الأمر لا يشبه أن تلتهمَ حفنة من الشطّة الحارّة وتتوقع أن تشعر بطعم حلاوتها، فهو يتجاوز ذلك إلى أنك تشعر بتلك الحلاوة فعليًا وتتلذَّذ بها. تتجاوز المسألة حدود المنطق إلى عكسه تمامًا، ولذا فنحن نقف أمام حالة من تفريغ المعنى.
كنت أفكر في هذا الأمر حين سمعتُ عن أغنية "الكيف" لفريق كايروكي من صديق لي. تعجّب صديقي كيف لم أسمعها أو حتى أسمع عنها من قبل. عندما عرفت بها، كانت الأغنية قد صدرت منذ بضعة أشهر فقط؛ فلم أتوقع أن تحوز ملايين المشاهدات. وفوجئت بأنها تجاوزت 56 مليون مشاهدة على يوتيوب منذ نشرها في 10 يوليو/ تموز الماضي. ويشير هذا إلى أن الاستماع للأغنية ربما صار عادة يومية لدى البعض.
وجدتني أفكر كيف يمكن أن يستقبلها شخص "كيّيف"؟ ماذا ستكون ردة فعله؟ هل يسبّها لأنها قد تُقلِّب عليه مواجعه؟ هل يسمعها متحسرًا نادمًا؟ علّق صديقي بأن بعض "الكيّيفة" يستمعون إلى الأغنية بينما ينتشون بأنفاس الحشيش، ويرددون كلماتها مع مغنّيها، متراقصين على ألحانها.
ما الأسباب التي تجعلهم يستمعون إليها بينما يمارسون عكس مقصدها؟ هل يستمعون إليها لخلق حالة من الاستفاقة والوعي بخطورة المخدرات؟ ربما يستمعون إليها لجلد الذات تحسرًا، ما يعكس وعيًا بمعناها ومقصدها. لكن العكس تمامًا هو الصحيح؛ تُستخدم الأغنية للذهاب إلى مرحلة أبعد من اللاوعي، بالاستعانة بالكيف الذي تحذر منه الأغنية.
إننا هنا أمام حالة من تفريغ العمل الفني من محتواه وما تحمله كلماته وموسيقاه من معان؛ ليتحوّل لمجرد أحرف فارغة متراصة، تتمازج مع جُمل موسيقية متراكبة لخلق حالة أعلى من السُكر وغياب الوعي. هذا الإسهام الذي تقوم به الأغنية مع "الكييفة"، يناقض تمامًا ما تقوله أو تهدف له "يخرب بيتك ياكيف ويخرب بيت معرفتك".
أخذتني الفكرة لاستدعاء كل تلك المرات التي كنت فيها شاهدًا على تفريغ الأعمال الفنية من معناها، إلى درجة وضعها في سياق مناقض تمامًا لما تطرحه تلك الأعمال.
زفة عروس، أم زفة وطن؟
كنت مستلقيًا على فراشي بينما أتابع صوت الــ "دي جي" يخترق أذنيّ، معلنًا عن أغنية "لطفي بوشناق" التي يبكي فيها بكاءً حقيقيًا مُوجعًا وهو يقول "خدوا المناصب والمكاسب بس خلولي وطن" تأتيني عبر حفل زفاف في الجوار. قاومتُ دهشتي ساعتها كي أستطيع تفهّم المنطق الذي توضع به مثل هذه الأغنية في برنامج حفل زفاف، لينقلني المشهد لفكرة تفريغ المعنى ذاتها التي تجعل أغنية "الكيف" مكونًا للشريط الصوتي في جلسة "كيف".
أتخيل الرقص طربًا ونشوة على صوت دموع بوشناق. دعك من الطرح السهل بأننا نتراقص فوق جراحنا وفقداننا لمعنى الوطن وكأنه جلد للذات أو نبش للجراح؛ اللافت هنا هو أن حالة الاستجداء والتوسل حد البكاء ومعنى الخسارة المحققة للوطن، تُستَخدَم في دعم حالة معاكسة، حالة الفرح والبهجة.
