أعترف أني كنت كغيري ممن أساءوا التقدير فيما يخص حجم موهبة محمد صلاح وممن بخسوا حقه في بداياته، حيث كنت أعيب عليه إضاعة كم هائل من الفرص أمام المرمى، وإن كانت إساءة تقديري تلك لا تعيبني كثيرا، لأنني من غير المتخصصين. فقد سقط في الرؤية نفسها "معجونون" في كرة قدم من أمثال جوزيه مورينيو الذي لم يمنح صلاح حق المشاركة مع تشيلسي وفرّط فيه بإعارته لفيورنتينا الإيطالي، كما وقع فيها مدّعو الفهم كممدوح عباس الذي قال عن صلاح أنه لا يصلح للعب بقميص نادي الزمالك، لكنّ صلاح لم يلتفت إلينا جميعًا وأثبت للجميع أن نظرتهم له لا تعنيه ولا تخصه، فكان لنجاحه الباهر في الموسم الكروي الأخير رد فعل مثير للضحك؛ إذ انبرى من قللوا من شأنه في ترديد أنهم كانوا يعلمون ما سيصل إليه صلاح، بل وينتظروه؛ بل ربما كان بخسهم لحق اللاعب دفعا له لإبراز المزيد من مواهبه التي لم تكن لتظهر لولا تحديهم إياه.
شخصيا اعتبرت نفسي لم أسئ التقدير، بقدر ما طوّرتُ نظرتي لصلاح بتطور صلاح نفسه. فقد تلافى صلاح كثيرًا مما كنت أعيبه عليه في بداياته، وإن كان لا يزال يهدر الكثير والكثير من الفرص بالرغم من أنه صار هدّافا لأقوى دوريات العالم، لكنه كان للمفارقة، وخلال موسمه الاستثنائي كذلك، صاحب الرقم القياسي في إضاعة الفرص المحققة. لماذا تغيرت نظرتي لصلاح إذن رغم أنه باق على العيب الأكبر الذي كنت ألحظه فيه؟ دعني أخبرك في السطور القادمة.
الجوع إلى البطولة
اسمح لي أن نبدأ من الوعاء الأكبر الذي جذبنا نحو صلاح، ألا وهي كرة القدم نفسها، التي تفاقمت شعبيتها لدرجة تقدير إحصائيات مشجعي كرة القدم بحوالي 2 مليار مشجع أي ما يقارب ثلث سكان الكوكب.
توقفت طويلا أمام سر كرة القدم وهيام الناس بها وكونها اللعبة الأكثر شعبية في العالم. الأمر كان محل بحث كثير من علماء النفس والمفكرين، لكنّ السر الأكبر في تصوري هو ما يرويه د. أحمد الخميسي في إحدى مقالاته في استعراضه لرسائل متبادلة بين قامتين أدبيتين كبيرتين مثل جي إم كوتزي أديب نوبل والكاتب الأمريكي البارز بول أوستر. في رسائلهما، يرجح الكاتبان أن افتتان الناس بكرة القدم، يعود لحاجتهم إلى البطولة والإنجاز، فكرة القدم هي تمثيل لفكرة التحقق والبطولة. كما يروي عمرو خالد في برنامجه بسمة أمل؛ أنّ سر القدم هو "التلات خشبات" وكلمة "جون"، فالحاجة إلى تسجيل الهدف هو السر، الحاجة إلى الانتصار حتى وإن كانت كل علاقة الفرد بهذا النصر هو مجرد تشجيعه للفريق الفائز.
يمكنك أن ترصد ذلك حين تشاهد الصدام اللحظي الذي ينفجر هنا في مصر قرب مباراة لريال مدريد مثلا مع برشلونة. يدافع المشجع المصري باستماتة عن مدريديته المزعومة أو كتالونيته المتوهمة. يعبِّر أحدُهم "أنا مدريدي متعصب" أو "كتالوني صرف" في إشارة لتشجيعه هذا الفريق أو ذاك.
عمَّ يدافع هذا المشجع سوى عن جوعه للانتصار المفتقد؟ نستمتع بالمهارات الكروية كثيرا، كتفوق إنساني مبهر، لكن أكثر ما يمتعنا ويبهجنا ويفجر السيروتينين داخل أجسادنا هي لحظة التسجيل، لحظة الهدف، لحظة الصراخ الممتد "جوووووون"
صلاح الآن بانتصاراته وتحققه الذاتي، يسد رمق هذا الشعب الجائع للانتصار، للتحقق، الجائع للبطولة. صلاح الآن هو فرحة المصريين الوحيدة حسب تعبيرهم الغالب، الفرحة التي ترتق كل خيباتهم وانكساراتهم وهزائمهم الذاتية والمجتمعية، صلاح هو الذي يسد جوعهم النفسي للحظة الركض الاحتفالي بكلمة "جووووووون"، الهدف الذي لم يستطيعوا إحرازه بأنفسهم، ليتحول منتخب مصر نفسه إلى "منتخب صلاح".
