شاب قادم من أقصى الصعيد محمل بخلافات الأهل ورهانات الفشل، يتنقل بين الغرف والمساكن، يغني في أفراح الشوارع بالنقطة، صبرٌ طويل ينتهي بصدفة تجمعه بمن آمن به، ومن الومضة الأولى يضيء بصوته أحياء مصر وآذان أهلها، نجاح مستمر لأكثر من 15 سنة يصل به إلى مسارح موناكو بل ومسرح توزيع جوائز نوبل، ثم ماذا؟ سبع سنين من الخفوت والهبوط التدريجي حتى كاد يُنسى كأن لم يكن، قبل أن يعود مجددًا ويجعل مصر كلها تردد: "وهم استغنوا عني".
منذ أيام تراءى أمامي فيديو عنوانه "أغنية ما شبعتش خصام"، أغنية جديدة لحكيم من توزيع إسلام شيسي وميدو مزيكا.
خصامك عسل..ودلعك عسل.. بحبك وأموت في هواك.
حكيم.. ما كنا نبغى.
وسط فخر الكثير باعتلائهم القمة منذ زمن ترى حكيم قد قام بالأصعب، فهو لم يحافظ على اكتساح صوته الذي يغمر مصر شرقًا وغربًا، بل أفل نجمه وكاد أن يختفي تمامًا ثم عاد من جديد بنجاح فاق التوقعات، في وسط غنائي قاسٍ لا يعرف تلك المرونة، فإما أن تحافظ على نفسك فتستمر لا تحيد وإما أن تندثر تمامًا، حكيم هو من فقد القمة ثم عاد إليها، ودونما احتياج أن يتفوق على أحد، فقط تفوق على نفسه، على حكيم الذي أفل.
حكيم منذ البداية وقد وُلد ضخمًا، هي الفطرة التي تُشع بهجة و"زقططة" لا يمكن تعليمها في أي معهد موسيقي، فمع أول ألبوماته جعل الشارع المصري كله يردد "بيني وبينك خطوة ونص.. لا بتسلم ولا بتبص"، لم يكن صاحب الفرقعة اللحظية التي لا تدوم، بل كانت البداية لسمة اللون الحكيمي، أن تستمع إلى الأغنية ولا تنتهي بنهايتها، بل تصاحبك في ذهنك لترددها أيام وأيام دون أن تشعر ودون أي تعمد لمحوها ولو حاولت.
لم يدرس حكيم الموسيقى، شأنه في ذلك شأن كثير من المطربين، بل كان التتبع منذ الصغر، السعي في الموالد وراء الشيخ أبو دراع والشيخ بسبس، فيخرج منهم بمحصول المقامات والارتجالات، ثم يسعى في الأسواق فيسمع هتافات أحد الباعة في شادر البطيخ "أخضر من بره.. أخضر من بره.. أحمر من جوه.. أحمر من جوه"، فيعلق اللحن في ذهنه ليصبح بعد ذلك "الحب ناداني.. الحب ناداني.. جابني ووداني.. جابني ووداني"، ثم السعي في أفراح شوارع القاهرة لأعوام وأعوام ليعرف منها مفتاح البهجة، كيف تجعل عشرات من حولك تكاد تنخلع قلوبهم من حماسة الفرحة بمجرد أن تردد: سقفووله!
تراكمات من الفطرة اجتعمت لتشكل حكيم، لكن كانت كقطع البازل المتناثرة التي تحتاج لترتيب، ثم أتت ظروف القدر التي ساقته مع من يوجه هذه الفطرة بشكل احترافي.
قائمة ممتلئة ممن تعاون معهم حكيم من الشعراء والملحنين فمن الشعراء أمل الطائر وحمدي عبد اللطيف ومحمد هلال وعبد المنعم طه وأحمد شتا وحسن عطية وصلاح مندي وغيرهم، ومن الملحنين حسن إش إش وسامي علي وحمدي صديق وعصام كاريكا وعصام توفيق ووحيد المليجي وبهاء حسني وغيرهم الكثير والكثير، ولكن من كل هؤلاء يبقى المقدار الأكبر للاسمين الأهم في حياة حكيم الفنية؛ الشاعر أمل الطائر والملحن حسن إش إش.
أمل الطائر، حسن إش إش، حكيم، هذا هو الثالوث الذي يمكن أن تتحدث عنهم بلا أي مبالغة بأنهم علامة فارقة في تاريخ الأغنية الشعبية، بداية مع الشاعر أمل الطائر الذي كتب ما يقارب أكثر من نصف أغاني حكيم عبر تاريخه، أمل الطائر هو الصندوق الأسود للأغنية الشعبية في مصر، يعرف تمامًا من أين تؤكل الكتف، تؤكل من هذه الجمل الخاطفة التي يكفي أن تسمعها مرة واحدة بالصدفة لكي "ترشق في دماغك".
