تصوير وتصميم إسراء محمد - بينترست

ما وراء الأغنية: في السياسة والجنس والدين

منشور الثلاثاء 24 أبريل 2018

أحيانًا يحمل المنتج الفني درجات مختلفة من التلقي لدى الجمهور المشاهد، يزداد هذا في حالة الفنون المرئية كالسينما والمسرح والتصوير، وينسحب هذا على الإبداع المقروء أيضًا. ولكن في غالبية الأحوال؛ يكون النص الفني المسموع أو المقروء أو المرئي واضحًا مباشرًا، لا ينتظر تأويلات متعددة متباينة من المتلقين، جمهورًا كانوا أم نقادا.

في الحالة الأولى، يكون العمل الفني ذا مستويات عدة، لا يمنح نفسه للمتلقي بسهولة، بل ينتظر منه اجتهادًا في فصل طبقاته وفهم ما وراء السطور، وربما يكشف المتلقي عن طبقات ومعان ورسائل أخرى في العمل في كل مرة يعيد قراءته أو مشاهدته أو الاستماع إليه. هذه الفئة من الأعمال غالبا ما تكون قليلة. وفي المشهد الفني المصري والعربي هي أعمال بالغة الندرة. ربما تزداد عددًا في حالة النصوص الإبداعية المكتوبة، لكنها تتراجع بشدة كمًا وجودة في حالة الإنتاج الفني المسموع والمرئي. وتعاني هذه الأعمال من عزوف جماهيري يظهر في مبيعات الألبومات أو شباك التذاكر، كما في حالة أفلام المخرج الراحل يوسف شاهين التي كانت تحقق هوامش ربح ضعيفة في السنين الأخيرة في حياته وإنتاجه السينمائي. 

أما الفن المسموع المتمثل في الأغنية بشكل خاص، فهو غالبًا ما يتجه للمباشرة والوضوح التام، وتثبت التجربة أنه كلما كانت كلمات الأغنية أبسط وأقل تعقيدًا؛ كلما زاد نصيبها من الانتشار والجماهيرية، فالأغاني المُلغِزة بالنسبة للجمهور العام، هي أغان غير ممتعة، أو على أحسن تقدير؛ مصنوعة لجمهور بعينه.

لهذا - وكلامنا هنا عن الأغنية العربية- نجد أن أكثر الأغاني الجماهيرية صُنعت بخلطة تضمن المباشرة والوضوح التام، وغالبًا ما تدور في فلك الحُب والعلاقات ودرامتها المعتادة، دون اقتراب من تعقيد تلك العلاقات. 

ولكن بعيدًا عن هذه الأغاني الغالبة؛ هناك وجوه أخرى للأغنية. قد تستغرق الأغنية دقائق معدودة، ولكن يكون وراءها قصص كثيرة متوارية، ومضامين لم تُطرح على المستمع صراحة. 

الأغنية المباشر

هي في الغالب أغنية تصف حبيب أو تحكي قصة ذات بداية ووسط ونهاية لموقف بين مُحبين، أو تحكي عن قصة علاقة. هذه النوعية من اﻷغاني تتكرر مفراداتها وصورها مع تغيُّر أجيال المطربين والملحنين والشعراء. فما زالت الأغاني نفسها تُكتب وتُعاد صياغتها بأشكال مختلفة، وما زالت تجذب الجمهور الذي يسمعها لأنها تعبر عن مشاعر ما.

 هذه الأغنيات الواضحة المباشرة أيضًا قد يكون وراءها قصص أحيانًا غير ظاهرة في نص الأغنية المسموع والمرئي(في حالة الفيديو كليب)، وتتخذ الأخيرة معان مختلفة عند معرفة القصة وراء صناعتها. وعمرو دياب من أكثر المطربين الجماهيرين الذين قدموا أغنيات رومانسية مباشرة، تَكَشَّف لاحقًا أن وراءها قصة وأنها مكتوبة لشخص بعينه؛ كما في أغانيه نور العين وقمرين التي استعان فيهما  تقديمهما بالشاعرين أحمد شتا ورضا أمين -على الترتيب- فى كتابتهما. لكنه لجأ في أوقات أخرى للتصريح المباشر بأسماء أبنائه في أغنيتين لابنتيه كنزي وجانا باسميهما. نجحت الأغنية الأولى"كنزي" لإمكانية تفسيرها بكونها أغنية رومانسية مباشرة لا تحمل مضامين خفية. أما الثانية "جانا" فكانت صريحة ومباشرة في توجهها لشخص بعينه، مما قلل جدًا من فرص نجاحها.

