كان ميلوش فورمان يسير في أحد شوارع العاصمة التشيكوسلوفاكية براغ، عندما لمح فتاةً شقراء تسير على الجانب الآخر من الطريق، تحمل بيدها حقيبة سفر ولا تبدو في عجلة من أمرها، حتى أنها تتشاغل عما حولها بالنظر إلى كعب حذائها وكأنها تحاول قتل الوقت. يقترب فورمان من الفتاة ويتجاذب معها أطراف الحديث، فتحكي له الفتاة حكاية عن مدينتها الصغيرة، يتناولها فورمان بعد ذلك في فيلمه "غراميات شقراء" الذي عُرض عام 1965، وهو الفيلم الذي جعله واحدًا من أهم مخرجي "الموجة التشيكية الجديدة" في السينما.
بطبيعة الحال كانت السينما التشيكية، كغيرها من سينمات شرق ووسط أوروبا، تعاني من الهيمنة السوفيتية عليها سياسيًا وثقافيًا خلال حقبة الحرب الباردة، فكانت غارقة في سينما الواقعية الاشتراكية التي فرضتها عليها موسكو، فأبدى أغلب مخرجي الموجة الجديدة في السينما حينها اهتمامًا بالتاريخ القومي، فقدموا أفلامًا تناولت الحقبة النازية وتأثيرها على الأفراد والمجتمع حملت اسقاطات على حال المجتمع تحت الهيمنة السوفيتية، كما فعل التشيكي ييري مينزل في فيلمه "قطارات تحت حراسة مشددة" عام 1966.
إلا أن ميلوش فورمان، الذي رحل عن دنيانا يوم 13 أبريل/نيسان الجاري في إحدى مستشفيات مدينة دانبري بولاية كونتيكت الأمريكية عن عمر يناهز الـ86 عامًا، وعلى عكس أبناء جيله من مخرجي الموجة التشيكية الجديدة، اتجه إلى الواقعية الاجتماعية في مسيرته السينمائية الحافلة؛ التي كان فيها مخرجًا وكاتب سيناريو صنع أفلامًا تُعد علامات في تاريخ السينما التشيكوسلوفاكية والأمريكية على حد سواء، تناول في مُجملها سير أشخاص التقى بهم في حياته العادية، أو استوحي حكاياتهم من التاريخ، ليرسموا جميعًا ملامح سينماه، التي وضعت الفرد البعيد عن السياسة والمنشغل عن الواقع بمشاكله الشخصية في مواجهة مع السلطة.
نظر فورمان بعمق إلى مشاكل هذا الفرد، وعمل على نقد الظروف التي تسببت في الأزمات التي تعرّض لها، مُعتمدًا في ذلك على الرمزية والتلميحات الضمنية كبقية مخرجي الموجة الجديدة، ليصطدم بذلك مع السلطة الحاكمة في ذلك الوقت بشكل آخر.
مراهقة بيتر وغراميات أندولا
يتعرض فورمان في أول أفلامه الروائية "بيتر الأسود"عام 1963، لفترة من حياة مُراهق يدعى بيتر، يقضى فصل الصيف مترددًا على شاطئ البحر وهو يحاول التقرب من فتاة تدعى باولا، إلا أن والده يجبره على العمل في سوبر ماركت لكسب عيشه، فتصبح وظيفته مراقبة الزبائن وإيقاف المشتبه بهم في السرقة.
يستغل فورمان حياة بيتر كغطاء لرصد واقع دولة تتجسس على مواطنيها، وقد ظهر ذلك في بداية الفيلم مع محاولات بيتر الاندماج وسط زبائن السوبر ماركت كأنه منهم، ومراقبتهم دون لفت انتباههم، وتتضح تلك الفكرة أكثر حين يفشل بيتر في اعتراض أحدهم واكتفائه بملاحقته في شوارع المدينة دون جدوى، ليبدأ بعدها الده فى إعطائه دروسًا عن كيفية مراقبة الآخرين والإيقاع بهم، حتى ينال رضى رئيسه في العمل فيمنحه ترقية.
