عالم آخر ممكن.. هذا ما أخبرنا إياه أحمد خالد توفيق

منشور الثلاثاء 3 أبريل 2018

"البذلة الكحلية التي تجعلني فاتنا"، واحدة من العبارات الأكثر شهرة، لرفعت إسماعيل بطل سلسلة د. أحمد خالد توفيق. رفعت، طبيب أمراض الدم، المسن، المدخن الشره، القبيح، الأصلع، الساخر من كل شيء، من نفسه ومن الآخرين. أذلك ما يجعله قويا في مواجهة الحياة كحلقات رعب، كقدر؟

سنوات مراهقتي الأولى.. شك في جسدي، في قدرتي على مواجهة العالم. كان هذا الأحمق المسلي، هو بطلي. أم أن ما كان مبهرًا حقًا هو ما كان يقدمه د. أحمد خالد توفيق عن نفسه ككاتب لا يكترث بصورته؟ هذا عكس كل شيء، عكس كل ما ستقابله. ستتعلم أن سطوة الصورة المقدسة والزائفة للكاتب أهم مائة مرة مما يقدمه فعلا. يسخر د. خالد توفيق من نفسه، فتنشأ الرابطة الأكثر عمقا بينك وبينه، تجعله أقرب إليك كصديق تعرفه. بل وعبره نشأت الرابطة بيننا ككتاب من نفس الجيل، على الأقل نحب الشخص نفسه، تأثرنا بالشخص نفسه، خضنا مغامرات أبطال الكاتب نفسه. تأثيره كان أذكى وأعمق من كتاب أجيال سبقتنا.

على عكس محمود سالم، أديب الناشئة المهم، نقل د. أحمد خالد توفيق هذا النوع من الأدب نقلة نوعية وهامة، فقد أضاف لها ما هو أكثر من التسلية: الخيال اللامحدود، العالم أكبر من ضاحية في المعادي*، أوسع مما نعتقد.

نهمه في القراءة والسينما انتقل إلينا عبر أعماله. احتفائه البارز بالصورة، إدراكه لانمحاء الفارق بين البوب الأرت و"الأدب الرفيع" في التأثير على الوعي وتشكيل المخيلة، ومداخل المعرفة.

ما تعرض له د. رفعت إسماعيل بالضبط: هو حكايات تصله بأشخاص مختلفين في العالم.

على عكس نبيل فاروق، لا نتذكر سلاسل د. أحمد خالد توفيق كخطيئة. رجل المستحيل، وملف المستقبل كانا كذلك؛ نغمة بائسة على شوفينية مصرية، مركزية أسست لعظمة دفينة متوهمة وغير مستحقة، مصر كمركز للعالم، للوعي. هذا تافه. تافه ومضلل. يأتي د. أحمد خالد توفيق ليخبرنا أن هناك عوالم أخرى، سفر، حضارات، ثقافات، بل أكثر من ذلك، أشباح وعوالم خلف ما تظنه قارًا مستقرًا. هذا ثوري جدا، عندما لم يكن لدينا متنفس لرؤية الإمكانيات الحقيقية في العالم إلا عبر ثقب إبرة القناتين الأولى والثانية. فعلها الطبيب الذي يدخن كشاحنة، قبل أن نعرف ذلك عبر الإنترنت والمدونات.

في سلسلته سافاري، يقرر طبيب يشعر بالفشل والضآلة في مصر أن يجرب حظه في الكاميرون، ليعمل طبيبًا مع منظمة تشبه منظمة أطباء بلا حدود، هذا لمحة عن ما يقابله:

"يحكون ــ أولئك (البانتو) ــ عن (روح الأدغال) التى تنتزع الأذرع وتمزق الأقدام.. يحكون عن أماكن محرمة في الدُغل لا يمكن أن يدخلهـا إلا مخبـول.. يحكون عن سحر قديم وعن لعنة دائمة.. وعن أرواح غاضبة.. يحكون وما أكثر ما يحكى (البانتو).. لكن الأمر ــ في هـذه المـرة ــ لم يكن أسـطورة على الإطلاق"

ما يحصل عليه د. علاء عبد العظيم بطل سافاري هو كل شيء: الحب، الحكاية، السحر،  النجاح، القدرة، المغامرة، العالم بلا حدود. ذلك ما كان يخبرنا إياه، على عكس أدهم صبري، أغاني الإذاعة والتليفزيون، خطب الرئيس. يعيد اكتشاف نفسه والعالم قدر حقيقته التي استحقها كإنسان أولا، لا كمواطن مصري يخبرونه عن عظمة متوهمة ويسحقونه بمطرقة الشعور بالدونية. إنه ببساطة ينجح.

أتذكر عمق تأثيره في نفسي عندما استَحضِر ترجمته المختصرة لرواية صورة دوريان جراي لأوسكار وايلد في سلسلة روايات عالمية للجيب، على الأقل أخبرنا في سنوات المراهقة الأولى أن هناك أدب مهم، عميق، تنبيه لما يمكنك الخوض فيه وقراءته خارج كتب المحفوظات. عالم لن نكتفي من استحضار أصوله وقراءته.

سلسلة فانتازيا كانت الأقرب إلى قلبي. بطلتها عبير، البطلة الضد طبعا، التي تفتقر إلى الجمال والثقافة، لكنها تملك أن تخوض مغامرات كبيرة داخل عوالم أدبية وسينمائية وتاريخية عبر هبة التخيُّل. أليس ذلك ببساطة هو الضرورة الأصلية  والأولى للقراءة والسينما. لا يزال عالقًا بذاكرتي رحلتها مع هانيبال، أخيل بطل طروادة، بل وطموحه لعرض فلسفي مبسط في إحدى روايات السلسلة، فلاسفة في حسائي: "عندما يجتمع سقراط وأفلاطون وفيثاغورث وسارتر وشوبنهار في مكان واحد، فلا بد أن النتيجة تستحق المتابعة.. ولكن كمـا أنذرتك مرارًا ـ هذا كتـاب لا يناسب ذوى ضغط الدم المرتفع ولا مرضى المرارة، ولا الذين لا يعنيهم فهم الحياة بل الحياة نفسها".

هذا ببساطة، ما مثله طبيب شاب من طنطا، عالم آخر ممكن، لا نتمركز فيه في حفرة  عطنة نظنها العالم، عالم آخر متسع، لا نهائي، رغمًا عن أنف دولة ستقتل عامدة كل خيال ممكن، أو ستحيله إلى أوهام وكوابيس أكثر رعبًا من "جاثوم" د. أحمد خالد توفيق. بطريقة أو بأخرى: أخبرنا ما لم يقله لنا أحد، لسنا أفضل من العالم، لكن بإمكاننا أن نصير –مجددا- جزءًا منه.