تشهد مصر أزمة في توفر البطاطس قبل بدء ظهور المحصول الجديد. فقد ارتفعت أسعار بيع البطاطس بشكل كبير في الأسواق، وتُرجع الحكومة السبب في هذا الغلاء لجشع التجار، الذين تتهمهم بتعمُّد "تعطيش السوق" بهدف رفع أسعار محصول البطاطس وتحقيق أرباح كبيرة.
في نظري يبدو الأمر أكثر تعقيدًا من هذا، ولا يتعلق بمحصول البطاطس تحديدًا؛ ولكن له علاقة بقطاع الزراعة ككل. ولا يتعلق سعر بيع أي محصول بالتجار -بشكل مباشر- بل يتعلق بالنظام الإقتصادي ككل وتحوله ناحية النيوليبرالية، مع حزمة الإصلاح الإقتصادي التي تنفذها السلطات المصرية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والتي تغيّر من إدارة العديد من القطاعات الحيوية في الإقتصاد، ومنها بطبيعة الحال، قطاع الزراعة.
سلسلة متصلة
الزراعة عملية إقتصادية حيوية تتشكل في مصر عبر عدد كبير من المزارع المنعزلة – نتيجة تفتت الحيازات- وتتحدد علاقة هذه المزارع بالسوق المُحيط بها بواسطة "التجارة". وحركة البضائع التي تتم في عملية التجارة هي التي تؤمِّن "التحام" الفلاحين بالاقتصاد ككل.
لهذا؛ فإن ضبط وضع "التجارة والصناعة" وتناغمهما مع اقتصاد الريف المصري، هي مهمة السياسة الاقتصادية الجديدة. ومع كونها الخطوة الأكثر إلحاحًا؛ إلا أنها الأشد تعثُرًا في خضم انشغال الدولة بضبط سياساتها المالية عبر تقليل من القيود على سعر صرف العملة وقوانين الاستثمار ورفع الدعم عن الطاقة، وغيرها من السياسات التي تستهدف خفضًا عاجلاً لعجز الموازنة، دون كثير من الاهتمام بقطاعات الاقتصاد الحقيقي المُولّدة للدخل وعلى رأسها الزراعة والصناعة.
سعر كيلو البطاطس مثال جيد على نتائج التعقيدات الاقتصادية التي أدت لها السياسة النقدية الجديدة، خصوصًا بين مجالي الصناعة والزراعة، والتي تظهر بوضوح في مجال صناعة الأسمدة – مثلًا، الذي شهد زيادة في الأسعار بلغت 7% بشكل رسمي بعد تعويم العملة في العام 2016. وهذا بعيدًا عن السوق السوداء التي يبلغ سعر شيكارة الأسمدة فيها الضعف تقريبًا. وكنتيجة مباشرة لقرارات زيادة أسعار الطاقة خصوصًا الغاز الطبيعي والكهرباء (وهي مكون مهم في صناعة الأسمدة). وأعلنت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي رفع أسعار بعض الأسمدة بواقع 90 جنيها للطن الواحد في 2018. بالإضافة إلى زيادة موسمية ترتبط بمواسم الخضروات والفاكهة، ترتفع معها أسعار الأسمدة بنسبة من 8 إلى 10%، خلال الموسم.
كل هذه الإجراءت يمكن أن نصنفها ضمن إجراءات رفع الدعم عن الإنتاج الزراعي – ولو بشكل غير مباشر. وهذا ما سيكون له أثار سلبية خصوصًا على صغار المُلاك من الفلاحين.
يشير عبد المولى إسماعيل في دراسة بعنوان "ثورة الخامس والعشرين من يناير وحدود العدالة والإنصاف فى توزيع الموارد الزراعية في مصر: الأرض والمياه" طُرحت في منتدى الأرض – الدورة الثالثة، القاهرة ، يناير 2012، أن الزراعة في مصر مازالت تتركز في أيدي صغار الفلاحين، حيث يملك 95% منهم نسبة 57% من الأراضي المزروعة.
بالإضافة إلى عملية النقل التجارية للمحاصيل الزراعية إلى الأسواق – التي يعول عليها خبراء الإقتصاد بضبط نفسها ذاتيًا طبقًا للعرض والطلب- فقد ارتفعت الكارتة "رسوم عبور بوابات المحافظات" بنسبة 75% على سيارات نقل الخضر والفاكهة المحملة، فكارتة السيارة "نصف نقل" زادت إلى 25 جنيها بدلا من 15 جنيها، وكارتة الـ "جامبو" سجلت 65 جنيها بدلا من 35 جنيها. بالإضافة إلى زيادة رسوم شاحنات النقل الثقيل المتجهة نحو الأسكندرية والبحيرة إلى 300 جنيه للسيارة، و350 جنيها للسيارات المتجهة إلى باقى محافظات الوجه البحرى. أما بالنسبة للشاحنات التى تتجه إلى القاهرة الكبرى والصعيد؛ فيتم تحصيل كارتة بقيمة 500 جنيه على كل شاحنة عبر البوابات. هذه السيارات تحديدًا تنقل المستلزمات الزراعية من المصانع، إلى المراكز والقرى المستفيدة من تلك المستلزمات كالأسمدة والآلات الثقيلة، أو حتى مشتقات البترول التي تغذي المناطق الزراعية.
