الحضور الاستثنائي للمنتخب المصري في مونديال روسيا جعلنا نحيا أجواءً فريدة، لم يعشها جيل أو جيلين ممن سبقونا. وحتى من عاصروا مشاركة مصر في نسخة إيطاليا 1990؛ قد يشاركوا جيلي الحماسة ذاتها، إلا أنهم سيعيشون الحدث بمشاعر مختلفة جدًا عما مروا به قبل 28 عامًا. فالتطور التكنولوجي الكبير وتغيُّر الخريطة الجيو سياسية للعالم، أمورصا فرضت أنماطًا جديدة من التشجيع، وعصبيات لم تكن حاضرة وقت مونديال إيطاليا.
غزارة مصادر المعلومات وصفحات وجروبات فيسبوك، واستديوهات التحليل التيى تنقل على الهواء، إضافة إلى المقاهي الضخمة التي تُشعِرنا كأننا في مدرجات الدرجة الثالثة لاستاد القاهرة؛ كل هذه مستجدات تجعلنا نرى الكرة ونشجعها بشكل مختلف تماما.
مع كل هذا الحماس والشغف والمشاعر الجديدة، تستمر بعض الآفات المرتبطة بمنظومة الكرة في مصر. آفات إدارة الكرة عموما وإدارة المنتخب خصوصا، إضافة لتعامل الإعلام "الرسمي" مع المنتخب، وأعني بالإعلام الرسمي، ذلك المتمثل في الفضائيات والصحف التي تملكها أو تسيطر عليها الدولة من خلال شركاتها المملوكة لها أو رجال الأعمال المتعاونين معها. فالدولة والإعلام الرسمي معها ينظران للكرة، وللمنتخب تحديدًا باعتباره آداة دعاية أو سيطرة على الرأي العام. يساعدهم في هذا آفات أنماط التشجيع الحديثة المرتبطة بمواقع التواصل الاجتماعي، التي تتسم غالبًا بالحدة الشديدة في الانتقاد أو السخرية، ما يجعل الدولة والإعلام يتحسسون أدوات سيطرتهم، خشية أن تخرج مسارات النقد والسخرية عن الخطوط الحمراء غير المسموح بتخطيها.
اقرأ أيضًا: بانر أصلي أم مزيف.. كيف تأسست دولة الأولتراس في مصر
المنتخب في أعين المسيطرين
دائما ما تعلو نغمة "الوقوف بجانب المنتخب واللاعبين"، لمطالبة الجمهور بالتوقف عن الانتقاد أو مجرد التعليق وإبداء الملاحظات، مخافة "تأثر اللاعبين سلبيًا".
تلك النغمة المتكررة عند كل ظهور رسمي للمنتخب تعبر عن نزوع سلطوي، كما أنها ليست منطقية في ذاتها، فأي عمل جماعي هدفه إمتاع الجمهور وتحريك شغفه، وبخاصة كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى في مصر، هو عمل يصير الجمهور شريكًا رئيسًا فيه وصاحب مصلحة. إضافة إلى أن المدرب واللاعبين مفترض أنهم عناصر في منظومة احترافية، ويعتمد جانب كبير من عملهم ونجاحهم على تعاملهم مع الإعلام والمزاج الجماهيري الحاد.
تلك النغمة السلطوية التي يطالب أصحابها الجمهور بالفرجة في صمت، أراها نتيجة منطقية لواقع سياسي واجتماعي يسعى دوما لفرض حالة من التوحد الزائف، ويتحسس من أي تعبير حر عن الرأي، خاصة إن كان هذا الرأي مخالف لـ"السردية" أو الرؤية التي يرى أصحاب القرار أن سيادتها "تحقق مصلحة الدولة". هذا النزوع يحارب التنوع والتعددية، ويتماشى مع واقع قمعي يحظر على الجمهور إنشاء روابط للتشجيع بقانون، ويمنعهم من حضور الدوري المحلي. واقع يريدنا أن نرتص جميعًا في صف واحد يتم تحديده لنا سلفًا.
يدعم ذلك منظومة الإعلام الرياضي وكذلك الإعلانات، أحد الإعلانات العديدة التي سعت لاستغلال حضور مصر الاستثنائي في مباريات كأس العالم، يسخر من المشجع المحلل، ويطالبه بالاكتفاء بالشجيع فقط. تتساءل أغنية الإعلان في استنكار "كلنا في الكورة مدربين، طب مين هيشجع البلد؟".