فهذا أمل الطائر يتعاون من حسن الاسمر لينتج لنا "أنا اهو.. وإنت اهو.. والزمن أهو بينا اهو"، ويتعاون مع عبد الباسط حمودة لينتج لنا "أنا مش عارفني أنا تُهت مني أنا مش أنا"، ويتعاون مع حكيم لينتج نظرة والبعد لا وافرض مثلًا والسلامو علكيو والعشرات والعشرات من الأغاني.
يكتمل هذا المثلث بأحد عباقرة الفطرة الموسيقية حسن إش إش، هذا الرجل الذي سيُحكى كثيرًا عن مُنجزه أكثر وأكثر بمرور السنين، جمل موسيقية في منتهى السلاسة والصعوبة في آنٍ، يسير بك في أغاني حكيم من الموال الحزين للمقسوم الراقص، من ألحان الكيبورد السريعة إلى طرب الارتجال المريح ثم لا تدري كيف انتقل إلى نغم شعبي يصلح للأفراح وفقط، يتنقل بين هذه الألوان في منتهى البساطة وكأنما يحرك أصابعه على الأورج بدون تفكير.
غلّف كل هذا صوت حكيم نفسه الذي اتبع منذ بدايته آلية خاصة في الاختيار، والأمر ليس بالصدفة بل كان يستدعي مجهودًا ثلاثيًا بينه وبين الكاتب والملحن لاختيار الجملة الرئيسية للأغنية (اللي هتعلم مع الناس)، فمال لتحري هذه التراكيب الجذابة بعناية والتي جعلت كثير من جمله وبلحنها تتضفر شيئًا فشيئًا وتصبح من لغة العامة المستخدمة.
"شغل العيون بحلاوته" – "هجري عليه وابوسه"- "إس إس.. السلامو عليكو" – "الواد ده حلو سابق سنه" – "ايه اللي بيحصل ده.. ايه اللي أنا شايفه ده" – "الحق عليه هو اللي خان" – "لما تشوفه قوله.. كله على كله" – "ايه ده بقى ده بقى"- "هو فاكرنا ايه.. مش ماليين عينيه" –"ع الواحدة كله يرقص"- "وهم استغنوا عني".
هو السير على خطوات ثابتة في درب واحد أن يظل دومًا برنة صوته "متشعلق في ودنك".
البصمة الحكيمة
من المتعارف عليه في الوسط الغنائي عند استضافة أحد المطربين في برنامج أن يغني أغنيات لمطرب آخر، وتجد كثير من الأغاني المعاصرة حتى قد غناها المطرب الأصلي وبعض آخر قد أعجبهم اللحن وأدوه في برنامج تليفزيوني أو حفلة أو حتى جلسة خاصة، رغم هذا الأمر –العادي جدًا- قلما تجد مطربًا آخر يغني أغنية لحكيم.
حكيم هو المطرب الذي يحتكر أغانيه، ليس بالمعنى الاقتصادي بل بالمعنى الفني، فعندما تقرأ افرض مثلًا مثلًا يعني..إني خاصمتك يوم، لن تفكر مطلقًا في الكلام، ولن تتذكر دندنات اللحن كما الحال مع أي أغنية تتذكرها بل يقفز إلى ذهنك صوت حكيم نفسه، وفقط، الثوب الحكيمي الذي يلبسه لأي كلمات ينطقها ليحرم عليها أي ثوبٍ آخر من بعده.
ما انت تاعبني.. ومغلبني.. ومنسيني النوم.
في أحد البرامج التي استضافت حكيم قبل ذلك طُلب منه أن يغني بعضًا من أغاني أم كلثوم على طريقة الميدلي، وهو أسلوب غناء يعتمد على استدعاء مجموعة من ألحان مطرب ما وتقوم بغنائها وراء بعضها دون توقف موسيقي يفصل بين الأغنية والأخرى، فحين غنى حكيم ميدلي أم كلثوم هذا مثلا اختار مقاطع يمكن تتابعها موسيقيا بسهولة فاختار من أغاني الحب كده وإنت عمري وفكروني والأطلال وأنا في انتظارك، واختار أن يختم الميدلي بالمقطع الثالث من أنا في انتظارك، ورغم سماعي للأغنية عشرات المرات إلا أنه حين سمعت حكيم يقول "أتقلب على جمر النار.." تخيلت لوهلة أنها أغنية لحكيم!
هو الثوب الحكيمي الذي يلبسه لأي كلمات ينطقها، الثوب الذي بمقدوره وبكل بساطة أن يحول عود زكريا أحمد إلى أورج حسن إش إش!
