تضاعف بشكل لافتٍ في السنوات الأخيرة عدد الكُتّاب الشباب المهتمين بكرة القدم. ممن منحتهم مساحات النشر المجانية كالمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي فرصة ثمينة للكتابة والانتشار، كما ساهمت في محو الحد التقليدي الفاصل بين الكُتّاب المحترفين الذين يتقاضون أموالًا نظير كتاباتهم، وبين الهواة. وصار معتادًا أن نرى كاتبًا هاويًا ينتقل سريعًا، بعد أن يحقق قدرًا من الانتشار على مواقع التواصل، إلى خانة الكاتب المحترف.
أثمرت تلك الزيادة تنوعًا كبيرًا في المحتوى الكروي المكتوب، وخروجًا عن المألوف في معالجة كثير من الأحداث والقضايا الكروية. وبدت تلك الحالة بتفاصيلها جزءًا من ثورة كبيرة على الأنماط التقليدية من المعالجات التي ارتبطت بالأساس بالصحافة الورقية.
ورغم أن هذه الثورة أزعجت الحرس القديم من الصحفيين والكتاب الرياضيين؛ إلا أنهم لم يجدوا مفرًا من مواكبتها؛ أذكرُ أن أحد الصحفيين المخضرمين قال لي قبل سنوات إن لفظ ناقد رياضي أصبح سُبّة لأن "كل عيل صغير بقى يعمل صفحة على فيسبوك ويسمّي نفسه ناقد" وبعد أقل من عام طلب مني الشخص نفسه مساعدته على إنشاء صفحة شخصية له على فيسبوك والترويج لها.
أفرزت تلك الحالة الثورية، كعادتها، قدرًا من السيولة ليس بسبب كثرة وتنوع المادة المكتوبة؛ لكن بسبب خروجها عن كثير من القواعد المنظمة للصحافة بشكل عام، وأقصد هنا أشكال المعالجة الصحفية التقليدية واللغة المستخدمة في الكتابة وغير ذلك. كمّا تحدّت تلك الحالة كثيرًا من الأعراف المستقرة لدى الصحفيين والكتاب الرياضيين بشكل خاص، وفي مقدمة تلك الأعراف ما يتعلق بموازين القوى الكروية المحليّة وما يُطلِق البعض عليه "خطوطًا حمراء"، سواء كانت كيانات أو أشخاصًا لا توجّه إليها سهام النقد.
هذا الصخبُ، كما فتح آفاقًا جديدة للكتابة الرياضية وقدّم لنا جيلًا مميزًا من الكتّاب الشبّاب؛ إلا أنه وعلى الجهة المقابلة أعاد إنتاج العديد من السلبيات القديمة وقدّمها لنا في حُلة جديدة. بالإضافة إلى أنه، وكنتيجة منطقية لكثرة المواد المعروضة وقلة خبرة كثير من أصحابها بالكتابة، فقد أضاف إلى قائمة السلبيات الكثير والكثير.
نقف هنا، في هذا المقال، مع بعضٍ من سلبيات هذا المشهد الصاخب المضطرب.
الكاتب المشجّع
كنتُ قبل عامين أو أكثر أقرأ مقالًا عن زلاتان إبراهيموفيتش. يقول كاتبه إن المهاجم السويدي المخضرم ليس من بين أفضل اللاعبين في العالم، وإن هناك قدرًا كبيرًا من المبالغة في التعامل مع مسيرته الكروية. تناقشتُ وزميلٍ حول المقال لكنّه باغتني "هل تعرف النادي الذي يشجعه الكاتب؟" وحين أجبت بالنفي قال "إنه يشجع برشلونة. أعلن ذلك أكثر من مرة. وسَخّر كثيرًا من وقته للدفاع عن الفريق لذلك فالأمر محسوم". لم أفهم سبب الربط، فاستطرد سريعًا "كاتب يشجع برشلونة، وإبراهيموفينش ينتقد جوارديولا المدرّب المفضل للجماهير الكتالونية؛ لذلك سوف ينتقده ويقسو عليه".
