منذ يومين؛ قضت منّة، طالبة الصف الخامس الابتدائي أول أيامها في المدرسة التجريبية القريبة من منزلها في مدينة العبور، بعد 4 سنوات في مدارس اللغات. دافع النقل لم يكن المسافة في المقام الأول، لكن الوضع الاقتصادي وجودة التعليم كانا وراء القرار.
"أنا زعلت إني هسيب أصحابي، بس مبسوطة إني هسيب المدرسين"، ظنت الفتاة في بادئ الأمر أن والدتها تعاقبها بالنقل لمدرسة تتعدى كثافة الفصل فيها 50 طالبًا، لكن وجهة نظر الأم ياسمين أقنعتها في النهاية.
تقول ياسمين اسماعيل "أول ما دخلت منّة المدرسة كنت بدفعلها 6 آلاف جنيه بالباص، دلوقتي مطلوب مني أدفعلها 14 ألف جنيه ومن غير الباص". بحسبة ياسمين فإنها تحتاج أكثر من 40 ألف جنيه في العام لتكفّي مصاريف المدرسة لثلاثة بنات: منة الكبرى، ويارا وحبيبة أختاها التوأم، طالبتا الصف الثالث الابتدائي.
تضيف ياسمين"ده غير الدروس اللي باضطر أديها عشان المدرسين مش متخصصين في موادهم. فالحل كان إني أوديها تجريبي وأديها كورسات بفلوس المدرسة الخاصة أحسن".
الطفلة منّة كانت لا تفضّل مدرسيها في المدرسة الخاصة لأنهم يتعاملون بقسوة معها لأنها كثيرة الأسئلة. في المقابل، فإنها مطالبة باستيعاب "كلام كثير مكتوب على البورد وما بلحقش أكتبه"، دون تساؤل أو مطالبة بإعادة الشرح في مواد تقول إنها لا تراها مفيدة "لأنها مش هتخليني أطلع الحاجات اللي أنا عايزاها".
ما واجهته منّة من سوء معاملة لم يكن حصرًا عليها، أختاها التوأم، يارا وحبيبة، بحسب والدتهن واجها القسوة في المعاملة والضرب أحيانًا لنفس الأسباب "لما بتيجي تشتكي بيقولوا لي بصراحة لو مش عاجبك شوفي لك مدرسة تانية".
شوفي لك مدرسة تانية
من بين 7 آلاف مدرسة خاصة، بحسب الاحصاء الأخير للمدارس الصادر من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، انتقلت ياسمين ببناتها بين ثلاث مدارس، في كل مرة تجد نفس المعاملة والمصروفات المرتفعة.
خلال رحلتها بين المدارس الثلاث قدمت الأم، فردًا مرة وكجزء من مجموعة من أولياء الأمور مرات، عدّة شكاوى بخصوص رفع المدارس الخاصة مصاريفها بالمخالفة للقرار 420 لسنة 2014، والذي لا يسمح للمدارس الخاصة رفع مصاريفها دون موافقة الوزير، ولا يسمح للمدرسة الخاصة تقديم الطلب إلا كل 5 سنوات بحسب المادة 36 من القرار.
تقول ياسمين "لما بنروح نقدم شكوى جماعية بيقولوا لنا هنشكل لجنة، وأحيانًا في لجان بتروح المدارس فعلًا لكن مافيش حاجة بتحصل، وأحيانًا المسؤولين في الإدارة بيتهربوا مننا وما بيرضوش يقابلونا". وفي وقت تزيد فيه الأسعار أسرع من المرتبات، كما تقول ياسمين، فإن قدرتها على مجاراة أسعار المدارس ومصاريفها لثلاث بنات تظل محدودة.
وفي ظل الارتفاعات الكبيرة في مصروفات المدارس الخاصة، كما تقول ياسمين وأولياء أمور آخرين التقتهم المنصّة، يصبح انتقال الأبناء إلى المدارس التجريبية أمرًا موفرًا، ويفتح مساحات للأهالي للاستثمار في تعليم أولادهم، على الرغم من أن عدد المدارس التجريبية في مصر يصل إلى 2445 مدرسة بحسب آخر إحصاء لعدد المدارس من الوزارة، في حين يصل عدد المدارس الخاصة واللغات ضعف هذا الرقم.