وفي فيلمه "غراميات شقراء" عام 1965، يتناول فورمان حكاية حقيقية عن مدينة صغيرة شمال بوهيميا، تمثل النساء 90% من تعداد سكانها، أغلبهن يعملن في مصانع الأحذية. وقد استوحي فورمان فيلمه من حكاية روتها له فتاة شقراء تعمل بأحد تلك المصانع، وقعت في حب مهندس شاب أتى مدينتها ومنحها عنوانه في براغ بعد ليلة قضياها معًا، ولكن عندما سافرت الفتاة إلى براغ للقائه اكتشفت أنه قد منحها عنوانًا زائفًا.
رغم إخلاصه لروح السيرة الأصلية لصاحبة الحكاية، يجعل فورمان من بطلة فيلمه أندولا فتاة أكثر إصرارًا، تذهب للقاء حبيبها في براغ وتنجح في اقتحام حياته وحياة أسرته، التي تواجه علاقة الحب بينهما بالرفض.
ينتقد فورمان في فيلمه اشتراكية الدولة في تشيكوسلوفاكيا، فيسلط الضوء على سوء التوزيع للسكان داخل المدن، وكذلك حال الفرد داخل تلك المنظومة التي تعامل مواطنيها على أنهم تروسًا داخل عجلة الإنتاج دون اعتبار لأبسط احتياجاتهم ورغباتهم الشخصية، فنجد المشرف على المصنع لتحقيق زيادة إنتاجية، ينظم حفلاً راقصًا يدعو إليه الجنود من خارج المدينة، لرفع الروح المعنوية لعاملات مصنعه بمنحهن رفقه.
يذهب فورمان بفيلمه إلى أبعد من مهاجة السلطة هذه المرة، فيهاجم مجتمعًا بأكمله يعاني ازدواجية في أخلاقه وسلوكياتها؛ فمع تطور حوار والدي الشاب معه، ومع أندولا، يشعر الجميع باختلال منظومة القيم التي يستندون إليها، فينتهي بهم الأمر وهم ينتمون إلى اللاشيء.
حفل رجال الإطفاء ونهاية ربيع براغ
سمة مُميزة للأفلام الروائية التي قدمتها سينما الموجة التشيكية الجديدة وهى النزعة التسجيلية، التي ظهر أثرها في أعمال فورمان الذي عمل في بداية مسيرته الفنية مخرجًا للأفلام التسجيلية؛ فاعتمد فورمان في أفلامه الروائية على الكادرات الثابتة والموسيقي التصويرية في أضيق الحدود، بالإضافة إلى استعانته بممثلين غير محترفين ليضفي مزيدًا من الواقعية على أعماله.
يمنح فورمان دور البطولة في فيلمه "غراميات شقراء" لهانا بريكوفا أخت زوجته الأولى، التي تشاركه بعد ذلك أحد أشهر أفلامه في السينما الأمريكية "Amadeus" عام 1984، أما دوري والد الشاب ووالدته، فمنحهما لعم مدير التصوير ولامرأة التقى بها مصادفة في الحافلة، ولكنه احتفظ بدور الشاب لممثل محترف هو فلاديمير بوخولت، حيث يرى فورمان أن المزج بين المحترفين وغير المحترفين يحافظ على توازن العمل الفني.
يتكرر الأمر حين يذهب فورمان إلى الجبال طالبًا العزلة أثناء بحثه عن فكرة جديدة لفيلمه القادم، فيصادفه ملصق دعائي لحفل يقيمه رجال الإطفاء، يحضره مع صديقيه ياروسيف بابوشك وإيفان باسر وهما كاتبي سيناريو، يدور بعدها نقاش بين الثلاثة حول الموضوع الذي يمكن تناوله من خلال حفل يقيمه رجال الإطفاء ولكن على شاشة السينما؛ حيث يستعين فورمان برجال الإطفاء الذين أقاموا الحفل للعب أدوار البطولة في فيلمه "حفل رجال الإطفاء" الذي صدر نهاية عام 1967.