هذه، من وجهة نظري، هي الأزمة الرئيسة في الانحياز. حين يعلن الكاتب انحيازه لشيء ما، فريق أو شخص أو بطولة بعينها؛ فإن التعامل مع كل ما يكتبه سوف ينطلق من قاعدة واحدة "أنت مشجّع ولست ناقدًا أو محللًا، تحاول الدفاع عمّا تحب قبل كل شيء" وقتها تفقد الآراء كثيرًا من منطقها وقوتها.
البعض لا يرى في انحياز كتّاب الكرة أمرًا سلبيًا. يقول إنه من المنطقي أن تكون للكاتب قِبلة ما يولّي وجهه شطرها، وحتى إن تأثرت آراؤه بتلك الانحيازات وحادت قليلاً عن المنطق، فإن هذا لا ينتقص من قدره لأن لكل منّا انحيازاته.. وفي هذا الحديث خلل كبير.
مصدر الخلل هنا أنّ مشجعَ الكرة تُحركه، دون هوادة، مشاعره وعواطفه. يُحب شيئًا ويكره أشياءً. لذلك تتسم ردود أفعاله دائمًا بالتطرف؛ يرفع شخصًا إلى السماء السابعة بقصائد مديح ثم يسُب أباه وأمه بعدها بدقائق قليلة. كُتلة من المشاعر والعواطف التي لا يحكمها - في الأغلب - عقل أو منطق؛ أمّا الناقد أو الكاتب فيقف على أقصى الطرف الآخر. ينطلق حين يُقيّم حدثًا أو يحلل مباراة من قناعاته واستنتاجاته، لا من مشاعره وتفضيلاته. وهذا وحده يضبط انفعالاته خلال الكتابة ويضمن لآرائه قدرًا من المنطق والرصانة.
ما جدّ على المشهد الكرويّ خلال السنوات الأخيرة، وهو أمر شديد الغرابة، أن كثيرين لم يعد الانحياز يُمثّل لهم سُبّة أو أمرًا سلبيًا يحاولون التخلص منّه، بل على العكس تمامًا، ظهر كُتّاب يعلنون صراحة انحيازهم ويفتخرون به ويعدّونه نقطة قوة تجذب إليهم العديد من المتابعين.
أحدهم على سبيل المثال، ظهر كـ"محلل زملكاوي". هكّذا كان يُعرَّف في بداياته. قال محبوه ومتابعوه إنه يمثل صوت "اليمين الزملكاوي المتطرف" الذي يعشق النادي حد الجنون. انتقل سريعًا من الهواية إلى الاحتراف ولمع نجمه. وآخر، كرّس صفحته على فيسبوك، التي حظيت بإعجاب الآلاف، للدفاع عن فريق برشلونة وجوارديولا، وأصبح وجهة مفضلة لكثير من أنصار النادي.
ويبدو كثير من الآراء التي يقدمها النقاد الذين لم يخلعوا بعد عباءة التشجيع جميلًا وبرّاقًا، إذ يُدعم بالإحصاءات الدقيقة والخرائط الحرارية وغيرهما ليكتسب قدرًا من المنطق. لكنّ الأزمة، مرة أخرى، أبعد من ذلك. الأزمة أن الكاتب هنا يُحب شخصًا أو فريقًا ثّمَ يُسخِّر كل ما يملك من أدوات للدفاع عنه. يبالغ في مدح كل جميل ويغض الطرف عن العيوب والثغرات. يُقدم لنا صورة جميلة بها قدر من المنطق لكنّها في الوقت نفسه منقوصة.
وحين ينتقل هذا الكاتب المشجع من خانة مدح الشيء الذي يُحبه إلى خانة الذم، يكون شديد القسوة والتطرف أيضًا. صادفت كثيرًا من هؤلاء يسنّون سكاكينهم لذبح أنديتهم حين تتعثر وتسقط. يشعر بعضهم بالاضطراب في مثل تلك الحالات. لا يستطيع الدفاع والتبرير لأن "شكله هيبقى مفضوح" كما يُقال. ولا يستطيع الصمت وتجاهل الأمر لأن جمهوره ينتظر تعليقه بشغف، وينتج عن هذا الاضطراب وعن غضبه من هزيمة وتعثر فريقه نقدًا قاسيًا للغاية.
