بدا أشبه بكهل منحني الظهر وهو يسير في شوارع العريش حاملا أكياس طعام لأسرته. فقد أحب "صلاح" مدينة رفح كما لم يحبها أحد، فيها وُلِد واهتم بأشقائه لينالوا حظهم من التعليم حتى وصلوا إلى كليات مرموقه، وكذلك أكمل فيها مشواره مع أبنائه حتى طالتهم جميعًا يد التهجير القسري لمراحل المنطقة العازلة على الحدود بين شمال سيناء وقطاع غزة. فتغيّر حاله من صاحب بيت وأراضي زراعية وعزوة قبلية؛ إلى مستأجر في العريش.
قال صلاح "نزحت قسريًا من حى الإمام علي في رفح، وأصبت بالاكتئاب واتخذت قرارا منذ 3 أشهر بالخروج من فيسبوك، فقد صرت لا أتحمل ما أراه من كتابات مزيفة وانعدام وعي بما يحدث في رفح. حتى أنه من المفارقات، أن اتصلت بي شركة الإنترنت تستفسر عن عدم استخدامي الإنترنت رغم أني أقوم بالسداد المنتظم لاشتراك خط هاتفي المفترض أنه في رفح. فقلت للموظفة "نحن نزحنا من بيوتنا. هل تعرفي أين رفح؟ فقالت بلهجة المتأكد (طبعا في العريش). فأدركت أن فكرة التهجير وعدم القدرة على الحياة في رفح لن تصل لموظفي الاتصالات".
جلس "موسى" على مقعد في بيت صديق استضافه بعدما وصل للعريش. بدا بكامل الإنهاك، فإنهاك الانتقال مع أسرته ومنقولات بيته، تلاه شهرين من الجوع وانعدام فرص الحصول على الطعام؛ لم يبد أمرًا مُمِهدًا لرحلة شاقة أخرى للبحث عن بيت في العريش.
لا يزال موسى غير مصدق لواقعه الجديد، فحينًَا يُبدِ راحته إلى وجود أطعمة في العريش، وتارة يستدعي مغادرته لبيته ومزارعه التي يملكها في الماسورة برفح للأبد فيعلو الغم ملامحه.
يقول موسى "لم يتبق خلفي من الأهالي سوى عدد قليل في الماسورة وأبو حلو والحرية، وهم ينتظرون فقط أن تقوم لجنة هندسية من مجلس المدينة بكتابة الأرقام على حوائط بيوتهم، لضمان الحصول على تعويضات مالية لاحقا، و لم تعد لديهم القدرة على الحياة، خاصة مع انعدام وجود الطعام والمياه".
حكى موسى عن شراء مواطن لـ12 جركن بنزين بقيمة 12 ألف جنيه. حيث لا توجد محطات للحصول على وقود لتشغيل مولد كهربائي، ولانقطاع الكهرباء تمامًا في تلك القرى الحدودية. هذه الحاويات باهظة الثمن؛ وُجّهت حمولتها القليلة من الوقود لتشغيل رافعة مياه من بئر جوفي مالحة، حتى يمكن ملئ صهريج أسمنتي يحصل منه أهالي القرية على حاجتهم من المياه التي يمكن الشرب منها بالكاد.
بلهجته البدوية، يسترجع موسى ما يعتبره مشهدًا إنسانيًا مؤثرًا. قال "الجوع دفع بعض السيدات إلى الوقوف أمام إحدى المدرعات، مُعرضات حيواتهن للخطر، طلبن من الضابط بعد توقف المدرعة أن يفتح الطريق لهن ليرحلن من المنطقة نظرًا لانعدام الطعام، فقال الضابط إنه لا يملك قرار فتح الطريق، أو حتى توصيل الطعام لهن، ثم بكى أمام إلحاحهن ولم يستطع فعل شيء سوى جمع الطعام الموجود في المدرعة و إعطائه لهن".
يضيف أنه مؤخرًا وصلت سيارات جهاز الخدمة الوطنية تحمل الأطعمة، لكن حمولتها لا تكفي أمام ساعات الانتظار وطوابير الأهالي الكبيرة التي تنتظر يوميا بدءًا من السابعة صباحًا، مترقبين وصول السيارات على أمل تلقي الطعام.
أما بالنسبة للدقيق، فيتم توزيع شيكارة واحدة ليتقاسمها خمسة أشخاص بواقع 4 كيلو جرامات لكل صاحب أسرة. "ولأن الأهالي هنا يعتمدون على صناعة الخبز في البيوت، فكميات الدقيق الواردة لاتكفي".