لا قاب قوسين ولا أدنى
ولكن كيف فعلها صلاح؟ كم من اللاعبين المصريين واتتهم فرص الاحتراف وكان كل منهم قاب قوسين لكنه صار أبعد؟ كميدو، وعمرو زكي، وغيرهم.
من مركز شباب نجريج إلى ملعب آنفيلد، ومن رفض الزمالك إلى تهافت كبرى أندية العالم، ومن لاعب يفرح بمقارنته بشيكابالا إلى مقارنته حاليا بالكبار ميسي ورونالدو، ومن لاعب تمنينا بداية الموسم ترشيحه لأفضل لاعب في إفريقيا إلى احتمالية ترشيحاته القوية وسط الخمسة الكبار المتنافسين على البالون دور، من لاعب ينتقده أنصاف المواهب إلى لاعب يتغنى بروعته كبار نجوم العالم ويصفه رونالدو بأنه ملهما وسينافس على الكرة الذهبية.
استفتِ قلبك
أسباب كثيرة ومختلفة يمكن أن يسردها لك المحللون ف يمحاولة لتفسير وصول صلاح لما وصل إليه؛ من الطموح العالي إلى الاجتهاد والمثابرة والتطور المستمر. وهي أسباب افتقد بعضها، أو غالبيتها، الكثير من محترفي مصر السابقين.
لكن في تصوري أن ثلاثة أسباب رئيسة دون سواها، هي التي وصلت بصلاح إلى ما صار عليه. الأول هو أن صلاح ببساطة اختار منذ البداية ما يحب، لم تُثنه أي عقبات أو تبعده عن ممارسة ما يحب، صلاح اختار المسار الذي سيقطعه، المكان الذي سيتواجد فيه، والاتجاه الذي سيركض صوبه، وهذا في تصوري ما ينقص غالبيتنا في المجتمع المصري، كلنا يتباكى على مكانه الذي لا يناسبه، كلنا يقوم بما لا يحب بسبب وعي مجتمعي دفعنا دفعا نحو أماكن لا نرغبها.
جميعنا الآن نرنو إلى صلاح؛ الطبيب الذي كم تمنى أن يكون عازفا، المهندس الذي كم تمنى لو صار كاتبا، المحامي الذي كم تمنى لو أصبح مبرمجا. جميعنا ننظر بقلوبنا التي انكسرت أمام شغفها وفرطت فيه، نحو صلاح اللاعب المحترف الذي اختار وصار فقط؛ لاعبا محترفا.
سمعت أحدُهم يصف صلاح أنه "أبو دبلوم صنايع" مقللا من فكرة استحقاقه للنجومية لكونه لم يحصل على مؤهل عال، ومسطّحا في الوقت نفسه من اهتمام العالم بكرة القدم وجدواها وأنها مجرد لعبة. بطبيعة الحال يرجع هذا التصور المتهافت لوعي جمعي ساذج تعشش داخلنا، ولكنه ذكّرني بأحد عباقرة القرن العشرين والذي بالمناسبة لم يكمل تعليمه الجامعي نظاميا، حين وقف ضيفا يلقي كلمته في أحد أعرق جامعات العالم في ستانفورد، إنه ستيف جوبز عام 2005 وقف ليقول " الشيء الوحيد الذي سوف يرضيك هو أن تقوم بما تعتقد أنه عمل رائع. والطريق الوحيد لعمل رائع، هو أن تحب هذا العمل. إذا لم تجده بعد، تابع البحث عنه ولاتستقر".
إن صلاح هو التمثيل الحقيقي لما وصف به العظيم جوبز رحلته، هو المثال الحي لرحلة وتجربة إنسانية حقيقية، استطاع صاحبها أن يتبع قلبه ويستفتيه، ولا يلقي بالا لفتوى أحد غير قلبه. لذا كان صلاح في المسار الصحيح وفي المكان الصحيح.