الأدب والبلاغة
أتساءل كثيرًا: لماذا يصرُ شخص لا يملك من الزاد إلا القليل على السير في طريق طويل غيّر ممهد لا يعرف مداخله ومخارجه؟ ولماذا حين يضل الطريق وتتعثر خطاه لا يعود إلى نقطة البداية أو يبحث عن طريق آخر يقوده إلى وجهته بسهولة ويسر؟ وكيف يجتذب، رغم جهله كثيرين يسيرون على خطاه، ويقتفون أثره أملًا في الوصول إلى نهاية آمنة؟
اللغة العربية هي هذا الطريق الطويل الذي يحتاج السير فيه قدرًا كبيرًا من الخبرة والصبر والتمهّل، حتى تألفه الذاكرة وتحفظ مداخله ومخارجه وتبرع فيه. وهذا الشخص هو الكاتب الكروي الذي قرّر أن يسلك أكثر الطرق صعوبة بالتفرغ للكتابة الأدبية دون أن يعرف من اللغة إلا أقل القليل.
في السنوات الأخيرة، بات معتادًا أن نقرأ مقالات يحاول أصحابها الكتابة بلغة أدبية مُزخرفة مُزركشة مليئة بالصور والتشبيهات. يسرد بعضهم قصصًا، كثير منها غير مألوف للجمهور. ويكتفي البعض بكتابة ما يشبه وصلات المديح لشخص أو فريق بعينه، والبعض الآخر قرر أن يُحلل مباريات الكرة بشكل أدبي.
أول ما تفعله هذه الكتابة بنا أنها ترفع سقف توقعاتنا اللغوية عاليًا؛ بمعنى أننا حين نُقبِل علي قراءتها نتوقع أن يمتلك كاتبها من الخيال ما يساعده على رسم صور جميلة دقيقة، ومن البلاغة والتمكن اللغوي ما يساعده على زخرفة كتاباته بالمحسِّنات. لذلك حين نقرأ تشبيهات ساذجة، ولغة هشّة ضعيفة، تكون الصدمة قوية.
واللافت هنا، أن لهذا النوع من الكتابة بريقًا لا يخفى. المحسّنات والتشبيهات والزخارف اللغوية جميلة وتجذب كثيرين إليها. الغث والسمين من هذه الكتابة يجد لنفسه جمهورًا تتباين وتختلف قدراته. لذلك لا تتعجب إن وجدت آلافًا يتابعون بشغف أحد الكتاب من أبناء هذه المدرسة ولو كانت جعبته اللغوية خاوية، ويعاني من فقرٍ في الخيال وركاكة في الأسلوب.
ولأن مجال التنافس بين أبناء هذا الاتجاه لا يرتبط بوفرة المعلومات والتحقق منها، بل بالقدرة على التجويد والتزيين قدر استطاعتهم؛ تحوّلت تلك الكتابة بمرور الوقت إلى ساحات لاستعراض المهارات والقدرات اللغوية، مثل الحرص على كتابة كل كلمةٍ بالتشكيل ولو كان نطقها وضبطها معروفًا للجميع. وأصبح الكاتب الأفضل هنا هو من يثبت للجماهير أن لغته أقوى وتعبيراته أجمل من الآخرين.
كما بات معتادًا أن نقرأ لكثير من أبناء هذا الاتجاه دون أن نفهم الفكرة الأصلية التي يحاول الكاتب شرحها. أو دون أن يقدم لنا من الأدلة ما يثبت به صحة حديثه ورجاحة منطقه بأي شكل من الأشكال. لأن الهدف من الكتابة عنده هو الإمتاع وليس الإقناع.