على جانب أخر قد تكون هناك معان الخفية للأغاني غير مخبوءة في الكلمات، بل الموسيقى. فهناك أغنيات ذات كلمات بسيطة وواضحة، يتجاوز المستمع كلماتها للانشغال بموسيقاها التي تحمل المعنى كله، إن كانت مبهجة أو تحمل شجنًا يجافي المعاني الواضحة من كلمات الأغنية. يظهر هذا في أغنية يا حمام لمحمد منير 

غموض السوء

ظهرت العديد من الأغنيات التي تحمل سقطات في صياغة كلماتها لتكوِّن جملا غير مفهومة، ورغم أن الأغنية يمكن أن تنجح لعوامل أخرى كالمطرب واللحن أو التوزيع، إلا أن الكلمات تظل لغزًا حتى بالنسبة لكاتبها نفسه الذي لا يستطيع تفسيرها.

 من أشهر الأغنيات في هذه القائمة، أغنية عودوني لعمرو دياب  التي استعصى حتى على شاعرها عبد المنعم طه تفسير جملة "عشت عمري قبل منك يوم وأما جيتني تاني عشته كله في يوم" الواردة فيها. وتكرر هذا كثيرًا في أغنيات عمرو دياب، كما في أغنية "حبيبي يا عمري" للشاعر بهاء الدين محمد. ربما يعود هذا إلى ظاهرة اللووب Loop التي سيطرت على الأغنية العربية لفترة، وفيها يضع الملحنون الموسيقى أولا، ثم تذهب للشاعر ليكتب كلمات تناسبها، فيهتم الشاعر بالوزن والإيقاع على حساب المعنى. ورغم هذا تنجح هذه الأغاني جدًا. 

وواصل عمرو دياب تقديم أغنيات مثيرة للحيرة أو الجدل، ظهر هذا  في أغنية "يا ريت سنك" الصادرة في ألبومه قبل الأخير، والتي كتب فيها بهاء الدين محمد "ياريت سنك يزيد سنتين، عشان سنك كده صغير، يزيد لكن في تكوينك مفيش ولا حاجة تتغير"، ثم كلمات أخرى تتمنى أن يظل لون وقوام المحبوبة (القاصر غالبًا) كما هو. كُتب كثيرًا عن الأغنية وتلقت انتقادات كثيرة لأن المعنى من وراءها مشجع على حب القاصرات وتمنِّي الارتباط بهن. ولكن امتنع عمرو دياب وبهاء الدين محمد عن التعليق أو التفسير. 

https://www.youtube.com/embed/zV-TdgL9v8U

 

طبقات المعنى

أشهر من قدم أغان تتسم بالغموض هو محمد منير. واللافت أن هذا كان عنصر جذب رئيس في أغنياته بالنسبة لجمهوره الذي يقدر قيمة وجود طبقات مختلفة للمعنى في أغنياته، في كلماتها وموسيقاها، على الأقل في ألبوماته المبكرة. وكانت الكلمات نفسها سببًا في نفور جمهور آخر منه والتقليل من قيمة أغنياته باعتبارها "غير مفهومة". 

تعدد الحكايات أو طبقات المعنى في أغنيات منير تظهر بشكل خاص في الأغنيات التي كتبها الشاعر مجدي نجيب كأغنيات ممكن وشبابيك وحودايت. 

