في يوم الثلاثاء، 26 يونيو/ حزيران، على ملعب سان بطرسبيرج بروسيا، حارت الكاميرات والعيون أيَّ مباراة تتابع: المباراة التي كانت تجري في المستطيل الأخضر بين نيجيريا والأرجنتين، أم "المباراة" الموازية في المدرجات، التي كان "يلعبها" رجل واحد هو دييجو أرماندو مارادونا.
كان الرجل ذو القامة المربوعة المصبوبة من فولاذ، والمتصلة بالرأس من غير رقبة، ينقّب بالعينين الصغيرتين عن هدف أرجنتيني في مرمى المنتخب النيجيري، فينفعل مع كل هجمة، يبتسم تارة ويعبس طورًا، يشتم كثيرًا ويؤدي حركات بذيئة بأصابعه، لكنه "يُسبِّح" أيضًا! فكان لا بُدّ للكاميرات إذن، كما كانت تفعل دائما، أن تتجه إليه تلقائيًا. فبدا القزم الداهية وسط الحشد الرهيب، شمسًا ساطعة تمتّ بصلة قرابة لـ"شمس مايو"، تلك التي تتوسط علم الأرجنتين كناية عن "ثورة مايو" التي قادت إلى حرب الاستقلال.
وهج الشمس هذا، الذي لم ينطفئ منذ انضمام مارادونا إلى نادي أرخنتينوس جونيورز المغمور أواخر السبعينات وهو لم يزل مراهقًا، لا يأتي من لا مكان؛ بل من روافد كثيرة انتظمت كلها في سلك واحد فشكّلت الدراما المارادونية، وأكسبتها فرادتها.
وهي دراما بكل ما تحمله الدراما من معنى، سوى أنها دراما حقيقية، وليست وليدة مخيّلة كاتب روائي أو سيناريست، حدثت على الأرض الترابية لأزقة فيلا فيوريتو الواقعة على أطراف بيونيس آيرس، وملاعب لا تُحصى، ومدن وحانات وفنادق ومطارات وشوارع بلا نهاية.
وهذا ما انتبه له المخرج الصربي إيمير كوستوريتسا، صاحب أهم وثائقي عن حياة مارادونا. فحين شرع كوستوريتسا (وهو بمثابة مارادونا السينما) في العمل على الفيلم، اختار أن يكون وثائقيًا وليس روائيا. ذلك أن صاحب "زمن الغجر" لم يجد فرقًا بين الوثائقي والروائي في سيرة ابن فيلا فيوريتو الفذ. ولم يحتجْ أن يضيف لسيرة مارادونا "خيالاً" أو صراعًا أو حبكة أو فكرة أو معنى، لأنها هي نفسها مستودع للمعاني.
من رَحِم دالما فرانكو
نشأ مارادونا في بيئة اجتماعية شديدة الفقر، على ما جرت عادة لاعبي الكرة في بلدان الجنوب. فوالده كان عاملاً بسيطًا في مصنع، فيما كانت أمه، دالما فرانكو، ربة منزل أنجبت ثمانية أطفال، أغلب الظن لأنها وزوجها لم يمتلكا ثمن وسيلة لمنع الحمل. كان لأم الطفل الذهبي الأثر الأعمق في رسم المسار الذي سار عليه وتحديد المصير الذي صار إليه.
يروي مارادونا في سيرته "أنا الدييجو" كيف كانت أمه تتظاهر بأن معدتها تؤلمها لكي توفّر حصتها من الطعام الشحيح لثمانية أفواه فاغرة. أفضى ذلك كلّه إلى حسرة في قلب دييجو لا تنقضي، وغرسَ في طبعه رقّةً وعاطفة فوّارة، تلحّ عليه فرحًا طفوليًا أو حزنًا وألمًا كهوليًا، على نحو ما؛ خلق فيه انحيازًا لا يتزعزع للفقراء والضعف والضعفاء.
