يتعاطى الإيطالي كارمينيه كارتولانو مع الحياة بوصفها مغامرة مستمرة، ومحطات متتالية تستحق الاكتشاف. هو يتحدث ويعمل ويمرح ويلاقي الأصدقاء مثلما يكتب ويرسم ويشكّل ويصوّر، خارج الأطر الجاهزة دائمًا، ولا يعنيه أن يوصف بأنه غريب الهيئة والأطوار.
يعشق كارمينيه كارتولانو أو قارم قارت، المولود في العام 1972، مصر والمصريين، ويقيم في القاهرة منذ عشرين عامًا، حيث يعمل مترجمًا ومدرسًا للغة الإيطالية وباحثًا في الجامعة، وهو تشكيلي وكاتب ومصور ومترجم، من إصداراته "مصريانو: يوميات مصور"، عن ملامح الحياة الشعبية في مصر، ومن معارضه الفنية: "غريب على الأرض"، "لو"، "إعادة تشغيل"، وأخيرًا مغامرته التشكيلية: "قربوش.. أصداء نجيب محفوظ"، المنعقدة حاليًا في القاهرة.
قارم قارت!
"قارم قارت"، هو الاسم المختصر الذي يوقّع به دائمًا "كارمينيه كارتولانو"، ويقول في حديثه لـ"المنصة" إن هذا الاختصار في اسمه يمنحه خصوصية أكثر، فكل ما يتعلق بالفن يجب ألا يكون مختلطًا أو متشابهًا، حتى اسم المبدع.
لا يكتفي "قارم قارت" في رحلته لاكتشاف القاهرة وأناسها وروحها وطقوسها وملامحها بالتفاصيل اليومية المعيشة، وإن كانت هي الرافد الأخصب في تجربته ككاتب وتشكيلي ومصوّر، لكنه يستقي كثيرًا من خبراته المعرفية كذلك من الآداب والفنون، ويضع نجيب محفوظ في المرتبة الأولى بين المبدعين الذين أثروا وعيه ومخيلته، خصوصًا فيما يتعلق بالقاهرة وعوالمها السحرية في القرن الماضي.
لماذا "قربوش"؟
"قربوش"، مفردة ابتدعها قارم قارت، ويقول إنه يقصد بها القراءة الشخصية الخاصة به للطربوش، أي الطربوش من وجهة نظر قارم، فتكونت اللفظة "قرربوش". هكذا، تبلورت المغامرة الفنية لديه، إذ عمد إلى تصوير أصداء روايات نجيب محفوظ الواقعية الشهيرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" من خلال تركيبات تشكيلية تعتمد "الطربوش العثماني" ثيمة أساسية.
اشترى "قارم قارت" طربوشًا من أحد المحلات في قلب القاهرة العتيقة، فوجد نفسه يعود إلى روح المكان الشعبي، الذي هو البطل الحقيقي في روايات نجيب محفوظ، تلك التي دارت أحداثها في القاهرة الفاطمية القديمة، واستوحاها الكاتب المحنك من قلب الحياة التي عايشها في أثناء إقامته بحي الحسين ومنطقة الجمالية.
وتحظى أعمال محفوظ بدرجة عالية من المصداقية، ولذلك فإن شخصياتها تبدو كما لو أنها من لحم ودم، تتنفس وتمشي على الأرض، وتقيم علاقات مع البشر. من هنا، تعامل السينمائيون بسهولة مع أعمال محفوظ، وجسّدوا أبطاله الواقعيين الذين يعرفهم القرّاء جيدًا، وتمكن التشكيليون بدورهم من تمثيل شخصياته وتجسيد أصداء رواياته الواقعية، ومنهم كارمينيه كارتولانو، في معرضه المقام حاليًا بالقاهرة، الذي يتضمن أعمالًا من وحي سرديات أديب نوبل الخالدة.