ثلاث رحلات فقط لنقل الدقيق قامت بها عربات جهاز الخدمة الوطنية، وبعدها توقف وصول الدقيق، واعتمد الأهالي على البرتقال من المزارع الموجودة بالمنطقة كطعام، أو الأطعمة التي تجلبها سيدات نجحن في الوصول للشيخ زويد بعربات الكارو، الممنوعة أصلا من التنقل وشراء المنتجات الغذائية، يخرجن بها، ويعدن بالطعام بعد رحلة محفوفة بالأخطار.
وعن أجرة النقل، قال موسى إنه اتفق مع سيارتين نصف نقل لأخذه وأسرته إلى العريش مع أثاث البيت بقيمة 1600 جنيه للسيارة الواحدة. أما من يريد أن يصل للإسماعيلية؛ فأجرة السيارة نصف النقل 4000 جنيه. ويقسم أن هناك أُسر تبقت بالمنطقة كونها لا تمتلك ثمن الطعام بالأساس فضلا عن تكلفة نقل الاثاث.
يؤكد موسى أن سكان الماسورة النازحين لم يحصلوا بعد على أي تعويضات لبيوتهم، و هو ما عمَّق من معاناتهم.
بدايات منطقية
قبل أن تعلن السلطات قرارها بترحيل سكان رفح وقراها عن مدينتهم وفرض المنطقة العازلة بين مصر وفلسطين المحتلة، نفذ تنظيم "ولاية سيناء" عشرات الهجمات الدامية فى ربوع رفح، أبرزها الهجوم مسلح الذي نُفِّذ في 5 أغسطس/ آب 2012 ضد جنود مصريين بمنطقة الحرية قرب الماسورة بمدخل مدينة رفح المصرية على الحدود بين مصر وإسرائيل.
عُرِف الحدث إعلاميًا بمذبحة رفح الأولى، وأسفر عن مقتل 16 ضابط وجندي مصري، وإصابة 7 آخرين. ثم نفذ التنظيم نفسه "مذبحة رفح الثانية" على الطريق الدولي لرفح، بعد عام وبضعة أيام من الواقعة الأولى. ففي 19 أغسطس 2013، قام التنظيم الذي كان يحمل وقتها اسم "جماعة أنصار بيت المقدس" هجمة مسلحة أسفرت عن مقتل 25 جنديًا، وإصابة اثنين آخرين.
الشهر نفسه -أغسطس 2013- شهد واقعة أخرى، قام خلالها مسلحون تابعون لانصار بيت المقدس بالإغارة على مئذنة مسجد الماسورة المشرفة على ميدان القرية. هذه الميدان كان ذي أهمية استراتيجية كونه يتقاطع مع الطريق الدولى المؤدي لمعبر رفح.
وضع المسلحون دراجو بخارية ملغّمة بهدف منع الجنود من إعتلاء مئذنة المسجد لمراقبة الطريق. أصاب التفجير مسجد القرية بأضرار دون تأثر المئذنة. وبعد الواقعة، تم تعزيز الميدان و إغلاقه تماما بالمدرعات ليتحول إلى ثكنة عسكرية. وعلى إثر ذلك؛ أغلقت تماما جميع المحال التجارية التى كانت تحيط بالميدان، ما أدى لتراجع القرية اقتصاديا وسكانيا.
كما نفذ تنظيم يدعى جُند الإسلام هجومًا استهدف مبنى المخابرات المصرية في مدينة رفح، أدى إلى سقوط 11 قتيلا وما يزيد عن 17 مصابًا. وفي 16 يوليو/ تموز 2015، استهدف تنظيم ولاية سيناء زورقًا عسكريًا مصريًا بصاروخ كورنيت قبالة سواحل مدينة رفح المصرية.
الحياة في العريش
تدافعت شاحنات تقل النازحين من رفح، خاصة من قرية الماسورة ومحيطها، بعدما تم إخطارهم من قِبَل قوات الأمن بمغادرة المنطقة في أسرع وقت، لتصبح أراضي القرية ضمن مراحل المنطقة العازلة التي تنشئها السلطات المصرية على الحدود مع فلسطين المحتلة.