فلما أراد الانتقال من أرخنتينوس جونيورز وكان عليه الاختيار بين أحد فريقي ديربي العاصمة، ريفر بليت الذي يمثل الأغنياء وبوكا جونيورز الممثل للطبقات الفقيرة، اختار الثاني. وكذلك فعل حين ترك برشلونة إلى إيطاليا، فكان في وسعه الذهاب إلى أندية الشمال الصناعي الثري، ميلان ويوفنتوس، إلا أنه اتجه إلى أقصى جنوب شبه الجزيرة الإيطالية، وانضمّ إلى نابولي، نادي المدينة المتوسطية الفقيرة.
أما السياق الأعرض، أو المصادر البعيدة التي أثّرت في مارادونا، فهي التاريخ والثقافة الأرجنتينيان. فقد لعب هذا البلد دورًا مشهودًا في تاريخ أمريكا اللاتينية، فكان من أوائل بلدان الجنوب التي أعلنت استقلالها مبكرًا، مطالع القرن التاسع عشر. وهذا بدوره أتاح للوطنيين الأرجنتينيين أن يسهموا بسهم وافر في دعم الحركات الثورية في القارة الجنوبية وفي غيرها كذلك، على ما فعل تشي جيفارا قي بوليفيا وكوبا والكونغو. بل إن الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس يذهب أبعد من ذلك، فيرى أن استقلال أمريكا الجنوبية كان، إلى حد بعيد، مشروعًا أرجنتينيًا.
وفوق ذلك وأكثر، وُلد مارادونا في حقبة شديدة الاضطراب، مسبوقة بانقلابات عسكرية ومتبوعة بانقلابات أيضا، فبلغ القمع ذروته في سنوات مراهقة وشباب دييجو المبكرة، وتخلّله انفلات مجموعات إرهابية يمينية (بلطجية وشبيحة بلغة اليوم) مدعومة من الطغمة العسكرية الحاكمة، مارست عسفًا وعنفًا وحشيًا راح ضحيته عشرات آلاف البشر بين قتل صريح وإخفاء قسري، طال كل من يُشتبه اشتباها بصلته بالشيوعيين والاشتراكيين، في فترة عرفت بالحرب القذرة.
غير أنّ مارادونا لم يتعرّض لأذىً من قبل السلطة العسكرية الحاكمة وميليشياتها؛ بل حاولت السلطة تملّقه. فظهر الجنرال ليوبولدو جالتيري في معسكر تدريب المنتخب الأرجنتيني عشيّة مونديال 1982، وأشاد بمارادونا أمام الكاميرات، عسى أن تغسل هذه الإشادة بعض الوسخ عن أيدي رئيس الطغمة. لكنّ مارادونا، رغم وعيه السياسي البسيط آنذاك، لم يصافح أحدًا في المجلس العسكري أو يمتدحه لا سرًا ولا علنًا. وأغلب الظن أنّ الحقبة السوداء هذه هي التي زرعت بذرة ازدراء القوة والأقوياء في نفس دييجو، على نحو ما عزز تاريخ البلاد وثقافتها النزعة الاستقلالية والروح المتمردة فيه.
اقرأ أيضًا: من هو الرجل الذي يستخدم صلاح لغسل سمعة بلاده
لكنّ مارادونا مقاتل. فانحيازه للضعفاء واحتقاره للأقوياء شيء، والسكوت على الظلم شيء آخر. فبعد انتقاله من بوكا جونيورز إلى برشلونة عام 1982 في صفقة قياسية حينذاك، حقق مع برشلونة لقب كأس الملك وكأس السوبر الإسبانية، ما جعله هدفًا مفضلا للضرب المبرّح من قِبَل الفرق المنافسة، ذلك أن الضرب كان الوسيلة الوحيدة القادرة على إيقافه. لكنّه كان يردّ الصاع صاعين والباع باعين، تارةً بتسجيل مزيد من الأهداف وتارة بالعنف. فكانت حادثة الشجار الجماعي الشهيرة موسم 83-84 بحضور ملك إسبانيا، بين لاعبي برشلونة وأتليتكو بلباو، نتيجة تدخّل عنيف من قبل أندوني جويكيوتكسيا (جزار بيلباو).