وبعد كل هذه الزيادات، إن استطاع الفلاحون شراء الأسمدة والمستلزمات الزراعية بالأسعار القريبة من الأسعار العالمية، ولم يهجروا أراضيهم؛ فهل ينتظر منهم بيع محصولهم بالأسعار المحلية؟
لو تم هذا؛ سيعني خسارة الفلاح من رأسماله وتراجع وضعه اقتصاديًا وعدم قدرته على المنافسة أو حتى الاستمرار في نشاطه كمُنتِج زراعي.
النتيجة الطبيعة لزيادة تكاليف عملية الإنتاج ليست فقط غلاء السلع الزراعية؛ بل وهجرة الفلاحين للزراعة كنشاط جالب للرزق، وانضمامهم بالآلاف للمدن الصناعية (محدودة القدرة على التشغيل) والالتحاق بطوابير العاطلين، وهذا يؤدي بالضرورة لنشأة وتضخم ظاهرة العشوائيات التي تعاني منها مصر في الأساس.
لو افترضنا أن الحكومة وصندوق النقد يريدان التحول إلى الزراعة الرأسمالية، يجب أن نشير إلى أنه لا يمكن أن يتم هذا عبر معطيات حسابات خبراء المال وحدها، كما لا يمكن الإعتماد أيضًا على آلية السوق خصوصًا قانون العرض والطلب الذي لا يمكنه الصمود كقاعدة مادية - إصلاحية ضرورية لفترة طويلة.
صحيح أن نجاح تجارب تطوير القطاع الزراعي فى بلدان أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكندا واستراليا، وإحلال الميكنة الزراعية محل الأفراد؛ رفع من إنتاجية المزارع إلى مستويات غير مسبوقة فى التاريخ، فبلغ إنتاج العامل سنويا 1500 طن من الحبوب حسبما يذكر الخبير الاقتصادي الراحل سمير أمين في كتابه "مستقبل الزراعة في ظل الرأسمالية المعاصرة"؛ ولكن هذا تم عبر عدد ضئيل من العمالة ـ حوالى 5% من القوى العاملة في المجال الزراعي بحسب نفس المصدر– وقد قامت بإنتاج كميات ضخمة لإطعام سكان المجتمع بأكملهم بوفرة، بل سُمح حتى بإنتاج فائض للتصدير.
لكن هل يمكن تكرار نفس التجربة الغربية في مجتمعات العالم الثالث؟ بحسب الكتاب نفسه لسمير أمين، فإن مصر يتركز 57.8% من إجمالي عدد سكانها في ريف الجمهورية، مقابل 42.2% يعيشون بالحضر، وذلك وفقا لنتائج تعداد مصر لعام 2017. وفي الإحصاء نفسه يتركز نحو 80% من الأيدي العاملة في المناطق الزراعية، وإن لم يمارسوا جميعهم نشاط الزراعة.
لذا فقد يكون الاعتقاد بضرورة التحول الرأسمالي للزراعة على النمط الغربي، مدعومًا بالأرقام التي تثبت نجاحه في الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن اللجوء إلى الحقائق التاريخية الاقتصادية المتصلة بتحقق ذلك التحول الناجح، كفيل بدفعنا لمراجعة نظرتنا تلك.
الروشتة الغربية لـ"رسملة" الزراعة، تتشكل من اللجوء إلى ميكنة الأراضي وغياب الدعم للأسمدة والمستلزمات الزراعية، وغياب تعاونيات الفلاحين المختصة بتسويق منتجاتهم بشكل جماعي لضبط الأسعار والحفاظ على مصالحهم في مواجهة التجار.
الداعون إلى تبني الروشتة الغربية في التحول الرأسمالي للزارعة يتجاهلون ظروف التجربة الغربية التي اعتمدت على قرن ونصف من صعود الصناعة كثيفة العمالة. فالمصانع وأراضي العالم الجديد "استراليا وأمريكا" ساعدوا أوروبا على إستيعاب الأيدي العاملة المطرودة/ الزائدة عن الحاجة في مناطقها الزراعية.