الكثافة العددية الكبيرة في فصول المدارس التجريبية واحد من الأزمات التي تواجه الأسرة، حتى في مدرسة حديثة البناء مثل التي سجلت فيها منة في مدينة جديدة وذات كثافات سكنية منخفضة كالعبور. "المدرسة مبنية السنة اللي فاتت بس العدد بيوصل لـ 50 في الفصل. ده رقم صعب، وكمان مؤشر إن فيه ناس كتير خرّجت ولادها من المدارس الخاصة ولجأت للتجريبي" تقول الأم.
آثار قلة عدد المدارس التجريبية مقارنة بالخاص نجده في محاولات ياسمين نقل بناتها "قالوا لي أنت في آخر القائمة وقبلك طلاب المدارس التجريبي من محافظات وأحياء تانية مع إني الأقرب، بس كان كلامهم إني استحمل مدام اخترت أروح في الأول مدرسة خاصة".
ظلت ياسمين طيلة شهور الصيف تسعى في النقل حتى وجدت لبناتها الثلاث مكانًا، حتى بداية المدرسة بأسبوعين كانت الفتيات على قائمة الانتظار دون تأكيد على دخولهن. إسماعيل أحمد، موظف بإحدى شركات الطيران واجه نفس المشكلة.
إسماعيل ألحق ابنه بإحدى المدارس الخاصة بحي مدينة نصر منذ عامين"المصاريف الأول كانت 4 آلاف جنيه، السنة اللي بعدها زادت ألف، واللي بعدها زادت 3 آلاف. لما رحنا اشتكينا قالولنا إحنا المفروض نخليها 12 ألف بس إحنا راعينا ظروفكم وظروف البلد وبقت 8 بس".
قرر إسماعيل نقل ابنه إلى المدرسة التجريبية القريبة العام الماضي مستغلاً سنه الصغير، تجنبًا لأية آثار قد تحدث جراء نقله وهو في سن أكبر "الولاد كل ما كبروا بيبقى عندهم مشكلة يسيبوا صحابهم والمستوى اللي متعودين عليه في المدارس".
يقول اسماعيل إنه انتظر طويلاً حتى يحصل لابنه على مقعد في المدرسة التجريبية، وعادة ما يذهبون للمدارس فيرفض مديروها إلحاق أبنائهم من الأصل بحجة الكثافة العددية، هذا ما واجهته ياسمين أيضًا، وأحمد سعيد، المدرس القاطن في حي المطرية، والذي حاول نقل ابنه للثلاث مدارس إلى أن وجد أخيرًا مقعدًا خاليًا له.
حاول سعيد منذ سنتين إلحاق ولده بمدرسة خاصة، لكنه وبعد عامين وجد أنه لا يستطيع مجاراة قفزات أسعار المدارس الخاصة "سنّ الولد كان صغير على المدارس الحكومية، والمنطقة كل المدارس والحضانات فيها شعبية جدًا، كنت محتاج مكان للولد يتعلم فيه كويس فدخلته رياض أطفال في مدرسة خاصة"، لكنه الآن انتقل بولده إلى المدرسة التجريبية القريبة من المنزل.
يضيف سعيد "لو المصاريف لها معدل ثابت كنت عملت جمعية أو اتصرفت زي ما الناس بتتصرف، لكن كل سنة بيعلّوا عليها ومافيش رقابة من الحكومة، فاللي بيدفع الفاتورة هو ولي الأمر".
الحل: كورسات لغات لتعويض المستوى
يتشارك سعيد وياسمين وإسماعيل الطموح نفسه، تعليم جيد لأبنائهما يوفر لهم التميز في العمل، ومن ثم تحقيق مستوى اقتصادي جيّد، وهم يتشاركان القناعة بأن المدرسة، الخاص منها والعام، لن يحققا هذا الطموح، لهذا فهم، وكثير من أولياء الأمور، تحوّلوا من الاستثمار في المدارس الخاصة للاستثمار في كورسات وأنشطة يعتقدون أنها تفيد أولادهم أكثر، ويحركهم إلى هذا المسار الأوضاع الاقتصادية المتردية.
