جسدك فقط لتعيد تدويره".
من أنا يا مورتي؟
في فيديو بعنوان "أنت لا ترى شيئًا" يشير يوجي كريشنا مورتي إلى "الوعي الذاتي"، أن تدرك نفسك كذات منفصلة عن العالم، باعتباره بداية المأساة، وخطأ كبير ارتكبته الطبيعة، حيث يفصل "الوعي الذاتي" العالم الداخلي للإنسان عن عالم الطبيعة الخارجي. ويرى أنّ الإنسان يعيش حياة بائسة، هناك كفاح، وألم، وحزن، وما يطلبه الإنسان، ككائن عضوي، فقط هو "بيئة تدعم بقائه حيًا"، هو "الديمومة"، لا السعادة ولا المتعة، ولا الحقيقة. كل تلك خرافات اختلقتها الثقافة بسبب "الوعي الذاتي"، والحقيقي في الإنسان "الشهوة الجوهرية في البقاء أحياء".
"الوعي الذاتي" هو المسؤول عن المعتقدات الدينية، والأيدولوجيات السياسية. ولكن في النهاية "آلية بقائنا هي امتداد لنفس آليات البقاء لهؤلاء الذين يؤمنون بالله، أو لا يؤمنون به"، كلنا نريد كمؤمنين وكَفَرَة أن نأكل ونشرب ونمارس الجنس وننجب أولادًا وبناتًا. "والوعي الذاتي" ليس ضرورة من أجل البقاء؛ بل هو "خطأ طبيعي"، خطأ كبير يدمر كل شيء. يقول كريشنا "أنا لست قلقًا حيال استمرار النوع البشري، كلّ النوع البشري هو امتداد لنفسك، النوع البشري هو تجريد من صنعك، أنت تتخيّل النوع البشري وتُسقط خيالاتك على الواقع، وتقول (هذا يجب أن يعيش إلى الأبد)".