ولهذا تبدو بعض شروط التحول الرأسمالي للزراعة غائبة تمامًا في مصر. فالقطاع الصناعي ضعيف، ونمو القطاع الخاص بطيء، بالإضافة إلى عجز الإنتاج نفسه عن المنافسة سواء في الأسواق المحلية أو الدولية. وتجاهل مثل هذه الظروف يشكل خلل نظري في حسابات القائمين على قوانين وتكتيكات الزراعة في مصر.
وعلى أساس المعطيات الرقمية من تآكل الرقعة الزراعية المملوكة لصغار الفلاحين، وفي ظل الظرف الاقتصادي الصعب الذي تعيشه مصر، لا يمكن أبدًا تصفية الزراعة القروية لحساب الزراعة الرأسمالية. فما تشهد به النماذج الشرقية في الصين وفيتنام، هو أن الاعتماد على صغار الملاك والفلاحين يمكنه أن يدفع بالإنتاجية بمعدلات جيدة. فقد استطاع الفلاحون رفع إنتاجية العمل فى القطاع الزراعي القروى حتى أصبحت تعادل ما بين 10 الى 30 طنًا من الحبوب للفدان سنويًا. بحسب كتاب سمير أمين الذي سبقت الإشارة إليه.
الحل عند الصين
يشرح الخبير الراحل "سمير أمين" في كتابه "مستقبل الزراعة في ظل الرأسمالية المعاصرة"، التجربة الصينية لإنعاش الزراعة القروية، والتي ضمنت إنجازات اجتماعية بعيدة المدى، تمثلت في المساواة بين العائلات الريفية في الحصول على الأرض، ومنع تداول الأرض بالبيع والشراء والتأجير.
يقوم النموذج الصيني على الإنتاج الصغير دون الاعتماد على مبدأ الملكية الصغيرة، بمعنى أنه حتى مع الحيازات الكبيرة يتم تقسيم الأراضي، بحيث يخدم إنتاجها الاحتياجات القائمة، سواء للاستهلاك أو التصنيع التحويلي أو التصدير.
المشروع الزراعي الصيني مخطط ضمن استراتيجية وطنية متكاملة تنطلق من "سياسة التنمية الوطنية المستقلة". فالصين سارت على قدمين، إحداهما تتمثل في بناء منظومة إنتاجية صناعية شاملة، قادرة على أن تتحرك بقدر من الاستقلال يضمن الإخلاص في العمل سعيًا للربح، مع عرقلة أي محاولة للتوسع الاحتكاري أو التحول إلى الإنتاج من الباطن لصالح الاحتكارات الدولية.
أما القدم الثانية فتتجلى بالتحديد فى تطوير القدرة الإنتاجية الزراعية من أجل تحقيق الاستقلال الغذائي، على أساس من تدعيم المنشأة العائلية.
ويتيح مشروع الصين للزراعة ضبط حركة الهجرة من الريف للمدن، ومنع تكون العشوائيات التي تنشأ وتتوسع مع هجرة الفلاحين إلى المدن القريبة بحثًا عن عمل بديل. بل يكون توجه الفلاحين للأنشطة الصناعية مقننًا بالعمل في فترات توقف الزراعة فقط كعمالة صناعية موسمية.
الزراعة القروية في ظل الحيازات والملكيات الصغيرة والمتوسطة للأراضي يمكن أن تزيد من إنتاجها بالتعاون مع الدولة، عبر الاهتمام والتوسع في استخدام أدوات الإنتاج المستحدثة مثل المحراث أو الجرارات الصغيرة، والعمل على دعم وتوفير وسائل الري، ودعم الأسمدة والمبيدات، وإتاحة البحوث وتقديم النصائح للفلاحين بخصوص البذور المنتقاة، وسبل الزراعة والري الأمثل للحصول على أفضل نتيجة ممكنة.
ليست النهاية
يبدو الأمر أكثر تعقيدًا من سعر كيلو البطاطس في سوق العبور أو المحافظات، وجشع التجار لمراكمة الأرباح، بل له علاقات بسياسات إقتصادية وأدوات إنتاج ونظم مالية تؤثر على الوضع الإجتماعي في مصر. اويحتاج الوضع الاقتصادي -على الأقل- منا للكثير من المراقبة والتحليل ودراسة النماذج والتجارب الاقتصادية- الزراعية المختلفة لتعلم ومحاولة تجنب الأخطاء، من أجل تنظيم عمل السوق، فالاعتماد عليه وعلى يده الخفية لتصحيح أوضاعه، قد لا يكون كافيًا في ظل حزمة الإصلاح المصرية.
اقرأ أيضًا: السد والأرز والدولة.. العنصرية البيئية تجاه فلاحي الدلتا