يرى سعيد أن الأموال التي يدفعها مقابل تسجيل ابنه في مدرسة خاصة يمكنه أن يدفعها في مقابل كورس اللغة الإنجليزية في المركز الثقافي البريطاني أو الجامعة الأمريكية، نفس الأموال لكن ابنه سيحقق نتائج أفضل وسيتعلّم اللغة الإنجليزية بشكل أفضل "فيه كورسات دلوقتي في الأماكن دي مناسبة للطلبة اللي زي ابني، أدفع الفلوس فيها أحسن"، يضيف "النظام الجديد دلوقتي ساوى التجريبي بالخاص فمش مستاهلة".
يضيف سعيد " المدارس الحكومية موفرة لي ميزة تانية إني أقدر أدخله تجريبي مش حكومي عادي. هي أغلى بنسبة بسيطة بس ابني قاعد مرتاح"، يقول سعيد إن ابنه سيكون أكثر راحة مع المدرسة الجديدة لأنها أقرب "الولد كان بيجي مستهلك لأنه بيقضي ساعتين أو 3 في الطريق".
أما ياسمين، فتخطط استثمار الأموال التي ستوفرها من نقل بناتها الثلاث إلى مدارس تجريبيّة، في كورسات لغة وتنمية لمهارات ومواهب الفتيات. بالنسبة لمنّة، فإن ما شجعها على خطوة ارتياد المدرسة الجديدة هو وعد والدتها لها بالالتحاق بكورس الجرافيك الذي طالما أرادت الالتحاق به منذ مشاهدتها فيلم الرسوم المتحركة "موانا".
https://giphy.com/embed/3MdVg9XmXtOIu6Azoovia GIPHY
تحكي منّة أنها سألت والدتها وهي تشاهد الفيلم عن الكيفية التي خرجت بها هذه الشخصيات "قالتلي ده كورس الناس بتروح تاخده وبعدين بيعرفوا يطلعوا الشخصيات كارتون على التليفزيون"، منذ العام الماضي ومنّة تحلم بالكورس الذي تجد فيه تنمية حبها للرسم، وعندما وعدتها أمها بالالتحاق بالكورس إذا انتقلت للمدرسة الجديدة؛ وافقت منة على الفور.
بجانب كورس الجرافيك، فإن ما شجع منّة للموافقة على الانتقال لمدرسة أقل هو توفير وقت لممارسة الأنشطة الأخرى التي تحبها. تقول الفتاة إن المذاكرة والحضور اليومي للمدرسة يسببان لها التوتر ويضيّقان الوقت الذي سيسمح لها فيه بممارسة الأنشطة التي تحبها "الأجازة اللي قبل اللي فاتت ماكنتش بعدي يوم ما برسمش فيه، بس أول ما دخلت المدرسة اللغات بطلت أرسم لأني ببقى متوترة والمذاكرة كتير ومش بعرف أعمل الأنشطة اللي بحبها، المرة ديه أنا مبسوطة عشان الوضع هيبقى مختلف".
الخوف من البيئة
لا تريد ياسمين لأودلاها الذهاب كل يوم إلى المدرسة، لا تهتم كثيرًا بدرجات أعمال السنة، ترى أنها ثمن بخس مقابل تقليل الوقت الذي يقضيه أولادها في التوتر والمذاكرة والبحث عن الدرجة "درجات أعمال السنة في إيد مدرس لو ما حبش بنتي ممكن جدًا ينقّصها، وده اللي حصل معاها السنة اللي فاتت في مدرسة اللغات لما مدرس نقصها في الدرجات عشان كانت بتسأله كثير ولما بيكلمها بطريقة مش لطيفة بتقوله لو سمحت يا مستر كلمني كويس".
تحكي ياسمين أنها كانت مثل أي أم تنقل لأولادها في مدرسة جديدة لديها هواجس من أي نقص في الدرجات وتضع أمام أعينها هدف الدرجة الكاملة أو الـ full mark، لكنها وجدت نفسها "بتخبط راسها في الحيط"، على حد تعبيرها، فحولت اهتمامها إلى إكساب بناتها مهارات تجعلهن مميزات وتساعد في بناء شخصياتهن، لكن قرارها أيضًا مرتبط بالسياق الاجتماعي الذي ستضع فيه البنات في المدرسة الجديدة.