إننا نقوم بتفريغ معنى الأغنية الأصلي وحالة بوشناق في أدائها، لنَصُبَّ في الموسيقى معنى مناقضًا تمامًا يدعم حالتنا نحن، وكأننا أمام استخدام شكلي لتميُّز حنجرة بوشناق القوية وضربه الحاد على أوتار عوده، لخلق حدة أكبر تناسب فرحتنا ونحن نتراقص ونتمايل طربًا ونشوة بينما نردد كلمات "خدوا المناصب والمكاسب بس خلّولي وطن"، دون أي اعتبار لمعناها.
الذاكرة تستدعي أيضا الانتشاء الكبير الذي كان يصاحب الاستماع إلى أغنية "جرح تاني" لشيرين عبد الوهاب في حفلات الزفاف، ومن قبلها أغنية "دايما دموع" لحمادة هلال!
كيف يُتصور أن تُسمع مثل هذه الأغنيات بكمّ الحزن الذي تحمله، في حفل زفاف يُفترض أن تكون الفرحة مسيطرة على أجوائه؟
طلقات في صدر المُقَدَّس
إن محاولاتنا لجرح المعنى وتشويهه باستخدامه في غير موضعه ذات باع وتاريخ، وصلت إلى ارتكاب ذلك في حق النصوص المقدسة، ويمكنك رصد ذلك بسهولة حين تقرأ آية "وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا" التي تأتي في النص القرآني في سياق الحديث عما يشهده أهل الجنة من نعيم، ثم تقرأها مُتَصَدِّرة حيطان محلات عصير القصب.
أو حين تقرأ الآية الكريمة "فحملت حملا خفيفا فمرت به"، والتي تشرحها كتب التفسير بأنها تصف حمل حواء حملا خفيفا من ماء آدم، فتقرأها مكتوبة على قاطرة نقل ثقيل كي تصف قوتها وإمكانياتها العالية لحمل الأثقال عليها. أو أن يصل الأمر حد التطرف في استخدام آية "نحن نقص عليك أحسن القصص" على حائط ترزي حريمي يصف مدى إبداعه في قص الفساتين المبهرة. فرغم استخدام المعنى في المثالين الأولين في غير موضعه، إلا أنه يُستَخدَم في إطار قريب للدلالة على معان ترتبط بالشراب والحمل بالفعل. أما في المثال الثالث، فيُستخدَم مجرد التشابه اللفظي بين القص حيث القِصة والقص حيث فعل القص (القطع) كي يناسب هوى الخياط. لكنه على كل حال، لم يصل حد استخدام المعنى في عكسه مثل حالات "الكيف" ودموع بوشناق.
كبسولة حزلئوم ضد الاكتئاب
يتذكر من شاهدوا فيلم "لا تراجع ولا استسلام- القبضة الدامية" رقصة حزلئوم/ أحمد مكي على فراشه أثناء معاناته من حالة اكتئاب عابرة بعد فشله في مهمة عمل. بينما يدخل عليه ماجد الكدواني ليجده راقصًا على ألحان أغنية "الدنيا زي المرجيحة".
حزلئوم وإن كان يقوم بأمر لا يتناسب وحالته المزاجية، لكنه في الحقيقة لم يقم بتجريد الأغنية كليةً من المعنى، فالأغنية تقول أنّ الأيام دوَل. وربما يفسّر رقص حزلئوم أنه محاولة لتخطي الإحباط والاكتئاب والضيق انتقالا للفرح. أما في الحالات التي نحن بصددها؛ فيبدو أننا إزاء محاولات كاملة لتجريد المُنتَج الفني أو العبارات المقدسة من المعنى. وهذا في تصوري -إن كان ثمّة تفسير منطقي له- قد يناسب ما نمر به من فرحة شكلية في أفراحنا، وغياب شكلي عن الوعي في حالات السُكر وتناول المخدرات.
يعبر هذا التجريد عن فشل محاولات الهروب من الواقع الذي يصر على ألّا يفارقنا، بل ويُخرج لنا لسانه معلنا أنه في انتظارنا. إننا أمام استخدام شكلي بلا معنى يناسب حالاتنا الشكلية المفتقدة للجوهر والمعنى.
إن من أهم الصفات الإنسانية إسباغ المعنى على المُجَرّد، باستخدام المنطق والوعي الفردي والجمعي. لكننا هنا أمام حالات تناسب ما نتصوره الآن عن الشخصية المصرية، التي تصرخ صرخة مُتحدية في وجه المنطق والمعنى.