ربما كان المراد من الجمهور في الصحف والفضائيات والإعلانات وبرامج التحليل الرياضي ممكنًا في مونديال 1990؛ عندما كان الإعلام يسير في خط واتجاه واحد، من صانع الرسالة/ القرار (الدولة وسلطاتها) إلى الجمهور. أما الآن، فنحن في عصر صار فيه الجمهور مُشاركًا أصيلا في صنع الرسالة الإعلامية، وينجح أحيانًا في فرض رؤاه واهتماماته على أجهزة الإعلام الرسمي من خلال استخدامه لأدوات الاتصال الجديدة؛ كيف يمكن في هذا العصر أن نحدد للجمهور ما يتكلم فيه وكيف يتكلم فيه؟ كيف نطلب من الجمهور الصمت وعدم التعبير عن رأيه؟
على شبكات التواصل الاجتماعي، نشهد قيام شباب من محبي الكرة بإنشاء صفحات وإصدار مقاطع فيديو يعلقون فيها على أداء الفرق الكروية العالمية. المشجع الآن أصبح ناقدًا وصانعًا للمحتوى كذلك، وفي أحيان كثيرة يصنع الحدث برمته. لو كانت وظيفة الجمهور هي "الوقوف بجانب المنتخب" فقط دون تحليلات وانطباعات حتى لو كانت حادة، فما الجدوى من استديوهات التحليل على الفضائيات التي تسعى لجذب مشاهدات الجمهور من خلال النقد والتقييم، وتحقق من وراء ذلك ملايين الجنيهات من مكاسب الإعلانات؟
اقرأ ايضًا: هُواة محترفون.. عن الكرة وكتّابها الجدد
الجماهير والمنتخب
من الصعب أن تطالب الجمهور بالموضوعية، الجمهور ببساطة عاطفي وانتقائي. جمهور الكرة بالذات يتسم دومًا بالحدة في الانتقاد، والمبالغة في الإشادة، لارتباط التشجيع بالأداء الحماسي والانفعالي، واعتبارات الانتماء العاطفية.
مواقع التواصل الاجتماعي عززت أنماط التشجيع العاطفية تلك، وجعلت المشجع أكثر من مجرد متفرج أو متلقي، فقد صار المشجع وبقوة الإعلام الرقمي مكونًا رئيسًا في معادلة اللعبة. لذلك تُنشئ المنتخبات والفرق صفحات رسمية ناطقة بلغات المناطق التي تنمو بها شعبيتها. كذلك ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في إحصاء أعداد المتابعين للفرق في منطقة بعينها، والتعرف على الميول المختلفة تجاه طرق اللعب واللاعبين المفضلين وغيرها.
ذلك يؤكد على صعوبة فكرة الاصطفاف وراء المنتخب بمعناها الشمولي الذي تطالبنا به الإعلانات وأباطرة الاستوديوهات التحليلية المصرية، ويؤكد أيضا على سذاجة مؤيدي هيكتور كوبر مدرب المنتخب في رفضهم لانتقاد فلسفة المدرب الأرجنتيني، بحجة أنه حل عقدة الصعود لكأس العالم مستخدمًا تلك الفلسفة.
من حق الجمهور انتقاد اختيارات كوبر، مع التأكيد على حقه المطلق والأصيل في الاختيار، كونه المسؤول الأول عن المنتخب. مثلا نستطيع ببساطة مراجعة الهجوم العاصف على روبرتو مارتينيز مدرب المنتخب البلجيكي لاستبعاده رادجا نايجولان من قائمة بلجيكا المشاركة في مونديال روسيا لنتأكد أن الجمهور يحق له انتقاد المدرب وخياراته، وأن الجمهور في كل بقاع الأرض يمارس هذا الحق بعادية شديدة دون أن يُتّهم بالإضرار بمنتخب بلاده أو مصلحة فريقه الكروي.
الأصل أن مدربي المنتخبات دائما ما يصنعون الجدل باختيارات اللاعبين تحديدا، لكون القائمة مقصورة على 23 لاعبًا فقط. وبالتالي؛ فإن اختيارات المدرب ستظل عرضة للنقد في جميع الأحوال.
من حق الجمهور أيضا انتقاد طريقة لعب المدرب، وانتقاد اللاعبين فنيا؛ لأن المشجع لن يكون متفرجًا صامتًا بعد أداء باهت لفريقه، مهما أكد على أولوية النتيجة على الأداء. الانتقادات والسخرية والتعليق على المنتخب ومدربه ولاعبيه حق طبيعي ومنطقي للجمهور، وهذا لا ينفي مساندة المنتخب وأحلام الوصول لأبعد نقطة في كأس العالم.
أخيرا، هناك نوع من السخرية منتشر جدًا، منبعه انعدام الثقة بالأساس في كون المصريين قادرين على الإنجاز أو يستحقون اللعب في كأس العالم. مثلا السخرية من طارق حامد (أو أي لاعب محلي) كونه سيلعب في كأس العالم في ظل غياب لاعبين كبار كأليكسيس سانشيز مثلا أو بوفون. وبالقياس ذاته، السخرية من وصولنا لكأس العالم في ظل غياب منتخبات عريقة عنه، كإيطاليا وهولندا. كذلك السخرية من كل من يتمنى الوصول للأدوار التالية.
هي سخرية مقيتة، تحط من اللاعبين لمجرد كونهم مصريين. أرى في هذا سخرية منحطة ومزعجة، تنم عن شعور بالعدمية، وربما الدونية، كأننا نعترف بانعدام أحقيتنا في الحلم والإنجاز.
لكن، يظل الجمهور هو أساس كرة القدم، بدونه تغيب المتعة والشغف، بدونه تتحول الكرة لمنظومة بائسة، كالدوري المصري، منظومة مستمرة لأنها فقط يجب أن تستمر.
علينا فقط كجمهور عدم التقليل من اللاعبين بسبب كونهم مصريين، لأن في ذلك تقليل منّا جميعا. لاعبو المنتخب قادرون على إسعادنا عند تصديق أنفسهم والإيمان بقدرتهم على تحقيق حلم جديد للكرة المصرية.