استمر حكيم متربعًا في وسط هذه الساحة التي يتواجد فيها بمفرده منذ ظهوره 1992 بألبوم "نظرة" واستمر بنفس القدر الضخم من النجاح حتى ألبوم "كله يرقص" 2005 ثم حدثت فترة أفول تدريجية.
العابر بين الأجيال
حكيم من الجيل الغنائي الذي ظهر وبقوة مع أوائل التسعينات، محمد فؤاد وإيهاب توفيق وهشام عباس ومصطفى قمر ومجموعة من الأصوات المختلفة التي أتاح اختلافها هذا تصدر مستحق لساحات الغناء، إلى أن مرت أوائل الألفية وبدأ تدريجيًا يحدث الأفول، تواكب ذلك مع ظهور جيل آخر من الشباب أصحاب الصوت الهادئ واللحن الذي لا يفتعل التيمات التسعيناتية، فظهر تامر حسني ومحمد حماقي وتلاهم تامر عاشور ورامي صبري والآخرون.
حاول جيل التسعينات المواكبة ببعض المحاولات الفردية مثل أغنية منايا 2002 لمصطفى قمر، أو ألبوم حبيبي يا لمحمد فؤاد في 2005 وتجارب أخرى حاولوا فيها دمج اللون المشابه لتيمات موسيقاهم التسعيناتية مع الصوت الناعم والكلمة المناسبة لجيل الألفية، لم يكن الدمج بالجودة المطلوبة فصاروا كما الأشباح يعيشون على بقايا التجارب ولم يستمر منهم سوى عمرو دياب الذي رضخ بسرعة بديهة إلى قوانين السوق الجديد دون أي محاولات ترقيع من التسعينات.
حكيم انطبق عليه نفس الأمر ودخل نفس النفق المظلم بعد ألبوم كله يرقص 2005 فأصدر من بعده ألبومي تيجي تيجي 2007 ويا مزاجو 2011، ألبومان يمكن أن نصنفهما بالشعبي الشيك، نغمات يظهر فيها لمسات التوزيع الأجنبية البعيدة عما اعتاده جمهور حكيم، وبعيدة عن ذوق الأذن الشعبية الذي بدأ يتغير وقتها، قد يكون الغرض من الألبومين التوجيه أكثر نحو من هم خارج مصر، لكن على كل حال لم ينجح الأمر بقدر النجاح الضخم الذي كان يحققه حكيم بالأغاني الشعبية الأصيلة التي لم يكن يهدف أن تصل لأي مكانٍ ما في العالم ووصلت وحدها إلى كل العالم.
هذا التراجع النسبي جعل حكيم يعيد التفكير بهدوء، يراقب مشهد الشارع (جمهوره الحقيقي) ليخرج علينا بعد ثلاث سنوات من ألبوم يا مزاجو وليس بألبوم كامل بل بأغنية واحدة هي حلاوة روح عام 2014 لتكون هي الـComeback الأمثل.
الأغنية يتضح فيها تمامًا فكرة مراقبة المشهد ومحاولات جمع المعلومات عن طبيعة السمع الشعبي، فجاءت كوكتيل شعبي في غاية التكثيف، جمعت الموال المقتبس من القديم "ده عشق الجسد مش دايم لكن اللي دايم حلاوة روح"، برائحة عاشق الروح لعبد الوهاب الذي يقول "وعشق الروح مالوش آخر لكن عشق الجسد فاني"، ثم يعود ثانية لأسلوب الجملة الخاطفة المعتاد "وهم استغنوا عني- بابا يا بابا يا بابا"، ثم يستعمل ما صارت تميل الأذن الشعبية إليه فيدمج من أغاني أبو الليف والمطرب الاسكنراني رضا البحراوي ويحيط كل ذلك بأورج (عبسلام)، أضف في الخلفية رقص هيفاء وهبي، تمت الخلطة بنجاح، عاد حكيم من جديد.
نجاح حلاوة روح المدوي دفع حكيم للاقتناع بحقيقة نجاح التجربة، فقرر أن يحولها لمشروع، تواصل بعدها مباشرة مع كل من إسلام شيبسي وميدو مزيكا أبرز موزعي الشعبي في الوقت الحالي، وليس لتنفيذ عمل وينتهي الأمر بل ليبدأ معهم مشوار آخر، فبعد سنة من حلاوة روح يصدر أغنية عم سلامة من توزيع الثنائي ثم يتبعها بأغنيتي على وضعك وأبو الرجولة.
وها هو حكيم في 2018 يصدر أغنيته الجديدة ما شبعتش خصام من كلمات رفيقه أمل الطائر وألحان وحيد المليجي وتوزيع الثنائي شيبسي ومزيكا.