من وحي أصداء نجيب محفوظ، جاء معرض "قارم قارت" المبتكر، الذي يحتضنه جاليري المشربية بالقاهرة على مدار ثلاثة أسابيع، ويستمر حتى 14 يونيو الجاري، وفيه يتفاعل الفنان بشكل مباشر مع أجواء وشخصيات وعبارات مقتطفة من ثلاثية نجيب محفوظ: "بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية".
يقول قارم قارت: "انحاز لتلك العلاقة مع الماضي، بمعنى التمسك بالهوية والجذور، بدون الوقوع في شرك الجمود والتقليد وتقديس الموروث بطبيعة الحال، فأنا الآن ابن العام 2018"، مبررًا حرصه على استدعاء "الطربوش العثماني" كرمز تراثي محبب له، إذ يعيد تشكيله ودمجه بعناصر أخرى في تكوينات مركبة، تتماس مع عوالم نجيب محفوظ، وفق رؤية خاصة تعتمد الاستشفاف والقراءة الذاتية لكتابات أديب نوبل.
ومن خلال تكوينات الطربوش، وروح نجيب محفوظ، يقترح "قارم قارت" مؤشراته الحساسة إلى المعاني المتعلقة بالخبز والحرية والثورة، ويترصد القيم النبيلة مثل الحق والخير والعدل والسلام، كما يبلور المشاعر الإنسانية المتراوحة بين الفرح والحزن والأمل واليأس، ويتلمس الصفات البشرية مثل الكرم والبخل والإقدام والشجاعة والعجز وغيرها.
"هي معانٍ إنسانية عامة، ربما تنبع من مصادر محلية مصرية، وروايات محفوظية، لكنها تخص البشرية كلها، في أي زمان ومكان". هذا ما يؤكده "قارم قارت"، ويوضح أن بعض الأعمال التي تناول فيها "الخبز" و"الحرية" و"الثورة" وما إلى ذلك من إشارات سياسية، لم يقصد بها الواقع المصري بشكل مباشر كما فسّر البعض، إنما أراد التعبير عن المشترك الإنساني بوجه عام.
وقد أفسح "قارم قارت" للطربوش البطولة المطلقة في معرضه، بتشكيلاته وتنويعاته المختلفة، ومعروف أن هذا الطربوش في هيئته التقليدية هو غطاء مخروطي للرأس، من مشتقات اللون الأحمر في أغلب الأحوال، وتتدلى منه خيوط حريرية.
ويعود أصل تسمية الطروبش إلى مفردة فارسية هي "سربوش"، بمعنى غطاء الرأس، وقد ظهر الطربوش في البلقان في زمن الإمبراطورية البيزنطية، وانتقل بعدها إلى الدولة العثمانية، وانتشر على نطاق واسع في تركيا ومصر والشام والمغرب العربي.
وإن المتقصي روايات نجيب محفوظ، يجد فيها إشارات متعددة إلى "الطربوش"، كغطاء للرأس، وكرمز في الآن ذاته. في "خان الخليلي"، على سبيل المثال، يتوقف بطل الرواية أحمد عاكف، الساكن الجديد في منطقة الخان، عند تيارات من الخلق لا تنقطع "ما بين معمم ومطربش ومقبَّع"، ويدل نوع غطاء الرأس هنا على ثقافة الفرد، ووعيه، وطبقته الاجتماعية.
وفي "زقاق المدق"، إذ يبرز نجيب محفوظ ذلك الانسلاخ الذي حدث للزقاق وأناسه من موروث العادات والتقاليد، فإنه يستدعي التحلل من غطاء الرأس "الطربوش" كمعادل لذلك التحول المجتمعي، وهنا تأتي النصيحة من الشيخ للشاب في الزقاق: "لا تمش بدون طربوش. احذرْ أن تعري رأسك في مثل هذا الجو في مثل هذه الدنيا، فمخ الفتى يتبخر ويطير".