صلاح كان دائما في المكان الصحيح، تعلمها الفتى منذ البداية، كان في مجال شغفه في كرة القدم وكان دائما خلال اللعب في المكان الصحيح أيضا، كان دائما يتحين الوقت المناسب، كانت تخدعه الفرص كثيرا في البداية؛ إما لافتقاد التوقيت المناسب أو ارتباك اللمسة الأخيرة. لكنه ظل، وأتوقع أنه سيظل، هناك دائما وأبدا، حتى وقتما يبخل عنه زملاؤه -طمعا أو إساءة تقدير- بتمرير الكرة له وهو في المكان المناسب؛ يظل يثبت لهم أنه سيظل هناك، وهذا بالمناسبة هو سر تحول نظرتي لكمّ الفرص المهدرة من صلاح حيث تحول السؤال نفسه، من: كم فرصة أهدرها صلاح؟ إلى: كم فرصة أتت لصلاح، ولماذا أتت إليه؟ أتت إليه الفرصة لأنه اختار المكان الصحيح.
"نعرف كيف نوقفه"
"نعرف كيف نوقفه، يجب أن يكون ظهره دائما لمرمانا ولا نترك له مساحة للالتفات عند استلامه الكرة " المدافع الأوروجواني "دييجو لاكسالت".
هكذا باختصار تحدث المدافع الأوروجواني عن سر صلاح الثاني وعن طريقته الخاصة والذكية لإيقاف خطورته والتي تكمن في سرعته المدهشة التي يندفع بها صوب المرمى، سواء بالكرة أو بدونها.
سرعة صلاح ليست وليدة الصدفة فسرعة صلاح حسبما أرى نتجت من كونه يركض في التراك الصحيح وفي الاتجاه الصحيح. صلاح يركض نحو هدفه الواضح، الشغف الذي تبعه صلاح واستمر في تتبعه هو الذي جعل هدفه واضحا أمام عينيه ودفعه دفعا للركض بأسرع ما يمكنه، ليصبح في المركز السابع بين أسرع لاعبي العالم بسرعة 35 كم/ الساعة بفارق 1 كم/ الساعة عن مبابي أسرع لاعبي العالم، لاعب باريس سان جيرمان. سرعة صلاح كانت أثرا ونتيجه لركضه في الاتجاه الصحيح.
أتخيل أن مهمة المدافعين دائما ما تكون أكثر تعقيدا من المهاجمين. إذ كيف تنجح أن تعوق هدف أحدهم الواضح، سوى أن تكسر ثقته الذاتية في بلوغ هذا الهدف؟ ومن هنا فإن سطوع نجومية أحدهم في مركز المدافعين لا تتكرر كثيرا، كما أنّ هناك سببا خفيا، إذ أن المتعة المكتسبة من وراء منع الأهداف لا تقابل أبدا متعة إحراز الأهداف نفسها. كم مرة رأيت جمهورا يصفق أمام روعة هدف أحرزه لاعب منافس في مرمى فريقهم؟ هذه هي الحاجة الدفينة إلى البطولة والإنجاز المتخفية والقابعة بداخلنا حتى لو بأقدام الخصم.
سر صلاح الثالث كان هو الاستمرار، استمراره في الركض بكل ما أوتي من شغف وحب وقوة، رغم كل الإحباطات، رغم تنائي قريته عن العاصمة، رغم عبثية قيادات الأهلي والزمالك، رغم عنجهية مورينيو، رغم حواجز اللغة والثقافة والتغيرات الحادة في بيئة مجتمعه، رغم الإصابة المتعمدة مؤخرا، يستمر صلاح في الركض، وسيستمر فيه بعد التعافي أمام أوروجواي.
خلطة صلاح
أن تركض في التراك الصحيح وفي الاتجاه الصحيح ممتلئا بالثقة في بلوغك الهدف، وتستمر في ذلك بلا ملل رغم العقبات، أن تستمر ولا تتوقف، هذه هي خلطة صلاح السحرية التي جعلته الآن على عرش كرة القدم وسط الكبار ليصبح أمام التحدي الأصعب؛ وهو أن يستمر في تقديم مواسم استثنائية أخرى قادمة.
اقرأ أيضًا: صلاح.. "ابننا" الذي كبر وتخلّى عن فن اللامبالاة
هل تستمر راكضًا صوب المرمى يوم الجمعة وتخيّب آمال "لاكسالت" ياصلاح؟ هذا بالطبع ما يوده هذا الشعب الجائع كي تسد جوعنا لما افتقدناه جميعا جراء الاستستلام وعدم اتباع شغفنا؛ حتى كاتب هذه السطور.