الإكثار من مثل تلك الكتابات بات مزعجًا للبعض؛ أحد الأصدقاء الغاضبين كتب على فيسبوك مطالبًا بنهاية هذا النوع من الكتابة لأننا غير مطالبين بـ"استخراج مواطن الجمال وماذا كان يقصد الشاعر" على حد قوله. ورغم ذلك، فإن هذا النوع من الكتابة له أهمية لا يمكن إنكارها.
ووجه الأهمية هنا، كما أراها، يتمثل في القدرة على جذب كثير من غير المهتمين بالكرة إلى عالمها. أعرف أشخاصًا لم تكن الكرة أبدًا ضمن اهتمامتهم؛ لكنهم مؤخرًا أقبلوا على قراءة تلك المقالات حيث وجدوا أن هناك العديد من القصص والتفاصيل التي تتجاوز حيّز الركض بالكرة وتسجيل الأهداف.
وأذكر في هذا السياق إدواردو جاليانو الكاتب الأوروجواني الشهير، مؤلف كتاب "كرة القدم بين الشمس والظل" أحد الكتب الرائدة في مجال الكتابة الأدبية في كرة القدم. في كتابه "صياد القصص" يعلق جاليانو على ذيوع وانتشار كتابه عن كرة القدم في مختلف أرجاء العالم قائلاً "أردت أن أساعد المتعصبين للقراءة على التخلص من خوفهم من كرة القدم، وأن يتخلص متعصبو كرة القدم من خوفهم من الكتب، ولم أتخيل قط ما هو أكثر من ذلك".
فخ الإحصاءات
إذا كان النوع السابق من الكتابة يُشبه حصص الأدب والبلاغة في مرحلة الثانوية العامة، فإن هناك نوعًا ثانيًا يقف في الجهة المُقابلة، يمكن اعتباره أشبه بحصص الفيزياء أو الرياضيات. هنا تتوارى التشبيهات والمحسّنات خلف الأرقام والإحصاءات والخرائط الحرارية والرسوم التوضيحية.
لسنوات طويلة، كان الحديث عن فنيّات كرة القدم كالخطط وطرق اللعب قاصرًا على مجموعة من لاعبي الكرة المعتزلين والمدربين بالإضافة إلى بعض الصحفيين المخضرمين. وكانت القنوات الفضائية وجهتهم المفضلة للحديث عن التكتيك الكروي من خلال "الاستديوهات التحليلية". ساهمت هذه الوجوه في تشكيل الوعي الكروي لدى كثير من المتابعين، وأصبح معتادًا أن تباغت آذاننا في كثير من الأحاديث الكروية مصطلحاتُ أطلقها هؤلاء المحللون ثم انتشرت بين الجماهير.. "خلونا نتكلم كفنيين".
أمّا الجيل الجديد من الكتاب، فقد بدا مختلفًا للغاية. امتلك أدواتٍ كثيرة ساعدته على منافسة الوجوه القديمة والتفوق عليها في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال؛ إذا حاول أحد المحللين المخضرمين تقييم أداء لاعب خلال مباراة فإنه سيقوم باسترجاع بعض اللقطات له ويُعلّق على كل منها؛ أمّا إذا جاء محلل ينتمي للجيل الجديد فإنه لن يكتفي بعرض هذه اللقطات، لكنّه سيصاحبها بإحصاءات دقيقة تشمل عدد تمريرات اللاعب ونسبة دقتها والمسافة التي قطعها خلال المباراة، بالإضافة إلى مجموعة من الرسوم التوضيحية.
بدأ الحديث عن فنيّات اللعبة يأخذ اتجاهًا جديدًا تتضاءل فيه المساحة الذاتية التي تتيح للمحلل تقييم الأمور بناءً على خبرته الكروية كلاعب أو مدرب، وفي المقابل تزداد وتكبر المساحة المتاحة لتقييم الأمور بناءً على الأرقام والإحصاءات والرسوم. وهذا التنازع أيضًا يمكن النظر إليه باعتباره جزءًا صغيرًا من صراع يحتدم بين الحين والآخر بين فريق يرى الكرة عمل فنيّ إبداعي يقوم على الموهبة قبل كل شيء، وفريق آخر يرفض التعامل مع اللعبة من هذا المنطلق ويرى أنها باتت علمًا يعتمد على مجموعة من المعايير والقواعد الصارمة.