يستفيد "قارم قارت" أيضًا من الدلالات الرمزية للطربوش، مشيرًا إلى أنه ليس مجرد غطاء للرأس، فمن خلال قراءته للثلاثية وغوصه في أجوائها، يوظف غطاء الرأس الذكوري ليصوّر السلطة الأبوية الكامنة وراءه، وسجلّ التقاليد التي يصعب محوها أو الفكاك من أسرها.
ويوضح "قارم قارت" أن هذا "الطربوش" ليس مجرد موضة، تتغير وتتبدل مثل بقية الملابس، إنما هو منظومة مجتمعية بأكملها، تهيمن على الرأس والفكر، وتنظم العلاقات الأسرية، وفق تلك "الأبوية" التي ظهرت في أوج تجلياتها في شخصية السيد أحمد عبد الجواد "سي السيد"، ومن ثم وجد "قارم قارت" أن ثيمة الطربوش هي الملائمة لترجمة ثلاثية "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" بصريًّا.
ويتندر "قارم قارت" قائلًا إنه يناصر الطربوش ويراه جديرًا بالارتداء والاحتفاء كرمز تراثي لطيف، لكن ذلك لا يعني أنه يتحمس للذكورية أو الأبوية بالتأكيد. ويوضح أن الطبقات الميسورة فقط في الماضي هي التي التصقت بالطربوش، كونه يوحي بالسيادة، لكن الطربوش الذي ينتصر له "قارم قارت" الآن هو مفهوم شعبي بامتياز.
وقد لجأ "قارم قارت" إلى تكنيك إضافي يساعده على توصيل أفكاره للمتلقي، فإلى جوار كل تكوين يستخدم فيه الطربوش للتعبير عن مشهد أو جانب من ثلاثية نجيب محفوظ، يضع عبارة يتفاوت امتدادها طولًا وقصرًا، مقتبسة من إحدى روايات محفوظ، أو وردت على لسان شخصية من أبطاله، وتمثل هذه العبارة مفتاحًا دلاليًّا لتأويل التركيب البصري.
عن هذه العبارات المحفوظية المقتبسة، يوضح "قارم قارت" أن أغلبيتها عبارات مكثفة، مجردة، انتزعها من سياقها لكي يكسبها أبعادًا إنسانية عامة، فالمعرض يضم أعمالًا تشكيلية، يفترض أنها تتجاوز الإحالات الضيقة إلى دلالات محددة بعينها، فالروايات مصدر إيحاء للمعرض، لكنها لا تقيد حرية الفنان.
"الخبز والحرية، هذا شعار الشعب الجديد"، عبارة وردت في "السكرية"، يستحضرها "قارم قارت" بجانب عمل يظهر فيه الطربوش مزينًا بمفردتي الخبز والحرية بالخيوط البيضاء، فيما يظهر المقص على الطربوش مزاولاً هوايته في القطع بتكوين آخر استوحى فيه الفنان عبارة من "بين القصرين" تقول: "اقطع كل صلة بينك وبين الثورة، ولو اقتصر دورك على توزيع المنشورات على خاصة أصدقائك".
تبدو "الأفكار" هي المهيمنة على معرض "قارم قارت"، لكن ذلك لا يعني أن الخيال التشكيلي فقير، ويوضح "قارم قارت" أنه استغرق عامًا كاملًا من أجل صياغة هذه الأعمال البصرية المركبة، فهو لا يقصد أن يطرح ذهنيات أو إيديولوجيات جافة أو إسقاطات سياسية، بقدر ما يطمح إلى تقديم أعمال تشكيلية تضيف مساحة جمالية في الفراغ.
ولا يكاد يخلو تكوين تشكيلي في معرض "قارم قارت" من دلالة، فإلى جوار عبارة "العجل وقع، هاتوا السكاكين" الواردة في رواية "قصر الشوق"، تظهر السكاكين البيضاء والمفضفضة ذات المقابض السوداء على سطح الطربوش المعبر عن تلك الرؤية. وتلتف أفعى حول الطربوش المحيل إلى عبارة "فلتقل الأفعى: نعم، وعند ذلك أعرض عنها بكل ازدراء وارتياح" في رواية "السكرية".