هذه الحادثة كانت تتويجًا لحملات عنصرية وإعلامية من بقايا الفاشية التي خرجت منها إسبانيا قبل سبع سنوات فقط، قادت الحملة فرقٌ منافسة، على رأسها فريقي بلباو ومدريد، ضد مارادونا. وفي مناخ كاره وطارد كهذا يفتقر لأهم ما يحبه مارادونا في كرة القدم، أي الإمتاع والاستمتاع؛ أُعلن الطلاق بينه وبين برشلونة، فحزم حقائبه وذهب إلى نابولي.
اقرأ أيضًا: طفولة مارادونا.. سنوات اللهو والمجد
إلى الصفوف الأولى
لعلّ محطة نابولي هي الأكثر دلالة في مسيرة مارادونا. فعشيّة وصوله عام 1984 إلى المدينة في صفقة قياسية بدورها، كان نابولي يصارع للبقاء في دوري الدرجة الأولى.
بعد سنتين من اللعب في نابولي، سيساعد مارادونا الفريق للحصول على لقب الدوري لأول في تاريخه. وفي عام 1989، سيفوز نابولي مع مارادونا (ويجوز العكس، أي سيفوز مارادونا مع نابولي) بدوري الأبطال وكأس إيطاليا، متغلبًا على خصومٍ طالما هيمنوا على اللعبة في أوروبا: بايرن ميونخ ويوفنتوس، وشتوتجارت بقيادة الهداف الألماني يورجن كلينزمان في النهائي، وهي المباراة التي ظهر مارادونا فيها خلال فترة الإحماء راقصا على أغنية Life is Life.
https://www.youtube.com/embed/s7ZjU-6iSwk
وفي الموسم نفسه، سيحرز نابولي لقبه الثاني في السيريا إي (الدوري الإيطالي الممتاز)، محطمًا أحد أعظم الفرق في العالم، إي سي ميلان، بأربعة أهداف مقابل واحد. فإذا عرفنا أن الثلاثي الهولندي الأسطوري رود خوليت وماركو فان باستن وفرانك ريكارد كانوا يقودون وسط وهجوم ميلان، فيما يحرس دفاعه ثلاثة عمالقة هم باولو مالديني وفرانكو باريزي وأليساندرو كوستاكورتا؛ فهمنا بعضًا من سرّ فرادة مارادونا. ففي هذه المباراة، فيما الوحش الأرجنتيني يذرع الملعب طولاً وعرضًا؛ بدا أولئك الجبابرة الستة مثل تلاميذ مذعورون بمدرسة ابتدائية في يومهم الدراسي الأول.
فالفرادة المارادونية لا تأتي فقط من موهبته الفطرية في اللعب، أو مهارته في الاحتفاظ بالكرة للأبد، أو بصيرته النافذة في التمريرات المرسومة بالمسطرة والفرجار من غير أن ينظر حتى إلى اللاعب الذي سيمرر له الكرة؛ بل تأتي من قدرته على جعل مَن حوله أفضل، ومن تيّار من الوهج يبثّه في بدن العشب؛ سرعان ما ينتقل إلى أبدان زملائه.
هذا هو الفرق الجوهري بين مارادونا وبين نجوم هذا العصر. فقد يكون ليونيل ميسي أقدر من مارادونا على تسجيل الأهداف، وقد يكون محمد صلاح أسرع من مارادونا. لكن لا ميسي ولا صلاح يستطيعان فعل شيء مؤثر في الملعب إذا كان الفريق الذي يلعبان فيه ركيكًا. فرأينا كيف بدا كلُّ منهما وسط زملائه -في بطولة كأس العالم - باهتًا هائما مهيض الجناح. فالعباقرة خُلقوا لسبب، هو أن يفعلوا المستحيل لكن مع جعل المستحيل هذا يبدو في أعين الناس العاديين شيئًا سهلاً.
وهذا أيضا يفسّر، جزئيًا، لماذا أخفق منتخب الأرجنتين، منذ فوزه مع مارادونا بكأس العالم بالمكسيك، في تحقيق نتائج مرضية. فهو منتخب كان على الدوام مدججًا بالنجوم: باتيستوتا، كانيجيا، فيرون، أورتيجا، سيميوني، كريسبو، ريكيلمي، سافيولا، تيفيز، هيجواين، دي ماريا، ميسي. لكن لا أحد من هؤلاء وسعه سدّ الفراغ الشاسع الذي تركه مارادونا. لا شكّ في أنّ هناك أسبابًا أخرى للإخفاق إياه، لكنّ الأكيد أنه ليس من بينها "لعنة" هدف مارادونا الذي سجله بيده في مرمى إنجلترا بمونديال المكسيك، وذلك خلافًا لما يردده عامّيّون ومشعوذون تلفزيونيون، آخرهم عصام الشوالي.