جرفت المحللين الجدد أمواج الإحصاءات والأرقام والرسوم. هذه هي الأدوات الجديدة التي سوف تعضّد آراءهم وتكسبها قوة لا يستهان بها. لذلك جاءت تحليلاتهم جامدة وصلبة ومُرهقة للذهن في أحيان كثيرة، كما أن التعامل مع دلالات الأرقام باعتبارها الحقيقة الكاملة التي لا تحتاج إلى مزيد من التبسيط والشرح بالإضافة إلى توضيح السياق العام لها؛ جعل كثيرًا من التحليلات تبدو منقوصة أو مُضلِلة.
وعلى سبيل المثال، إذا كتب أحدهم يمتدح لاعبًا لأنه أفضل مُمرر في فريقه حيث تجاوزت نسبة تمريراته الناجحة 90%؛ فإن هذا الرقم وحده قد لا يكون مؤشرًا كافيًا يستدعي المدح والإشادة ما لم يقترن بمجموعة من الأرقام الأخرى مثل عدد تمريرات اللاعب، إذ ربما يكون صاحب أفضل نسبة تمرير لأن الكرة لا تصل إليه إلا قليلًا. كذلك قد يكون من الضروري هنا عقد مقارنة بين هذا العدد وبين عدد تمريرات اللاعب الذي يشغل المركز نفسه في الفريق المنافس ونسبة دقة كل منهما. وبعد ذلك يجب تحديد الاتجاهات التي مرر إليها الكرة؛ كم تمريرة إلى الخلف وكم تمريرة إلي الأمام. وكم تمريرة تسببت في صناعة فرص لزملائه.. وهكذا. تحتاج الأرقام إلى من يُحسن قراءتها ويقوم بتضفيرها وتشبيكها للخروج بصورة مكتملة، وهذا، مع الأسف يندر حدوثه.
كمّا أننا بعد أن نقرأ كل تلك الأرقام، سنحتاج إلى مشاهدة المباراة حتى نتأكد من أن تلك التمريرات الصحيحة لم تتسبب في أي خطر على فريق اللاعب؛ فربما مثلًا يتخذ اللاعب قرارًا بتمرير الكرة للاعب محاط بمجموعة من لاعبي الفريق المنافس بدلًا من تمريرها إلى زميل آخر غير مُراقب. في تلك الحالة ستُحتَسب التمريرة صحيحة حين تصل إلى زميله، لكنها في الوقت نفسه ستجعل الأخير في موقف صعب وسترتفع احتمالات فقدانه للكرة. وإذا افترضنا أن الكرة قُطعت وارتدت وسكنت الشباك، سنكون أمام المعادلة التالية: تمريرة متقنة تضاف إلى عدّاد التمريرات، لكنها تسببت بشكل مباشر في اهتزاز شباك الفريق.
وبعيدًا عن الصلابة والجمود وعن السقوط في فخ الإحصاءات، هناك عيب آخر طغى بشدة على هذا الاتجاه مؤخرًا؛ حيثُ اعتاد كثيرون إغراق تحليلاتهم بالمصطلحات والتعبيرات الأجنبية. ولا أتحدثُ هنا عن تلك المصطلحات التي قد يجد الكاتب صعوبة في ترجمتها للعربية بكلمة واحدة فيُفضل كتابتها بالإنجليزية ثم يقوم بشرحها.
قبل أيام، قرأت تحليلًا لمباراة كتبه أحد المحللين على فيسبوك، ذكر فيه أكثر من 10 مصطلحات أجنبية في أقل من 15 سطرًا. كانت فكرته واضحة منذ السطر الأول، وهناك طرق كثيرة لتبسيطها للقارئ، لكنّه اختار تعقيدها، وقام بحشوها بالعديد من المصطلحات التي جعلتني مجبرًا على اللجوء لأحد مواقع الترجمة للتأكد من المعنى المقصود.