يكتب نجيب شعره كالتجليات، في مقاطع قد لا يصل بينها سوى وحدة الوزن، وأحيانًا يتعين على المستمع لشعره في أغاني منير أن يقسم الأغنية إلى مقاطع كي يستخرج منها معان ما، وقد لا يستطيع أن يصل للمقصود. وفي كل الأحوال يتلقى جمهور منير أغنياته مع مجدي نجيب بتفسيرات متعددة. تعدد تفسيرات المتلقين لشعر نجيب كما في بيت "واشمعنى المعنى بيعرفنى لو باتت في قلوبنا جراح"، لا يعود لضعف في شعريته أو خيارات منير؛ وإنما لجودة الشعر وأصالته التي تجعل من المتلقي شريكًا في إيجاد المعنى وطرح تفسيره الخاص للأغنية.

في لقائه التلفزيوني الذي أذيع في مارس/ أذار الماضي مع الكاتب عمر طاهر، تحدث مجدي نجيب عن أغنية شبابيك التي كتبها هو وغناها منير من ألحان الراحل أحمد منيب. يفسر الجمهور الذي يعرف الشاعر وتجربته الشعرية والسياسية تلك الأغنية بكونها تلخِّص تجربة الاعتقال التي تعرض لها نجيب في الستينات. لكن للشاعر نفسه تفسير آخر كشفه لعمر طاهر، قائلاً إنه كتبها بعد خروجه من المعتقل في عتاب جمال عبد الناصر، الذي شكل له ولجيله أملاً "واللي كان خايف عليك.. انتهى من بين إيديك".

لمنير أيضًا أغنية ناجحة تبدو غامضة، لكن جمهوره شبه مُجمِع عن كونها أغنية تدور حول الموت رغم أنها لا تذكره صراحة. ففي واحدة من مرات تعاونه الأولى مع الشاعرة كوثر مصطفى في ألبوم ممكن، غنى منير "شتا" من ألحان حسين جابر وتوزيع عمرو محمود.

هذا الألبوم "ممكن"، حوى أغنيات أخرى عديدة على نفس الخط. فظهرت فيه ممكن وحواديت وبرج حمام. 

هذه النوعية من الأغنيات لا تزال قادرة على تحقيق النجاح وجذب المستمعين ولكن في أطر محددة. فهي تظهر في ألبومات وحفلات الفرق المستقلة، سواء نالت نصيبًا من الشهرة لدى الذوق العام أو لا تزال تعمل في إطار ساحات مشهد الأندرجراوند. 

ففي البوم وسط البلد الأخير "بنطلوني الجينز"، أصدرت الفرقة أغنية بعنوان "الليل" من كلمات أحمد حامد. يشوب الأغنية كثير من الغموض، وتترك لمستمعها مهمة التحليل إن كانت الكلمات تعبر عن شخص مصاب بالفصام أو الهلاوس أو أنه يغني عن شيطان. وحققت الأغنية نجاحًا ملحوظًا بين جمهور الفريق، خاصة مع لحنها الراقص ذي الإيقاع الشعبي.  

 

ما وراء الأغنية 

على الأغلب تُكتب الأغنية التي تحمل مضامين سياسية ودينية -قد يكون غير مرضي عنها- أو مضامين جنسية، بطريقة التورية، حتى يُخفي ظاهرها ما يمكن أن يريد شاعرها إيصاله فى باطنها غير المباشر، لما قد يتعرض له كاتبها ومغنيها من تضييقات رقابية أو أمنية، أو هجوم في مجتمعات محافظة لا تسمح بتجاوز تقاليدها المستقرة منذ قرون. 

تاريخ الأغنية العربية حافل بالأغاني ذات المضامين الدينية والسياسية والجنسية الخفية. وإن - بحسب الموسوعات التراثية- كان نصيب الأغاني في الجرأة على الجنس والدين أكبر من نصيبها في الجرأة على السياسة. ورغم عجز الوسائط عن حفظ التراث الصوتي لتلك الأغاني والأشعار بالغة القدم؛ إلا أن كتب التراث تحمل الكثير من ذلك التراث مكتوبًا في الشعر والحكايات. وأبرزها مجموع في الموسوعة التراثية الكبرى "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. بينما اجتهد تلاميذ ومحبين للشعر في جمع الأشعار المرفوضة والمنبوذة لشعراء خاضوا في السياسة وهجاء الحكام أحيانًا، ليصلنا طرف منها.