رجل التناقضات
وإذا كانت الحرب أثناء حقبة إسبانيا شُنّت على مارادونا داخل الملعب؛ فقد أُعلنت عليه في إيطاليا خارج الملعب، وهي -وإن كانت أقل عنفًا جسديًا؛ إلا أنها كانت أكثر لؤمًا وقسوة في ضراوتها المعنوية.
راحت الفرق المنافسة تكيد له وتمكر به. فسُلطت عليه الأقلام، واستباحت الكاميرات حياته الخاصة ودخلت غرفة نومه. وزعمت بعض الصحف الإيطالية أنه متورط في فضيحة إنجاب ابن "غير شرعي"؛ فخلّف ذلك في نفسه ندوبًا أشدّ ربما من تلك التي تركها الضرب على جسده إلى أن اجتاحه يأس لاذع، فازداد تغيبه عن المباريات وحصص التمرين، وركب شيطان اللهو والعبث على كتفيه، فأسرف في الشراب وانصرف إلى تعاطي الكوكايين متسكعًا في الشوارع إذا كان النهار وطائفًا على الحانات إذا كان الليل. ولم يلبث أن تلقى الضربة القاضية، باتهامه بصلات بمنظمة المافيا "كامورا". وبمثل السرعة الصاروخية التي صعد بها في نابولي، سقط، بل أُسقط، بسرعة نيزكية.
عند هذه الذروة، سيحزم الدييجو حقائبه مجددا ويغادر. وسيكرّمه نابولي بأن يحيل القميص رقم 10 إلى التقاعد، ولئن لم يفعل نابولي ذلك؛ لرفض أي لاعب في النادي ارتداء القميص رقم 10، خوفًا من ثقل المسؤولية.
على أن المفارقة الحادة في مارادونا، هي أن ما يؤخذ عليه، هو نفسه ما يُمتدح عليه؛ أي حيازته ذلك المزيج الجليل من النقائض. فكأن دييجو -على غير دراية منه ربما- يذكّرنا بواحدة من أشد حقائق الحياة رسوخًا وأكثرها بديهية؛ أننا كائنات متنازعة وشديدة التعقيد والتركيب، وأننا لسنا روبوتات، وأننا محكومون بالتناقض والضعف والنقص والتفاوت.
فعندما أمسى مارادونا أيقونة للحركة المضادة للعولمة والنيوليبرالية في مطلع الألفية، ظل يرتدي ملابسه الرياضية من شركتي نايكي وأديداس. يزور كاسترو ويضع يده في يد الرئيس هوجو تشافيز متظاهرًا ضد الإمبريالية وبوش، ويظهر في اليوم التالي في إعلان لبيبسي أو كوكا كولا. يناصر الفقراء والمقهورين ثم يقيم حفل زفاف لزوجته كلوديا يتكلف ملايين الدولارات. يفحش في القول ثم يضرع إلى الله ويسأله التوفيق. يسجل في مرمى إنجلترا هدفًا شيطانيا بيده، ثم يُتبعه في المباراة نفسها بهدف ملائكي هو الأعظم والأجمل في التاريخ.
ورغم هذا كله، كان على الدوام يقرّ بأخطائه وضعفه البشري، بما في ذلك الهدف إياه الذي زعم أنه سُجل بـ"يد الله"، ذلك أنني "لا أحب أن يعتقد الناس أن الله يغش.. أنا الذي غششت"، على ما كتب في سيرته. وأيًا كان الأمر، يبقى أن هذه النقائض والتناقضات إنما هي إشارات وأمارات على نهم للحياة لا يُطوى ولا يُردّ. ويبقى أيضًا -وهو الأهم- أن دييجو ما زال طفلاً، وما زال يلعب، ولسان حاله: لا تصفّر يا حكم.. لا أريد لهذي اللعبة أن تنتهي!