يتناقل الطلبة المغتربون في جامعة القاهرة أسطورة حول احتمالية تعرض أي طالب للسرقة إذا حاول عبر السور المجاور للجامعة إلى حي بولاق الدكرور. اعتدت المرور على ذلك الحي من أعلى الطريق الدائري أثناء دراستي في كلية الإعلام، ولم أرى منه سوى أسطح مليئة بالكراكيب والزبالة، حتى قادني الفضول ذات مرة إلى العبور إليه.
عندما عبرت كوبري المشاة لتجاوز السور توقف بي الزمن، علقت في متاهة حي بولاق الدكرور، كانت المرة الأولى التي أرى فيها حي شعبي عشوائي في القاهرة، يصرخ الحي بألوان لم أتوقع وجودها حين قدمت أول مرة من الدلتا، ومع التجول في حاراته تعلقت به سريعًا، ورغبت في السكن به لما رأيت فيه من تناقضات تتناسب مع سبب وجودي في القاهرة.
اكتشفت بعد ذلك أن هذا الواقع، غير المستثنى منه مناطق كثيرة بالقاهرة، ليس له وجود على خرائط جوجل، يظهر في الأقمار الصناعية مثل كتل رمادية متلاصقة، تكّون عشوائيتها متاهات متشابكة لشعور الخوف من المدن، مثل ألغاز لا يمكن فكها أبدًا، يسعى الصغار للخروج منها.
"ليس من رأى كمن سمع". رأيت حيًا يجمع عددًا هائلًا من البشر، يخلّفون بحضورهم زحامًا وضجيجًا مستمرًا أثناء سيرهم في شوارع ضيقة وحارات غير ممهدة للسيارات، المنازل الصغيرة المتلاصقة والمقاهي التي لا نهاية لها، مثلت لي صورًا متسلسلة لألوان وأضواء مبهرجة في كل اتجاه.
قضيت أعوامًَا كاملة أمر بين بيوت بولاق الدكرور، أعيش في مساحة 13 كيلو مترًا محاطًا بين مليون نسمة، اندمجت في زحام شوارع الحي ونسيت في ضجيجه تحذيرات والدي من الانبهار بالعاصمة، وقررت ألا أعود إلى القرية بعد إنهاء دراستي الجامعية.
عجزت عن البوح لأصدقائي بمشاعري نحو الحي، لم يتقبلوا الاعتقاد بأن هذا الحي "العشوائي" يبهجني التواجد فيه، رغم صورته على خرائط جوجل وصحف الحكومة، وكرًا عشوائي للجريمة وتجارة المخدرات، فإنه يمتلئ بكثير من الألوان.
عندما تخرجت وحصلت على وظيفة أرغمني انخفاض الأجور في القاهرة على عدم الخروج من بولاق الدكرور للسكن في حي آخر، أمر بين حارته كل يوم، عوالم صغيرة كونت تشويه العولمة لها خصوصية فريدة، التقط منها كل ما راحت له بصيرتي عن هوية المدن، كثيرًا ما تهت فيها باحثًا عن شئ أجهله.
تجذب بولاق الطلاب المغتربين للسكن بها لانخفاض أسعار الإيجار وقربها من جامعة القاهرة، وموظفي الحكومة القادمين من خارج العاصمة مع أسرهم، وآلاف من عمال الديليفري، حاملي وجبات المطاعم الأمريكية السريعة في شوارع القاهرة.
التقسيم العمراني فيها لا يبدو متناسقًا على الإطلاق، لم تحاول الدولة عبور شريط السكة الحديد لتساعد من بنوا بيوتهم بنشاط وإبداع - توقف عند أسئلة توافر الخدمات، على الأقل جمع القمامة، لكن هذا لم يوقف أهالي قرية "المعتمدية" المجاورة للحي المدني على المغامرة والعمل بإعادة تدوير مخلفاتهم.
باعة جائلين، أطفال يلعبون كرة القدم بين السيارات بعد يوم دراسي، بائعي المخدرات الواقفون على مداخل الحارات والمقاهي الصغيرة، والأسواق المزدحمة بالتكاتك- وسيلة النقل الوحيدة التي استطاعت اختراق متاهات الحي.
كذلك موسيقى المهرجانات القادمة من كل مكان، أوركسترا الضجيج الذي يساعد في تقبل تلك الحياة الصاخبة المليئة بملايين البشر.
كل تلك التناقضات الجميلة تختفي وراء سور خرساني طوله 3 أمتار يفصل بولاق الدكرور عن العالم المجاور لها، سور يمنع رؤية المساحة الحرة لامتداد قضبان شريط السكة الحديد حد البصر. فانعزل الحي عن أحياء مجاورة تحتل واجهتها أشهر ماركات الملابس الأمريكية، والطريقة الوحيدة للخروج من بولاق هي عبور السور عن طريق كباري المشاة العلوية.