ورغم أن الفيلم قد عاصر فترة الإصلاح السياسي التي قام بها الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي عام 1968، والمعروفه تاريخيًا بـ"ربيع براغ"، إلا أنه قد تعرض لهجوم شرس من الحزب وقتها، والذي رأى أن الفيلم قد قام بتحليل شريحه مختارة من المجتمع، كعينة للنظام في مجمله.
الأمر كذلك مع منتج الفيلم الإيطالي كارلو بونتي، الذي كان يأمل في فيلم ينتقد النظام الشيوعي مثل "دكتور زيفاجو" الذي أنتجه عام 1965، إلا أنه فوجئ بلغة سينمائية غريبة عليه، فرفض الفيلم وطالب باستعادة أمواله، ليجد فورمان نفسه مهددًا بالسجن.
لم ينقذ فورمان سوى صديقه فرانسوا تروفو أحد رواد الموجة الفرنسية الجديدة في السينما، الذي قام بشراء حقوق الفيلم من كارلو بونتي، فكتب بذلك للفيلم فرصة الخروج للنور في المهرجانات الدولية، خاصة بعد الاجتياح العسكري لتشيكوسلوفاكيا نهاية عام 1968 على يد الاتحاد السوفيتي، وصدور قرار بمنع عرض الفيلم. ليرحل بعدها فورمان إلى منفاه الاختياري بالولايات المتحدة الأمريكية، ويبدأ حلقةً جديدة في مسيرته الفنية.
فورمان يحلق فوق عش المجانين
لم يكن نهاية ربيع براغ هو بداية عهد ميلوش فورمان بالسينما الأمريكية، حيث حقق له فيلمه "غراميات شقراء" الذي عُرض قبل ذلك بعدة سنوات في مهرجان نيويورك السينمائي الدولي، بعض الشهرة داخل مجتمع هوليوود، حتى أن الفيلم قد حصل على توزيع بصالات السينما الأمريكيةوقتها، ونافس على الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي. لهذا فإن هوليود عندما استقبلت فورمان هاربًا من جحيم الشيوعية، كانت تستقبل مخرجًا تعرفه جيدًا، كغيره من صناع السينما القادمين من شرق أوروبا، وفي مقدمتهم البولندي رومان بولانسكي.
حصل أول أفلام فورمان في الولايات المتحدة "Taking Off" عام 1971 على سعفة كان الذهبية، ولكنه في المقابل لم يلقَ استحسان الجمهور الأمريكي وفشل تجاريًا؛ بسبب اتباع فورمان لنفس الأسلوب الذي كان يقدم به الأفلام في وطنه الأم، حيث القصة البسيطة، ومساحة الارتجال التي كان يمنحها للممثلين، بالإضافة إلى النهايات المفتوحة، وهو ما بدا غريبًا بالنسبة للجمهور الأمريكي وقتها.
يتذكر فورمان كلمات ميريام بيلينج مسؤولة العلاقات العامة بالشركة الأمريكية التي اشترت حقوق توزيع "غراميات شقراء"، عندما التقت به في مهرجان نيويورك السينمائي وقالت له: "استمتع بكونك هنا، لكن لا تصَب بخيبة أمل إذا لم تتمكن من الفوز"، ليدرك فورمان وقتها أهمية تغيير أسلوبه ليتناسب مع ذوق المشاهد الأمريكي، إلا أن أثر الموجة التشيكية الجديدة يظل جليًا في أفلامه التي قدمها طوال مسيرته الفنية بهوليوود.
رغم مشاركة فورمان في كتابة سيناريوهات أفلامه التي قدمها مخرجًا بالسينما التشيكية، فإنه كان مدركًا عند وصوله الولايات المتحدة أن حاجز اللغة سيحول دون قيامه بذلك، فلجأ إلى الرواية الآدبية المكتوبة سلفًا بالإنجليزية، وهى ليست فكرة غريبة عن الموجة التشيكية الجديدة، التي اعتمدت منذ نشأتها على الأدب الكلاسيكي والمعاصر كمصدر لأفلامها.