ما يشير إلى أن لجوء السلطات للمنع والقمع قد يحجب الأغاني عن الظهور لبعض الوقت، ولكنها ستجد طريقها لجمهور من القراء أو المستمعين مع زوال أزمنة هذه السلطات. يتعزز هذا الطرح مع وسائل الإتصالات الحديثة التي قد تمنع فيها الرقابة صدور الألبومات في الأسواق، أو تقرر السلطات منع إذاعة أغنيات بعينها أو إنتاج فنان بعينه، لكن الأغاني ستجد طريقها للجمهور عبر منصة مثل يوتيوب. أو ستتوجه للجمهور مباشرة دون مرور بالرقابة أو سواها من الأجهزة التي تفرض وصايتها على الذوق العام، عبر وسائط كيوتيوب وساوند كلاود وآي تونز أو فيسبوك نفسه.   

في السياسة

يمتد تاريخ القمع الفكري والإبداعي على طول التاريخ الدولة في العالم العربي، وصولاً إلى الدول العربية في شكلها وتركيبتها المعاصرين. 

إذا ركزنا على التاريخ الحديث سنجد أشهر حادثة منع هي تلك التي كان أبطالها أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب عقب إنهاء الحكم الملكي في يوليو 1952. وقتها وُصف العامودين الرئيسين للغناء العربي بمطربي العهد البائد، ومُنعت إذاعة أغانيهما في الإذاعة المصرية، إلى أن تمكنا من إصلاح علاقتيهما بالحكام الجُدد لتصدر أوامر بعودة بث أغانيهما من جديد، بعدما بدءا في تقديم أغنيات تتغنى بالنظام الجديد. 

من الأغنيات الشهيرة في التراث العربي المعاصر والتي تحمل في باطنها مضامين سياسية، ترد صريحة أحيانًا وخفية في أحايين أخرى، وتتغير بتغير الأنظمة الحاكمة والظروف السياسية؛ أغنية يا عزيز عيني التي صدرت كثيرًا بنفس اللحن والمذهب. تتغير كلماتها بتغير الظروف السياسية، ويبقى مضمونها ناقدًا للسلطة الحاكمة، حتى لو عمدت للمواراة دون التصريح. 

عزيز عيني هي أغنية فلكلورية ذات بعد رومانسي. سمعها الشيخ محمد يونس القاضي وقرر أن يكتب لها كلمات سياسية على اللحن التراثي نفسه، فكتب على غرارها "يا عزيز عينى أنا بدي أروح بلدي .. بلدي يا بلدي السلطة خدت ولدي"، في الوقت الذي كان يخضع فيه المصريون للعمل بالسخرة من خلال آلية التجنيد الإجباري.

غنتها الست نعيمة المصرية عام 1915، ومن وقتها لم تتوقف الأغنية عن الانتشار والاستعادة في سياقات متعددة، وبكلمات وألحان مؤلفين موسيقيين وشعراء آخرين، فغنتها هدى سلطان والثلاثي المرح وشادية ومحمد رشدي وأخيرا مريم صالح، وكل منهم قدمها بكلمات مختلفة فارق بعضها السياسة، واستعادها البعض الآخر.

لكن الأمثلة الأكثر للأغنيات التي تحوي مغزى سياسي، وحققت نجاحًا لدى الجمهور المُسيَّس أو المهتم بالسياسة رغم أنها غير معروفة لدى جمهور التيار السائد؛ تلك الأغنيات التي ألفها أحمد فؤاد نجم ولحنها وغناهاالشيخ إمام. تحمل تلك الأغنيات الصادر، معظمها في السبعينات، الكثير من التورية والرسائل غير المباشرة، مثل أغنية البتاع التي حوت نقدًا ساخرًا شديد اللهجة للرئيس الراحل أنور السادات وسياساته الاقتصادية التي رأى فيها نجم وإمام وكثير من معارضيه سياسات تتعمد إفقار الشعب.