النقد الناعم "مش عايزين نقسو على اللاعيبه"
المنظومة الكروية المحلية مُجامِلة ومهادنة؛ يتحدث اللاعبون عن بعضهم البعض أمام الشاشات بتبجيل واحترام مبالغ فيه. إذا سأل أحد مراسلي القنوات الفضائية لاعبًا عن أدائه في المباراة سيبدأ حديثه قائلًا: "أحب أحيي الكابتن (-).. والكباتن اللي معاه في الاستوديو" وبعدها سيجيب عن السؤال.
كذلك يكتفي أغلب المحللين بتوجيه نقد ناعم للفرق والمدربين؛ نسمع كثيرًا عبارات مثل "مش عايزين نقسو على فلان" أو "مش عايزين ندبح اللاعيبه". وإذا قسا أحدهم على مدرب أو لاعب يكون الأمر، في الأغلب، نتاج خلافات شخصية بين الطرفين أو لاعتبارات تتعلق بالانتماءات الكروية لكل منهما.
هذا السلام الزائف، تقابله على الجهة الأخرى انتقادات لا تعرف أي رحمة على مواقع التواصل والمدونات؛ لكن ماذا يحدث حين ينتقل أحد الكتاب الهواة لخانة الاحتراف؟ هل يحتفظ بنبرته الحادة أم يرضخ للأعراف الكروية المستقرة؟
لا يحتفظ الكتّاب الشباب -وحديثي هنا عن الكرة المحلية- بنبرتهم الحادة حين ينتقلون للاحتراف وتفتح لهم أبواب الصحف والمواقع والفضائيات. هذا التحوّل لا يأتي فحسب، كما قد يردد البعض، من باب تهذيب النفس ومحاولة ضبط الأداء الإعلامي، إذ أنه "لا يعقل أن نكتب أو نتحدث للجماهير بلغة مشابهة لتلك التي نكتب بها على فيسبوك وتويتر" لكنّه يأتي نتيجة رضوخ تتباين درجاته، لتلك الأعراف المستقرة.
يتحول الكتّاب الجدد لنسخة أكثر حيوية وبريقًا من قدامي المحللين والصحفيين. نسخة أنيقة ومعاصرة لكنها في الوقت نفسه تعرف أن هناك خطوطًا حمراء لا يجب تجاوزها، وأن الوسط الكروي تحكمه مجموعة من الأعراف متى خالفوها ستُغلق الأبواب أمامهم. هذه الحالة، حالة الرضوخ للمنظومة الإعلامية الكروية بسوءاتها العديدة، ينتج عنها نقدًا ناعمًا رقيقًا في أغلب الأحيان.
على سبيل المثال، انظر للطريقة التي تعامل بها الكتاب في الصحف والمواقع الإلكترونية ذات التأثير أو هؤلاء الذين يخرجون على الشاشة مع لاعب الأهلي السابق وستوك سيتي الحالي رمضان صبحي صاحب الشعبية الكبيرة في مصر.
قبل خروج رمضان إلى الاحتراف، وُصف اللاعب الشاب بأنه ثروة قومية يجب الحفاظ عليها. انتقل إلى ستوك الصيف قبل الماضي، باعتبار النادي الذي يتواجد في قاع الترتيب محطة أولى ينطلق منها اللاعب إلى أكبر أندية العالم. ورغم ذلك، واجه رمضان صعوبة كبيرة للمشاركة أساسيًا مع ستوك وحين بدأ يشارك لم يُضف شيئًا يُذكر.
كان منطقي أن توجّه أسئلة كثيرة عن سبب تعثر رمضان، ومن يتحمل مسؤوليته، وهل بإمكان اللاعب تجاوز هذه الأزمة سريعًا؟ أم سيحتاج فترة أطول لإثبات أحقيته باللعب في الدوري الإنجليزي. لكنّ كل هذا لم يحدث.