ومن رواية "قصر الشوق" يستوحي "قارم قارت" مشهد استدعاء الأطفال إلى حجرة الجد ليقبلوا يده ويتلقوا هداياه النفيسة من الشيكولاتة والملبن، فيصوّر الطربوش وقد أحيط بقطع الحلوى الملونة المبهجة. في حين يكتسي الطربوش بالحزن والسواد وهو يحمل عبارة "إن للرجال حزنًا غير حزن النساء" من رواية "بين القصرين".
ويحمل الطربوش بندقية في عمل يحيل إلى أن الفن سلاح، ومثلما ذكرت رواية "السكرية"، فإن الفن "هو المعبّر عن عالم الإنسان، فلا يمكن أن يكون نشاطًا غير جدّي". وتظهر على الطربوش في عمل آخر دجاجات تمشي من غير رؤوس، فتسترجع الذاكرة "عائشة" في "بين القصرين" وهي تهرع في المنزل كدجاجة مذبوحة.
ومع التفاف الفراشات حول الطربوش، ترفرف أجنحة السعادة، ويتساءل "قارم قارت" بلسان عبارة من "قصر الشوق": "أليست هذه هي السعادة؟ فراشة كنسمة الفجر تقطر ألوانًا بهيجة وترشف رحيق الأزاهر، هذا أنا، لو يدوم هذا الموقف إلى الأبد!". كذلك، يصير الطربوش قمة مزينة في أحد الأعمال، يعتليها جمل مشرق، وإلى جواره عبارة "جمل له طلعة البدر" من "قصر الشوق".
وتأتي بعض الأعمال حاملة تساؤلات كونية، مثل ذلك الذي يظهر فيه الثور فوق سطح الطربوش، وهو يحمل أكثر من كرة فوق رأسه، وتتساءل العبارة المقتبسة من رواية "بين القصرين": "هل تدور الأرض حول نفسها في الفضاء أم تنهض على رأس ثور؟".
ويصوّر "قارم قارت" نجيب محفوظ نفسه في أحد الأعمال بنظارته السميكة على طربوش أخضر، ويبدو "قارم قارت" مؤمنًا بأنه "لا ممنوع في الفن"، ويعلق على عمل مستوحى من رواية "قصر الشوق" بعبارة: "انظروا إلى الياسمين واللبلاب، انظروا إلى الحمام"، فيصير الطربوش منصة للانطلاق والحرية.
ويرى "قارم قارت" أن استكمال ملامح وروح القاهرة يتطلب الاشتغال على كافة المستويات، فهو يكتب، ويرسم، ويصور، وتكمل هذه الجوانب بعضها البعض، من أجل تقديم خارطة مكانية وزمانية وبشرية متكاملة، وهذا ما يسعى إليه خلال إقامته بمصر.
وإذا كان "الطربوش" يمثل فكرة تبدو قريبة أو بسيطة، فإن الخامة التي تعامل معها "قارم قارت" تبدو صعبة، ويوضح الفنان أن الصوف المصنوع منه الطربوش يجعل التعامل معه غير هيّن، ولذلك فإن العمل على الطربوش يستغرق مراحل كثيرة، تبدأ بالاسكتش اليدوي، ثم نقله إلى الكمبيوتر، وطباعته، ومحاولة نقله إلى سطح الطربوش، ثم الاشتغال بالخيوط في المرحلة الأخيرة، وهو أمر معقد.
"لولا أنني مصري، بحكم الإقامة، لما سلكت هذا المسلك"، هذا ما يختتم به "قارم قارت" حديثه لـ"المنصة" باسمًا، مشيرًا إلى أن "مصريته" المجازية هذه تحتم عليه الالتفات الجاد إلى الموروث الشعبي الأصيل، لاستخراج كنوزه، والاشتغال عليها برؤية معاصرة.