لم تذكر الأغنية اسم السادات صراحة، ولا حتى ألمحت بأي وصف يدل عليه، وكانت بنيتها ملغزة في تكرار لفظ "البتاع" للدلالة على معان مختلفة، ورغم هذا وصلت الرسالة كاملة.

في أحيان أخرى كان نجم يصرح بالأسماء كما في أغنيات وقصائد جيفارا مات وشرفت يا نيكسون بابا. لكن أغانيه التي تعمدت التورية لا تزال تحظى بالانتشار، خاصة وأنها يمكن أن تنسحب على عصور وشخصيات أخرى. 

قد يكون من الأغنية ما قتل وما سجن مثلما قيل أن من الحب ما قتل، فمن المعروف أن الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم تعرضا للسجن والاعتقال بسبب أغنياتهما السياسية وكذلك حدث مع المطرب والملحن عدلي فخري والشاعر سمير عبد الباقي في تجربتهما الشبيهة - وإن كانت أقل شهرة- من تجربة نجم وإمام. ومن لم يواجه السجن بسبب أغانيه واجه تضييقات أمنية بمنع إصدار الألبومات أو إلغاء حفلات، كما حدث مع حمزة نمرة وكايروكي. بل وهناك أغنيات قتلت أصحابها، ويتردد أن المطربة الراحلة ذكرى قد ماتت بسبب أغنية لها باسم "من يجرأ يقول"، تهاجم فيها الأسرة الحاكمة في السعودية. لا سبيل للتأكد من صحة تلك الشائعة المنتشرة بقوة على الإنترنت، ولكن ظهور تسجيل صوتي للأغنية المذكورة أسهم في دعم هذا الادعاء. 

 ما زالت الأغنية السياسية تقوم بدورها إلى الآن متخفية في إطار خفيف، وانتحال جانب مرح وساخر أحيانًا مثل اغنيتي "بص بص" و"شيكايّو" لحمزة نمرة، الصادرتان في ألبومه الأخير "هطير تاني". حملت الأغنيتان رسائل حول الأوضاع التي تحياها مصر الآن ورسائل للرئيس تشبه تلك الرسائل التي حملتها أغنيات كايروكي ورامي عصام، لكنها أقل وضوحًا وصدامية ومباشرة. 

والجنس

للأغنية الجنسية أو الغزل الصريح، كما يقال عنه، تاريخ طويل في الغناء المصري والعربي. فبالعودة لكتاب الأغاني، وحتى للنسخ غير المُنقَّحة من ألف ليلة وليلة، نجد العديد من الأغنيات (الأصوات) التي تتغنى بجمال المحبوب أو المحبوبة وبالعلاقة الجنسية معه، أو حتى تجنح للفحش في الهجاء

وفي الغناء المعاصر، تحتفظ التسجيلات بالعديد من الأغنيات المُصنَّفَة باعتبارها غناءً فاحشًا. ازدهر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. لكن مع مرور الزمن تراجع هذا الغناء كثيرًا. 

لم تتدخل الدولة في مصر رقابيًا بمنع هذا الغناء، ولكن مع انتهاء عصر الإذاعات الأهلية التي تصل من خلالها هذه الأغنيات للجمهور، وبدء عصر الإذاعة الموحدة - لم تكن مملوكة من الدولة لكنها اعتبرت رسمية-، لم تعد تلك الأغنيات تجد منفذًا للشيوع العام، ورعت الإذاعة النهج المحافظ في الغناء وكانت أم كلثوم جاهزة ليبتلع صوتها كل الأصوات الأخرى في ساحة الغناء النسائي الذي كانت الإباحية تسيطر عليه قبلها.  

لكن انزواء الغزل الصريح والمغازلة في الأغنيات الرسمية جعلها تزدهر في الغناء الشعبي. وبدأت الأغنيات الممنوعة مع نهاية عصر الإذاعات الأهلية تجد طريقها للموروث العام. وصارت الفضائيات والإنترنت ساحة لاستعادة تلك الأغنيات وتداولها من التسجيلات القديمة المُغبَّرة، كأغنية هات الإزازة لنعيمة المصرية التي عادت للإنترنت بعد ما يقرب من 100 عام على صدورها. 