يقدم فورمان عام 1975 فيلم "One Flew Over The Cuckoo’s Nest" (الطائر فوق عش المجانين)، المقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب كين كايسي، والذي يعد انطلاقة فورمان الحقيقية في السينما الأمريكية، بعد النجاح الكبير الذي حققه نقديًا وجماهيريًا، حتى أنه واحد من ثلاثة أفلام عبر التاريخ حققت الجوائز الخمس الكبرى (أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو وأفضل ممثل وأفضل ممثلة) مجتمعة في الأوسكار، إلى جانب It Happened One Night (حدث ذات ليلة) والذي عرض عام 1934، وThe Silence of the Lambs (صمت الحملان) والذي عرض عام 1991.
تأتي شخصية ماكمورفي التي لعبها جاك نيكلسون في الفيلم مشابهة لشخصيات أفلام فورمان بالسينما التشيكية، فيظهر مثلهم لا مبالٍ حيال الواقع، منتمٍ إلى اللا شئ تقريبًا، حتى أنه متهم بإقامة علاقة مع فتاة قاصر، إلا أن تمرد فورمان على السلطة يبدو أكثر شراسة تلك المرة من خلال شخصية ماكمورفي، الذي أظهره مهرجًا بالفطرة ومشاغبًا وضد السلطة بكل أشكالها، ومن الصعب إخضاعه.
وربما يرجع سبب انجذاب فورمان للرواية هو أنها مشابهة لنوعية الأفلام التي قدمها في تشيكوسلوفاكيا، حيث الحس الكوميدي الذي يصل إلى حد الكوميديا السوداء، وكذلك الرمزية والتلميحات ما بين السطور التي تحمل اسقاطًا على المجتمع بأكمله، إلا أن فورمان لم يهاجم سلطة بعينها تلك المرة بل وجهه سهامه لكل نظام ديكتاتوري؛ من خلال الأحداث داخل مصحة الأمراض العقلية التي يخضع جميع نزلاءها للممرضة راتشيد إلا ماكمورفي، الذي يدفع المجانين للتمرد على النظام الذي وضعته راتشيد بالمصحة، فيؤدي ذلك لحدوث صدامات.
في أفلامه التالية يوجه فورمان انتقادات للسياسة الأمريكية، خاصة بعد أن يحصل على الجنسية ويصبح مواطنًا أمريكيًا عام 1975، فيتناول في أكثر أفلامه إثارة للجدل "المجتمع ضد لاري فلينت" The People vs. Larry Flynt عام 1996، سيرة مؤسس مجلة جنسية شهيرة في الولايات المتحدة، وكيفية تعامل السلطات مع محتوي تلك المجلة في ذلك الوقت. يستعرض فورمان من خلال الفيلم مفهومه حول حرية التعبير التي يجب أن يكفلها القانون حتى وإن كانت ضد قيم المجتمع، كذلك يتطرق إلى مسألة الرقابة على المصنفات الفنية التي عانى منها في بداياته كمخرج في تشيكوسلوفاكيا.
الموسيقي في مواجهة السلطة
رغم انتماء فورمان إلى جيل الواقعية التشيكية الجديدة في السينما التي لا نكاد نلمح فيها أثرًا للموسيقى التصويرية، فإن ثلاثيته في السينما التشيكية عكست ولعًا واضحًا بالموسيقي، ربما ليس بالخلفيات الموسيقية ولكن بالموسيقي التي تعزف حية؛ فيفرد فورمان في أول أفلامه "بيتر الأسود" مشهدًا لامرأة تغني بأحد المطاعم التي يجلس بها بيتر مع صديقه، ويُظهر والد بيتر مايسترو لأحد الفرق الموسيقية، وفي فيلمه "غراميات شقراء" تقع البطلة في حب عازف بالفرقة الموسيقية التي تأتي إلى المدينة، كذلك لم تكن الموسيقي غائبة عن الحفل الذي أقامه رجال الإطفاء.