اكتفى هؤلاء الكتّاب، الذين رضخوا لموازين القوى المحلية، بتدليل اللاعب والتماس الأعذار له وتوجيه نقد ناعم لا يُسمن ولا يغني من جوع. تكرر الحديث عن ضرورة الصبر على النجم الشاب لأن "المستقبل أمامه كبير" دون التحدث عن عدم تطوّر رمضان بالشكل الكافي، وعن حاجته لبذل المزيد من الجهد.
أذكر أنني شاهدت مباراة مؤخرًا لرمضان، وكان، كالعادة، يقدم أداءً سيئًا دفع المدرب لاستبداله بعد دقائق قليلة من الشوط الثاني. وبعد أقل من ساعة وجدت أحد المواقع الكبرى ينشر خبرًا عن أداء اللاعب في هذه المباراة، أشار عنوانه إلى أن رمضان قدم أداءً دفاعيًا مميزًا واستحق التصفيق من الجمهور عند مغادرة الملعب؛ هكذا تُعالج الأمور.
الكاتب vs القارئ
العلاقة بين الكاتب الصحفي والقارئ مباشرة وواضحة؛ يعرض الأول رأيه ويتفاعل الثاني معه إيجابًا أو سلبًا. يبذلُ الكاتب، غالبًا، جهدًا كبيرًا ويقدمه للقارئ في كلمات يلتهمها الأخير في دقائق قليلة ثم يبدأ في تقييمها.
في السنوات الأخيرة، ظهر وانتشر في الصحافة الرياضية صنف من الكتاب يتعامل مع القارئ بقدر كبير من النديّة وأحيانًا يناصبه العداء، وكأنه منافس يجب التفوق عليه. يكتب بنبرة تنطوي على تمجيد للذات، وتحطُ في الوقت نفسه من قدر القراء.
https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2FChampionsLeague%2Fvideos%2F2014525271927258%2F&show_text=0&width=560قبل أيام كنت أقرأ، بناءً على ترشيح من صديق، مقالًا يُحلل بشكل مستفيض واحدة من مباريات الأدوار النهائية لدوري أبطال أوروبا. منذ الفقرة الأولى، بدأ الكاتب توجيه الحديث للقارئ، وطالبه بعدم التسرع في الحكم عليه. بعدها بفقرتين أو ثلاث، عاد ليطالب القارئ بالتخلي عن انحيازاته حتى يستطيع فهم الفكرة جيدًا. وتكرر هذا الأمر كثيرًا. وكثرت في هذا المقال كلمات مثل: الحرقان والهري والحزق والهبد إلى غير ذلك من مصطلحات "المناكفة" المنتشرة حاليًا.
تشعر وأنت تقرأ هذا المقال وأشباهه أن الكاتب يحاول أن يوصل لنا شيئين لا ثالث لهما: أولهما؛ أنا مُثقف وموهوب، قرأت الكثير من الكتب وشاهدت العديد من المباريات وخضت نقاشات لا حصر لها. والثاني: أنتم معشر القراء حِفنة من الجهلاء لن تفهموا ما أقوله بسهولة. لذلك أما إن تقتنعوا أو تنصرفوا دون جدال.
وأرى في مثل هذه الكتابات امتدادًا لأدبيات – إن صح اللفظ – مواقع التواصل، وأقصد أن الكتابة على فيسبوك وتويتر تمنح القارئ قوة كبيرة، حيث يكون قادرًا على انتقاد الكاتب والسخرية منه عبر تعليقات فوريّة تظهر للمتابعين، وهذه القوة تدفع بعض الكتاب لمواجهة القراء بقدرٍ من التحفز والحساسية وأحيانًا الصدام.
لسان حال هؤلاء الكتاب يقول: "لا، لن نكون فريسة لكم، لن تقوموا بالتحفيل علينا، لن تتتبعوا عثراتنا ولن نسمح لكم بذلك" وهذا المنطق يحكم كل كتاباتهم منذ بدايتها وحتى النهاية.