يبقى أن سيطرة المحافظة على الغناء، جعلت المؤلفين والمطربين يلجأون للتورية لطرح أغنياتهم عن الحب والجنس والغواية. ومن أشهر الأغنيات في هذا الإطار أغنية "بعد العِشا" التي تغنت من العديد من المطربات بعد مطربتها الأصلية "منير المهدية".

كما كان للشيخ إمام أغنية سايس حصانك  من كلمات نجيب شهاب الدين. ولكن رغم احتوائها على غزل صريح فعلا "الصدر مرمر والنهود عريانة"؛ إلا أن الإخفاءات في الأغنية عن ما هو حصانك والقوليلة المبخرة وملانة، تحمل تلميحات جنسية خفية لطيفة غير جارحة. كذلك فعلت الشاعرة كوثر مصطفى في أغنيتها ليلة واحدة التي غناها محمد منير وصفت بها ليلة الزفاف و مفاتن المرأة بعدة تشبيهات دون تصريح قد يجلب على رأسيهما النقد وقضايا خدش الحياء العام.

كما كتب الكثير من الشعراء عن العاملات بالجنس التجاري وضحايا هذه التجارة دون تصريح، فغنت فرقة نغم مصري من أشعار أحمد فؤاد نجم "خيال"، ضحية تلك التجارة في الأغنية "يمامة" بها "جراح تحت الجناحين" كذلك صورها الشاعر عصام عبد الله فى أغنية فى قلب الليل لعلي الحجار بالمُهر الذي يحاول إنقاذه ويفشل.

 

والدين

هذا الصنف من الأغاني لا يقترب من الدين ليبتهل إلى الله، أو يمدح الأنبياء والقديسين ويرتجي شفاعتهم ويتغني بمحبتهم؛ بل يسائل كل هذا، ويطرح مفاهيمه المحورية للنقاش. 

الأديان الإبراهيمية- الكبرى كلها تقريبًا تشير إلى اصطفاء الله لمتبعيها، وتفضيله إياهم عن سواهم من البشر. فهم إما "شعبه المختار" أو "خير أمة أخرجت للناس" لكن للأغاني رأي آخر.

في أغنيته اوعى يمينك لسيد درويش التى تقول "لا تقول نصراني ولا مسلم ولا يهودي" وإن اقتصر ذكره للأديان في الأغنية على السماوية منها؛ إلا أنه كان يدعو للمساواة. يتكرر هذا الطرح في كثير من الأغاني كأغنية "من بعيد" لفرقة الحب والسلام، وعم مينا لفرقة وسط البلد.

 لكن هناك تيار جديد من الأغنيات العاطفية الذي يتحدى مسلمات دينية كالعلاقة بين المسلمة والمسيحي، أشهرها أغنية فساتين لمشروع ليلى "تذكري كنتي تحبيني مع إني مش داخل دينك" وتحمل كذلك تورية جنسية "تذكري لما إمك شافتني نايم بتختك". وأغنية أوتوستراد "تروح" التي يقول فيها المطرب لحبيبته "إلك دينك والي ديني" إن "لو تنسي كل شي وتضميني". كما تحدت الراحلة ريم بنا صورة الإله القاهر في أغنيتها "الله أصبح لاجئًا" التي أثارت الاتهامات لاعتبارها إساءة له، لكن ريم وشاعر الأغنية راشد حسين، طالبا الجمهور بالنظر لما وراء ظاهر الأغنية وأن يبحثوا عن المعنى الذي أرادا إيصاله. 

 

تصير الأغنيات مثيرة للجدل أو النقاش إن تركت بابًا مفتوحًا للحوار أو التفكير. وقد يتحول هذا الجدل إﻷى أحد العوامل المؤثرة في نجاح أو فشل الأغنية، وتؤثر في استمرارها في الانتشار أو تدفعها للاختفاء. ويكون القرار لصناع الأغنية بين دخول تحدي في أغنية تحمل وراء سطورها سطورًا خفية، أو الاكتفاء بالأغنية المباشرة والسعي للتجديد بها.