أين أصحابي؟
ياسمين وابنتها متوجستان من زميلات منّة الجدد في المدرسة، واللاتي لم يأتين بالضرورة من نفس الخلفية الاجتماعية التي تأني منها الفتاة وأمها، تقول منّة "خايفة يضربوني أو يتخانقوا معايا وأنا مش بأعرف أتخانق ولا أتعامل مع حد مش متعودة عليه". ياسمين تحكي أن ابنتها عبّرت عن هذا التوجّس بوضوح في امتحانات القبول في المدرسة الجديدة "حلفت لو راحت لقت المدرسين مش زي اللي هي متعودة عليهم، والطالبات مش شبهنا مش هتجاوب".
تضيف ياسمين "هاعمل حاجة زي الهوم سكولينج.. كده كده الفصل فوق الخمسين طالب والرقم ده صعب جدًا، البنت هاتفهم إزاي؟ ولو قالت للمدرس اشرح لي تاني هيكون رد فعله إيه؟".
ثورة أمهات مصر
هذا التوجّس شائع بين أولياء الأمور كياسمين وخالد صفوت، مؤسس جروب ثورة أمهات مصر، الذي كانت له تجربة مع ابنه الذي انتقل من مدرسة لغات لأخرى تجريبية قبل عامين "ابني كان في "خاص" لحد تانية ابتدائي، ونقلته تجريبي بسبب الارتفاع الكبير في الأسعار وعدم وجود رقابة على مصاريف المدارس".
يحاول صفوت من خلال الجروب الذي أسسه تحت اسم "ثورة أمهات مصر" تشكيل لوبي لأولياء الأمور في مواجهة ما يقول إنه لوبي أصحاب المدارس الخاصة. "بينظموا مع بعض رفع المصاريف. إنت كولي أمر لو مش عاجبك ومش عايز تمشيمن مدرسة مش هاتلاقي بديل أوفر"، يقول خالد صفوت، مضيفًا "للأسف اللوبي دا منظم أكتر من الوزارة".
من موقعه كمؤسس لجماعة الضغط هذه، يرى صفوت الكثير من المشكلة الاجتماعية التي تنتج بسبب انتقال الطلاب خاصة في سن كبيرة من بيئة مدرسية لأخرى مختلفة عنها "ابني كان محظوظ إنه اجتماعي وتربية حضانات من وهو صغير لظروف عملنا أنا وأمه، فكانت مشاكله أقل وتعود بسرعة، لكن في ناس ما بتقدرش تكمل".
يقول صفوت إن الاختلاف في البيئة لا يتضمّن الاختلاف في الخلفية الاجتماعية للطلاب فقط لكن أيضًا في المعارف وطرق تلقّيها. "علاقة غالبية الطلاب في المدارس التجريبية ممكن تبقى مرتبطة أكثر بالموبايل التاتش، مقابل طالب المدرسة الخاصة اللي بيبقى بيتعامل مع أجهزة تانية زي اللابتوب والتابلت وخلافه، في أطفال بيحصلها صدمة لما تلاقي نفسها منفصلين عن البيئة اللي هم عايشين فيها".
الأربعة: ياسمين، سعيد، صفوت، واسماعيل اجمعوا على إن انتقال أولادهم للمدارس التجريبية لن يؤثر في تحصيلهم الدراسي، ذلك وأن ما يميّز المدارس الحكومية عن الخاصة في كل الأحوال، هو تخصص مدرسيها في موادهم، وتخرجهم من كليات التربية، ما يؤهلهم للتعامل مع الأطفال أكثر من أغلب مدرسي المدرسات الخاصة. يقول صفوت "المدارس اللي في المستوى من 10 – 20 ألف جنيه كفاءة المدرسين فيها قليلة، لأنك على قد ما هتدفعي، على قد ما هتاخدي".
اقرأ أيضًا: خلاصة الرحلات الخائبة للإنترفيو: لا مدارس لأبناء المطلقات