أما عن وصول فورمان إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبدء عمله في مجال السينما هناك، فقد تزامن مع اضطرابات سياسية كبرى؛ حيث حرب فيتنام، ومظاهرات تملأ الشوراع تطالب بوقف التميز العنصري ضد ذوي الأصول الأفريقية، فضيحة رئيس يتجسس على الحزب المُعارض، وأخيرًا جيل الهيبيز وانتشار المخدرات.
دفعت تلك الأحداث بصناع السينما وقتها للاتجاه إلى السينما الواقعية، إلا أن فورمان كان له رآيًا آخر، فيُقدِم على تجربة كوميديا غنائية بعنوان "Hair" عام 1979، مقتبسة عن عرض مسرحي قُدم من قبل على برودواي.
يمكن اعتبار فيلم "Hair" وثيقه هامة أرّخت لفترة الاضطرابات التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت، حيث تناول فورمان من خلاله حكاية كلود الذي يتجه إلى نيويورك وقت حرب فيتنام ليلتحق بالتجنيد، ولكن عند وصوله يتعرف على مجموعة من الهيبيز يقودهم شاب يدعي بيرجر، يحاولون إقناعه بالحياة معهم والتخلي عن فكرة التجنيد.
اختلف رسم فورمان لشخصية كل من كلود وبيرجر، فأظهر الأول ريفيًا ساذجًا بعيدًا عن الواقع ويصدق ما تقدمه وسائل الإعلام من دعاية للحرب، لكنه يكتشف حقيقة ذلك الواقع الزائف من خلال بيرجر وجماعته الثائرة على المجتمع.
وقد حملت الأغاني بالفيلم نبرة انتقاد وسخرية تجاة السياسة الأمريكية، فانتقدت أغنية "I Got Life" (لدي حياة) دولة تقوم بارسال أبنائها إلى الحرب ليعدوا في توابيت، وكذلك أغنية "L.B.J" التي تناولت اغتيال كنيدي ومجيء لندون بي جونسون للحكم، وانتقدت الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيق الفيدرالي، وسط أجواء اعتصام للمطالبة بحقوق الملونين.
يستمر فورمان في مزج الموسيقي بأفلامه، فيعود إلى مطلع القرن العشرين من خلال فيلمه "Ragtime" الذي قدمه عام 1981، والمقتبسه أحداثه عن رواية تاريخية لـ"إي إل دوكتورو"، ليرصد صراع الأمريكيين من أصول أفريقية ضد السلطات التي ترفض معاملتهم كأحرار رغم انتهاء العبودية، وقد جعل فورمان من بطل فيلمه " كولهاوس والكر جونير" عازفًا للبيانو من أصول أفريقية.
يأتي عام 1984، ليقدم فورمان تحفته السينمائية "Amadeus"، المقتبسة عن مسرحية موسيقية لبيتر شافر، ويتناول من خلالها حياة كل من أماديوس موزارت وأنطونيو ساليري، وقد تجاوز فورمان من خلال فيلمه تلك المرة نقطة مهاجمة الأنظمة القمعية، ليتتطرق إلى نوع آخر من القمع يمارسه الإنسان على ذاته قد يدفعه إلى الهاوية وضياع أحلامه. لم يحقق "Amadeus" لفورمان الشهرة والكثير من الجوائز فحسب، بل كان سببًا في عودته مرة أخرى إلى مدينته الأولى براغ، بعد عشر سنوات في المنفى، لتصوير أحداث الفيلم بها.
وبعد مجموعة من السير الذاتية المقتبسة عن شخصيات تاريخية، يُنهي ميلوش فورمان مسيرته الفنية مع فيلمه "أشباح جويا" Goya’s Ghosts الذي قدمه عام 2006، وتناول من خلاله سيرة الرسام الشهير فرانسيسكو دي جويا الذي عاش في البلاط الأسباني نهاية القرن الثامن عشر، ويتعرض فورمان من خلال الفيلم لتلك الفترة من تاريخ أسبانيا التي كانت تخشى فيها من تسرب أفكار الثورة الفرنسية إلى أراضيها، فلجأت إلى محاكم التفتيش لقمع وترهيب مواطنيها، وينتهي الفيلم بدخول نابليون لإسبانيا.