أدرك حكيم اللعبة، فلم يرضخ لقانون السوق وانتهى الأمر على ذلك، لكن أعاد ترتيب الأمور على لونه الذي ينافس فيه ذاته، أحكم الخلطة واهتم بالجودة فعاد كما عهد هو نفسه من قبل.
القدرة والعالمية
ثم الإشارة أيضًا إلى حكيم كمطرب، ليس فقط كفنان بحضور مسرحي إداري وكاريزما شعبية طاغية، بل إمكانيات صوتية لها وزنها، وأداء محترف لمختلف الألوان، وقدرة ارتجالية أقرب لأساطين الأداء الشعبي القدماء، وتكنيك صوتي مبهر.
أذكر منذ صغري كنت أحاول تقليد حكيم كلما سمعت "ايه ده بقا.. ده بقا.. ده بقا بقا ده بقا..ايه ده..." كبرت وما زالت أحاول فأنجح مرة والثانية ولكن كل مرة أفشل في أن أكملها ثلاث مراتٍ متتالية.
https://www.youtube.com/embed/Q6nWJ7ki5ug?rel=0&controls=0&showinfo=0حكيم لا يتحدث كثيرًا، لا يفضل أن يلقب نفسه بأي لقب، وعند استضافته في أي برنامج أو حديث تراه متباسطا عاديًا لا يمانع في غناء أي لون غنائي مهما كان، هو يثق في نفسه ثقة غير اعتيادية، الثقة التي لا تجعله يفكر قبل أخذ القرار، فسمعته يغني أغانيه ويغني للست ويغني لصباح ويغني لليلى مراد، يغني الموال والسيرة، ينشد الابتهالات والتواشيح وفي كل مرة هو الثوب الحكيمي الذي يلبسه لأي كلمات ينطقها.
استطاع حكيم أن يخلق لنفسه لونًا مختلِفًا يجعله أيقونة لون غنائي لا مطرب كمن غيره، أشبه في ذلك بعض الشىء بما فعله الشاب خالد، وفي وقت ينعت فيه المطربون أنفسهم بالعالمية نتيجة الغناء على مسرح يوناني أو العمل مع موزع سويدي تجد حكيم يغني في حفل توزيع جوائز نوبل!
بدأ الأمر عند التحضير لحفل توزيع جائزة نوبل للسلام عام 2006 والمقرر إقامتها في العاصمة النرويجية أوسلو بحضور ملك وملكة النرويج، اتفقت اللجنة المنظمة للحفل مع شركة إنتاج أمريكية لتقوم بترشيحات مختلفة لفنانين من شتى ألوان الغناء لخدمة فكرة السلام العالمي التي تهدف إليه الجائزة، فتم الاتفاق مع النرويجي مورتن أبل والسوبرانو مونيكا يونس، ومغنية البوب المكسيكية بولينا روبيو، بالإضافة إلى ليونيل ريتشي وجون ليجيند من أمريكا، ثم جاء الاختيار على حكيم ممثلًا للون الغنائي عن المنطقة العربية، بالفعل تم التواصل مع حكيم بصيغة رسمية وأرسلت له لجنة نوبل كتيباتها عن الجائزة وتاريخ نشأتها وتاريخ من حصلوا عليها مرفقًا مع هذا مواعيد الحضور والبروفات قبل الحفل.
وحين أصبح الأمر بهذه الصورة الرسمية سارع حكيم آنذاك إلى حسن أبو السعود نقيب الموسيقين حينها ليقرر إقامة مؤتمر صحفي يقدم فيه هذا الحدث العالمي، واختار الفنان عمر الشريف ليقدم هو المؤتمر ويعلن لوسائل الإعلام عن اختيار حكيم من قِبل اللجنة المنظمة لنوبل للمشاركة في حفل توزيع الجوائز.
يذهب حكيم إلى أوسلو بنفس الفكرة وهي ليست حكيم المغني أكثر من كونها حكيم ممثل اللون الغنائي الشعبي لهذه المنطقة في العالم، لترى حكيم على المسرح وقد جلس أمامه علماء وأدباء وساسة، ولفيف من البدل السموكن قد انتشوا جميعًا على أنغام آاااه يا قلبي.
حين يحب الناس أحد المطربين يميلون دائمًا إلى محاولة تلبيسه على أمور حياتهم كلها، فيصبح حينها هو المطرب الذي يضحكنا ويبكينا، نحب على أغانيه ونفارق على أغانيه، نسمعه في الفرح ونأنسه في الضيق، الجميل أن حكيم وعلى مكانته فهو ليس كل هذا، وأعتقد أن هذا من أسباب كونه حكيم، أنه لا يحتاج لكل هذه المساحات من التعقيد، فهو حكيم الذي يبهجنا، يبهجنا وكفى.