الأفضل - الأسوأ
تُتابِع الأندية الكبرى بعض اللاعبين مدة تقترب من العام. ترسل أفرادًا من طاقم الكشافة لتقييم كل لاعب. وحين تنوي شراء أحدهم تعقد جلسات كثيرة يتناقش خلالها المدربون والإداريون والفنييون قبل اتخاذ القرار النهائي؛ بينما لا يستغرق الأمر أكثر من دقائق معدودة حتي يقول أحد المشاهدين على المقهى إن هذا اللاعب "معندوش فكرة".
هكذا تسير الأمور؛ متابعة وتدقيق وتشكك وتخوّف وتساؤلات كثيرة وبحث واطلاع قبل الحكم على الأشياء. لكن هذا مع الأسف لا يبدو مُفضلاً أو مرحبًا به لدى كثيرٍ من الكتّاب الكرويين، الذين فضّلوا أن يكونوا مثل هذا المشاهد.
بات معتادًا أن نقرأ مقالات لكتاب يتساهلون في إطلاق الأحكام القطعية. يقدم لاعب مباراة أو اثنتين بشكل جيد، فيتغنى الكاتب بقدراته ويطلق حكمًا نهائيًا لا رجعة فيه بأنه لاعب متميّز دون النظر إلى سجل اللاعب قبل هاتين المباراتين، أو إلى قوة الخصم، أو حتى الظروف التي ساعدته على التألق في تلك الفترة تحديدًا.
https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2FChampionsLeague%2Fvideos%2F2012409228805529%2F&show_text=0&width=476أذكر أن أحد هؤلاء كتب عبر فيسبوك في النصف الأول من الموسم الحالي، وبالتحديد في شهر نوفمبر، بعد أن قدم فريق ليفربول أداءً سيئًا أمام إشبيلية في دوري الأبطال، أن يورجين كلوب المدير الفني لليفربول سيفشل كعادته في تحقيق نتائج إيجابية، وأن الريدز لن يتمكن من تجاوز الدور الثاني من دوري الأبطال، ولن يكون قادرًا على التواجد ضمن الأربعة الأوائل. وخاض جدالًا طويلًا للدفاع عن رأيه.
لم ينتهِ الموسم بعد لكنّ ليفربول بلغ، حتى هذه اللحظة، نصف نهائي دوري الأبطال. ويحتل المركز الثالث في الدوري قبل نهايته بثلاث جولات.
ولا يكتفي هؤلاء بإصدار الأحكام المتسّرعة، التي لم تُبنَ سوى على انفعالات وقليل من الخبرة وكثير من الاندفاع، لكنهم يقتحمون أكثر القضايا الجدلية في عالم الكرة ويشهر كل منهم سلاحًا أكرهه للغاية هو: أفعل التفضيل.
يقول كاتبًا إن اللاعب الفلاني هو الأفضل في التاريخ وأن الأمر "لا يحتاج إلى نقاش". ويجزم آخر أن هذا الفريق هو الأسوأ في تاريخ اللعبة. لا يكتفي أحدهم بأن يقول إن هذا اللاعب هو الأحب إلى قلبي أو هذا النادي أكثر الأندية التي أكرهها حتى يصبغ على هذا التفضيل قدرًا من الذاتية، لكنّه يجزم بشكل قاطع.
هذه السلبيات، وغيرها، وإن كثًرت؛ فإنها في الوقت نفسه تعد نتيجة طبيعية بعدما فُتح باب الكتابة أمام الجميع. وهي، رغم كرهي لها، أفضل بكثير من الأنماط التقليدية في الكتابة الرياضية. وأفضل بكثيرٍ من مدارس قديمة كانت حين تحاول الإبداع والابتكار تباغتنا بعناوين من عينة "يا زمالك يا محتاس.. إنبي خد الكاس". و"الأهلي هايص.. والزمالك لايص".