وبحسب روايات النازحين، فقد عانوا خلال الشهرين الماضيين بسبب نقص الطعام والشراب، وانعدام شبه تام لوسائل المواصلات التي توقفت عن الوصول للقرية ومعها توقفت الإمدادات الغذائية، ما اضطرهم للاعتماد على ما تبقى من طعام، فأكل بعضهم اللوز الأخضر أو البرتقال كطعأم أساسي، ثم نضبت مع الوقت إمكانية الحصول على مياه الشرب.
اقرأ أيضًا: 40 يومًا من الحرب.. كيف يأكل ويشرب أهالي شمال سيناء
تقع قرية الماسورة على بعد 3 كيلو مترات غرب معبر رفح البري والحدود الفاصلة بين مصر وقطاع غزة، وتحدّ الطريق الدولي الرابط بين العريش ورفح مرورًا بالشيخ زويد، ويسكنها حوالي 3 آلاف مواطن. تحيطها من جهة الجنوب تجمعات سكانية منها تجمع أبو حلو، وقرية الحرية التي تنتظر دورها في الإخلاء القسري. ليتبقى من رفح قرية الحسينات، أقرب قراها للشيخ زويد، بالإضافة لجيوب متناثرة من اﻷهالي في أبو شنار والوفاق. فيما اختفت بقية رفح بفعل توسعات المنطقة العازلة، أو هربا من الرصاص العشوائي والقذائف المتساقطة.
فتحت السلطات الأمنية الطريق الدولى استثنائيا للسماح للشاحنات بنقل النازحين من الماسورة، رغم إغلاق الطريق منذ بدء العمليات الشاملة سيناء 2018. ما اعتبره الأهالي إذنا نهائيًا بالرحيل دون عودة. كما تم تزويد شاحنات النقل بالوقود استثنائيا، رغم إغلاق المحطات منذ شهرين تماما في وجه السيارات المدنية.
قرارات الرحيل قسرًا اعتبرها الأهالي قيد التنفيذ عندما مُنِعَت المؤن من الوصول إليهم. فقد تحملوا الرصاص العشوائي وسقوط القذائف طوال العامين الأخيرين ورفضوا الرحيل عن أراضيهم وبيوتهم؛ إلا أن الجوع أجبرهم على الخضوع لقرار التهجير. خاصة مع حاجة أطفالهم للطعام والشراب.
اتخذ بعض النازحين قرار الخروج من شمال سيناء نهائيا، واتجهوا إلى الإسماعيلية حيث سبقهم نازحون من أقاربهم خلال الأعوام الأخيرة، فيما قرر آخرون البقاء في العريش. وغالبية النازحين من قبيلة "الرميلات" أكبر قبائل رفح.
وبدأ تنفيذ إخلاء المنطقة العازلة برفح في 2014 بعد وقوع هجومين لتنظيم "ولاية سيناء" على حاجز "كرم القواديس" جنوب الشيخ زويد. حيث روج الإعلام الرسمي وقتها أن المهاجمين جاءوا من أنفاق على الحدود بين مصر وقطاع غزة وأنهم ينتمون لحركة حماس.
تم تنفيذ الإخلاء على مراحل متتابعة، كل مرحلة 500 متر، وصلت حتى الآن إلى 3 كيلومترات غرب الحدود مع قطاع غزة. ومن المتوقع أن يتم إخلاء بقية المناطق مرحليًا لتصل المساحة المُفرَّغة من السكان إلى 5 كيلو مترات وفقا لقرار مجلس الوزراء المنشورة بالجريدة الرسمية برقم 1957 لسنة 2014، خلال فترة تولي المهندس إبراهيم محلب رئاسة مجلس الوزراء. ويتولى محلب الآن منصب مستشار الرئاسة لملفات التنمية، ومنها ملف تنمية سيناء.
جدير بالذكر أنه تم صرف تعويضات المرحلة الأولى بمبلغ 286 مليون جنيه عن 837 منزلاً. والمرحلة الثانية بإجمالي مبلغ 370 مليون جنيه عن 1220 منزلاً. ومنحت السلطات التعويضات لسكان المرحلتين الأولى والثانية بواقع 1000جنيه عن كل متر أسقف خرساني، و700 جنيه عن كل متر من الأسقف غير الخرسانية. إضافة إلى 100 جنيه، عن كل متر أرض، ومبلغ 1500 جنيه نظير إيجار ثلاثة أشهر. بينما فضل آخرون الحصول على شقة في رفح الجديدة التى تقع عند حدود الكيلو مترات الخمسة التي قررت الدولة إخلاءها قسريًا من سكانها. و يشار إلى أن رفح الجديدة لم يكتمل إنشاؤها بعد.